رائحة البحر وسوق السمك – بقلم علي عبد المحسن الجشي

قبل سنين عديدة اشتكى لي صديق تذمره من الرائحة التي عانى منها بعد أن سكن في فلة فخمة على شاطئ كورنيش بحري جميل رائع.

قال إنه لم يستطع تحمل رائحة البحر النفاذة وخاصة مع رطوبة فصل الصيف الشديدة التي تصل إلى نسب مئوية مرتفعة فيصبح الهواء مثقلًا ببخار الماء الذي يحمله فيجعل التنفس ثقيلًا متفاقمًا مع التركيز الشديد للروائح لما في البحر من مواد ومكونات تتسبب في ازعاج شديد لا يناسب البعض مما يجعلهم يشعرون بقرفها وكره مجاورة السواحل، ولا يلامون في ذلك أحيانا.

تابع صديقي تعبيره عن امتعاضه برغبته في بيع بيته الجديد والتخلص منه وسؤالي عن كيفية تحملنا نحن سكان الساحل استمرارية مجاورتنا للبحر والصبر على تحمل رائحته خاصة في ما مضى من الزمان الذي لم يحظى بأجهزة تكييف الهواء وفلترتها.

حاولت حينها أن أجيبه في محاولة لإقناعه عن الإيجابيات الكثيرة للبحار وسواحلها إلا أنه بابتسامته الجميلة المعهودة التي لا تخلو من تعابير التهكم والنكتة هز رأسه بشيء من القبول المشوب بعدم الإقتناع مقترحًا الذهاب في فترة استراحة الغذاء إلى “الدايينغ هول” لتناول وجبة سمك.

الموقف السلبي لصديقي تجاه رائحة البحر بقى في الذاكرة ولم يغب عنها طوال السنين التي مضت لما اثارة من شعور بامتعاضي وكأنه جرح حبيبًا لي بالأستياء منه والتهكم عليه.

ومع هذا بقى عندي شيء من الشعور بالأرتياح لدفاعي عن البحر وسواحله وإحساسي بعلاقة الارتباط الوطيدة بالبحر واستذكار مفاصل ايجابياته المتعددة التي تضفي على المجتمعات الساحلية صفات محببة كالانفتاح الفكري والاطلاع المعرفي والرفاه والأنس وتقبل الآخر والإكتفاء الاقتصادي أو حتى الغذائي الذي يتمتع به سكان السواحل، فمن استطاع اصطياد سمكة ليومه كُفي عوز الحاجة ولم يربط عل بطنه حجر المجاعة.

الحقُ إن البحر حبيب لنا جميعًا نحن أهل الساحل ولكل من جاوره لما له من افضال كثيرة ولما يوفره من موارد غذاء وعقاقير علاج وترفيه نفسي ورخاء اقتصادي، وجغرافيا يسهل البحر بها الإتصال بأصقاع المعمورة.

الا ترانا نحن أهل الساحل عند سفرنا بعيدًا عن مدننا وقرانا إلى أي بقعةٍ في العالم نسأل حال وصولنا إلى مكان سفرنا عن مكان يقدم وجبات سمك وندفع من أجلها أغلى الأسعار وكأننا لم نأكل سمك طيلة حياتنا، رغم إن جودة ما نحصل عليه من سمك هناك لايقارن بوفرة وجودة وتنوع وطريقة طهي الأسماك التي عندنا.   

اصبح رأي صديقي في رائحة البحر محل اهتمامي بسلامة ساحل ديرتي من التلوث الذي هو اساس انبعاث الروائح الكريهة، فالبحر بعكس ما ظن صديقي بريء من الروائح الكريهة براءة الذئب من دمِ يوسف، فالبحار تنتج أكثر من نصف أكسجين العالم وتخزن كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون وتنظّم المناخ وتنظم طبيعة الطقس. إنما علة الروائح الكريهة هو الجور على البحر جهلًا أو اهمالا.

فرائحة البحر تتكون من تفاعلات كيميائية متنوعة لمواد تنتجها الكائنات البحرية والطحالب الممزوجة بملوحة ماء البحر التي عادة ما ينتج عنها روائح عطرية منعشة تأتي مع نسيم البحر الصافي. أما الروائح الكريهة فسببها التحلل الجرثومي للكائنات البحرية النافقة والتكاثر المتزايد للطحالب الضارة وصرف المياه الآسنة ومياه المجاري غير المعالجة بل وحتى المعالج منها حين ترمى قريبًا من الشواطئ وخاصة في السواحل الضحلة.

 عندما كانت سوق السمك في وسط البلد بالشريعة كانت مصدر ازعاج للحارات السكنية المحيطة بها حتى إن رائحة السمك كانت تعلق في المأكول والملبوس، ولم يكن هذا بسبب الأسماك في حد ذاته ولكن بسبب طبيعة السوق التي لم تكن مكيفة وصغيرة، ولا تناسب المتتطلبات التي ترتكز عليها.

اليوم اصبحت عندنا سوق حديثة مرتبة مكيفة نظيفة في منطقة بحرية جميلة وشيئًا فشيئًا بدأت هذه السوق تستقطب المزيد من المتسوقين وعشاق آكلي السمك، إلا إنها في الفصول الصيفية شديدة الرطوبة ومع “الكوس” تصبح احيانًا مصدرًا للروائح الكريهة التي تؤذي مرتادي كورنيش الخامسة وبعض البيوت المطلة عليه وهذا يتطلب الحرص على مداولة الأسماك بالطرق السليمة من ناحية التخزين وكذلك فضلات تنظيف الأسماك والربيان والتخلص من الزائد والفاسد منها بطرق صحية وكذلك الإنتباه والإهتمام بسلامة وصلاحية السيارات الكبيرة والصغيرة التي تنقل الأسماك بحيث لا يسمح لها بالتخلص من ماء الثلج الذي يستخدم في تبريد السمك بتسريبه من صناديق الشحن وتدفقه في الشوارع التي تمر فيها ذهابًا وإيابًا إلى سوق السمك.

يضاف إلى ذلك وجوب  مراقبة المياه التي تصب في البحيرات الضحلة المجاورة وملاحظة تأثير الترسبات الترابية فيها والتي تزيد من ضحالتها مع مرور الوقت ليكون كل ذلك حسب المواصفات المعتمدة من وزارة البيئة، وحتى لا يمتعض أحٌد من أي روائح كريهة قد تنبعث من المياه الساحلية للكورنيش الجميل أو من هذه السوق الحديثة التي اصبحت معلمًا من معالم البلاد التي يشار إليها بالبنان كأكبر سوق سمك في الشرق الأوسط.

المهندس علي الجشي

2 تعليقات

  1. علي حسن المسعود

    نظرة محب للقطيف وبحرها الجميل الذي طالما تغنى به الكثير من محبي القطيف واشير بالبنان بجمال التفاصيل التي اشار اليها ابو حسن الذي يتحفنا بل ينعشنا بكأس افكاره فالبحر لم يتغير وظل كما هو ولكن الناس ومعيشتهم تغيرت واثرت سلبا على البيئه ككل والبحر خصوصا……نرجوا فعلا التعامل مع ما هو موجود في البحر على انه ثروة مستادامه اذا حافظنا عليها وأن تكون سوق السمك عنوان للنظافه والالتزام بها لتكون واجهه للقطيف وجادبه للقادمين اليها……تسلم ابو حسن وسلمت أناملك.

  2. حسن عبدالمنعم آل يحيى

    مقال رائع للأخ أبو حسن كعادته
    المقال يعكس حب الكاتب لوطنه المعطاء كما اعجبني اسلوبه الواضح و المفهوم للجميع في حث القارئ وبطريقة لطيفه وغير مباشرة على أن نحمد الله على هذه النعم فالكثير يتمناها وسبحان الكامل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *