“شلة الوناسة” – بقلم علي الجشي

سافر سعيد خارج البلاد لأمر مستعجل لا يقبل التأخير في اليوم الذي كان مرتبط بموعد مسبق خطط له مع زملاء دراسة وأصدقاء قدامى شدوا الرحال من مناطق عديدة في البلاد لزيارته في مدينته والفرح بهذا اللقاء الموعود الذي ارتقبوه ببالغ الشوق منذ لحظة بزوغ فكرته واقتراحه، ولكن جرت الرياح بما لاتشتهي السفن إذ صادف موعد قدومهم اليوم الذي اضطر فيه لمغادرة المدينة.

ولما لم يكن بالإمكان إعادة جدولة الزيارة والعودة بعقارب الساعة إلى الوراء، أوكل سعيد مهمة استقبال الضيوف الى مجموعة قريبة له من “شلة الوناسة”، وهم اناس مرحين تبدو عليهم سيماء الطيبين وترتسم في وجوهمم جاذبية المحبوبية. يشعر من يقترب منهم بالود وميل النفس إليهم لأنهم لا يجعلون في علاقاتهم مع بعضهم البعض ولا مع غيرهم أي تكلف أو التزام. فهم يظهرون المودة لمن عاشرهم، خالطهم أو مر في سبيلهم، قريبًا كان منهم وفيهم أو بعيدًا لا معرفة له بهم، فالكل في الهوى سوى، إنسانٌ يشم الهواء.

كان سعيد يقضي جل وقت ترفيهه وراحته مع شلة الوناسة ويفضل مجالستهم ومسامرتهم على غيرهم من معارفه وأصحابه، فمع شلة الوناسة يشعر بخفة روح الحياة ورشاقتها، وخلوها من التعقيدات التي لا لزوم لها، لإنهم يؤطرون ردود افعالهم بما لا يشغل بالهم على قاعدة “دع ما يريبك إلى مالا يريبك” و “دع الخلق للخالق” و “لله في خلقه شؤون” و “من تابع الناس مات هما” و “دع المقادير تجري في اعنتها” و “ياداخل البصرة مثلك ألوف” و “ياداخل بين البصلة وقشرتها ما لك إلا ريحتها” و “غدًأ بظهر الغيب واليوم لي”، و “كله ماشي” ، و “كله محصل بعضه” وغيرها الكثير من العبارات المشجعة على اللامبالاة ، فهم نفسيًا لا يميلون للإنضباط والالتزام وعمليًا هم بروغاماتيون يرغبون في تسهيل الأمور وتبسيطها ما وجدوا لتحقيق هذا الأمر من سبيل.

إلا إن هذا المسلك لا يناسب الكل، فلكل إنسان مزاج طبيعي تكون في عجينة سلوكه حين خلطت مكوناتها من محيطة بيئته: عائلة وأسرة وعشيرة وحارة وديرة ومدرسة ونادي ومؤثرين وكتاب وإعلام وكل ما يُسمع ويقرأ ويُرى منذ الوقت الذي استطاع فيه وعيه فهم ما يدور حوله، فتصونجت عجينته بالمؤثرات البسيطة والمعقدة وتسطحت مفاهيمه وتعمقت بمداخل التربية ومخرجات التعليم ليخرج من تنور مخبز عاجنه فطيرة جاهزة بما هيأت له طبيعته وكونته.

اللامبلاة على قاعدة “طنش تعش تنتعش” و “المكتوب عل الجبين لازم تشوففه العين” كلها وصفات تسكينية تؤدي في النهاية إلى زيادة الإستهتار سواء اكان ذلك بقصدٍ أو بدون قصد، وبوعي أو دون وعي يلفتُ إلى التبدلات التي تطرأ على سلوك الفرد  فتتولد سمة اللاجدية وتتفاقم الرغبة في الإتكالية ويتنامى الميل للإستغلال والتنمر فيطغى الإنسلاخ من القيم المثلى على السلوك والتصرفات فتصبح مواجهة الصعاب ثقيلة وإيجاد حلول للمشاكل مستحيلة لتصبح في آخر قائمة اإهتمامات اللامبالين إن كانت هناك ثمة قائمة في قاموسهم.

الرغبة في التوافق مع الجماعة طبيعة بشرية ضرورية لتحقيق السلام مع النفس ومحيطها من عائلة وأصدقاء والمجتمع ككل ولكن يشوب هذه الرغبة مخاطر ومحاذير. تأثير الجماعة على الفرد قوي وضاغط من حيث شعر أم لم يشعر.

خطورة اللامبالة تأتي من استفحال ظلم القوي للضعيف بالغلبة وقبول قاعدة البقاء للأقوى والسمك الكبير يأكل السمك الصغير، وهي شريعة الغاب والبحار والمجتمعات اللامدنية وتخالف التعاليم الأخلاقية والتشريعية التي تنص على “مَنْ ‌رَأَى ‌مِنْكُمْ ‌مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ”.

أما محذوره فمرده للتأثير التدريجي غير المحسوس الذي يأتي شيئًا فشييئا فيكون كنقطة الماء التي تنحت صخرة الجبل فلا يتم الإنتباه في حينه لمدى قوة التأثير الذي يتعاظم مع الزمن والضحية منه في غفلة مأخوذًا بحاجته النفسية والعاطفية ورغبته الآنية في أن يكون ضمن “شلة الأنس” في اوقات يكون فيها محتاجًا للوناسة ولأن يكون مع الجماعة ليستمد منها قوة نفسية أو طاقة اجتماعية،،،

وهنا يقع في المحذور لأن في الجماعة من يتربص للإستحواذ على افرادها وخاصة الحمائم الوديعة منهم الذين لا يملكون طبيعة تصادمية ويميلون للسير مع القطيع على قاعدة القناعة بأن “يد الله مع الجماعة” و “إذا كنت في كل الأمور معاتبا @@@ صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه” و “كن بلسماً إن صار دهرك أرقما @@@ وحلاوة إن صار غيرك علقما” فيتصرفون بضغط الحاجة للتوافق مع الصقور ويتعامون عن احقيتهم في حماية حقوقهم الفردية، ومكتسباتهم الشخصية ويميلون للتبعية في وجود الشخصية الطاغية التي لها “الصدر دون العالمين أو القبر” و “وهو اولًا ومن خلفه الطوفان” و “إِذا ماتَّ ظَمآناً فَلا نَزَلَ القَطرُ ” و “إن لم يكن ذئبًا أكلته الذئاب”، فيعتقد المهيمنون إن الجماعة تدور في فلكهم، ويظن الطيبون إن الأمور على ما يرام وتسير في صالحهم فيستمرون في المهادنة والمسايرة حتى يقعون في حبائل اشراك المتربصين لنيل الغنائم والعبث بمقدراتهم.

وعليه، يلزمُ كل شخصٍ اعتباري العمل بالنفسية التي بنيت بها مكوناتها الطبيعية وفهم ما تستطيعه قابليته ويتلائم مع قدراته العقلية والنفسية والبدنية وفئته العمرية، وأن يجعل من تفكيره مرآة تميز الصالح من الطالح ليسير على هدى ولا يقلد الآخرين تقليدًا أعمى فيفعل ما تفعله الببغاء، تردد الأصوات دون إدراك لمعنى كلماتها، كمن وصفهم الإمام علي عليه السلام “همج رعاع: أتباع كلّ ناعق، يميلون مع كلّ ريح، لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق” بل عليه أن يكون من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ 18-الزمر} فيكون بذلك قادرًا على تمييز الغث من السمين فيما يمر به من احداث ومواقف {كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (الرعد17)}.

 الإنسان نتاج لتكوين فكره الذي يوجه سلوكه المقرر لردة فعله وتحديد إتجاه وتقرير مصيره ليحقق “حياة تسرّ الصديق”.

عندما اضطر سعيد للسفر اخبر شلة الوناسة بالتزامه مع القادمين لزيارته وقضاء أيام في مدينتهم والاستمتاع بجمال وروعة بساتينها، وأطلعهم على برنامج الزيارة، فتعهد نفر منهم بالقيام بالواجب في يوم وصول الضيوف لاستقبالهم وأخذهم لمحل اقامتهم المعد لهم في استراحة المزرعة. لكن سعيد تفاجأ باتصالات هاتفية من زواره الضيوف بأنهم وصلوا  البلدة ولم يجدوا من يستقبلهم -كما أخبرهم- وكانت ليلة جمعة وبأنهم لا يدرون كيف يتصرفون لأنهم لا يعرفون أحد في البلدة.

اتصل سعيد بأصحابه من شلة الوناسة الا أن احدًا لم يرد على مكالماته المتكررة لهم. تيقن سعيد إن شلة الوناسة انشغلوا بأنسهم في أحدى المناسبات لأن اولويتهم فيما يؤنسهم وليس فيما يوجبه عليهم التزامهم و “كلام الليل يمحوه النهارُ”.

لم يجد سعيد بدًا من الاتصال بمجموعة أخرى من اصدقائه القدامى الذين كانوا لحسن حظه متواجدين في البلدة وأخبرهم بالوضع فلم يتوانوا وذهبوا مباشرة إلى المطار الذي لا يبعد عن البلدة أكثر من نصف ساعة حيث وقف الزائرون عند بوابة الخروج حائرين، واستقبلوهم بالفرحة احسن استقبال وقاموا بواجبهم خير قيام.

في اليوم التالي رجع سعيد الى البلدة وقابل ضيوفه الذين ابدوا امتنانهم لما قام به اصدقاء سعيد في استقبالهم وبينوا له طيب معاملتهم وحسن ضيافتهم حتى إنهم ألفوهم ولم يشعروا بغربة في غياب زميلهم سعيد بل اصبحوا اصدقاء جدد لهم. إنها مسيرة الحياة التي يتبدل فيها الأصدقاء والأصحاب إلا ما نذر ولو كان المستحيل ممكنًا لتبدل مكان الأقارب قبلهم.

بعد أن انتهت فترة الضيافة ومغادرة الزائرين، بدأ سعيد في مراجعته للعلاقات الشللية واستخلص من ذلك درسًا مهمًا؛ شلة الوناسة التي كان يقضي سعيد معظم وقته معهم على حساب وقته الخاص ووقت عائلته وعمله ومصالحه من أجل وناسة زائفة، خذلته في موقف بسيط لا يحتاج شيء من التضحية بينما نفعته مجموعة من الأصدقاء القدامى الأصيلين الذين لم يكن يعيرهم كثيرُا من الاهتمام لتجديد وتوثيق العلاقة معهم وزيادة عرى التواصل والترابط معهم، وهم الأصحاب الحقيقيون والأصدقاء المخلصون الذين يستحقون التفاني للإحتفاظ بهم وتقديرهم.

هذه النوعية الأصيلة من الأصحاب، بعكس النوعية النفعية التي هربت وخذلت في ابسط الأمور، تعيد الثقة في النفس، وخاصة إذا اتت بعد خذلان من كان العشم فيهم، فعادةً ما يأتي المد من السماء عندما تكون النية صافية وطيبة ويكون هناك أمل وتفاؤل عند المرء بأن حاجته ستقضى.

إن إحاطة أنفسنا بأشخاص موثوقين اصيلين يخلق حاضر “آمن” ومستقبل أفضل. تبادل الصنيع بالمعروف يبني الثقة ويعزز الإحساس بالذات ويبني المجتمعات.

والثقة تحتاج إلى القدرة على التنبؤ بما سيفعله الآخرون وما هي المواقف التي ممكن أن تحدث معهم. لذلك يجب أن تكون العلاقات مبنية على الثقة الموثوقة التي تزرع الأمل وتجني حصاد العمل. وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.

عندما تثق في الآخرين فأنت تتوقع الاستفادة منهم في تقوية نقاط ضعفك وأن يكونوا لك سندًا وقت العوز – فإن لم يفعلوا ذلك، كانت الثقة في غير موضعها وأعطت نتائج سلبية.

فالتعامل مع الآخرين ليس مجرد منافع مادية ونكات هزلية للضحك والتسلية، فهذه ثقافة لا تصنع مجتمعات ذات نفع وقيمة، فالمجتمع يحتاج لصناعة المعروف بين أفراده ومكوناته بدافع الحب والمودة، فيكونوا متداينين بالمعروف وصنع الجميل فيقوموا بسداده فيما بينهم ويتخذونه دخرًا لمستقبلهم.

ثقافة المعروف وصنع الجميل تجعل البيئة الاجتماعية اكثر انسجامًا ومروءة ومرونة وكفاءة واستقرار وتكافل يساعد الكل من الحصول على ما يحتاجه وقت الحاجة.

المهندس علي الجشي

One comment

  1. موضوع مهم وجميل السرد ومفيد جدا.. وخاصة في زمن “ال الكوفي شوب”.. مأجورين إن شاء لله على النصيحة الطيبة…حفظكم الله ورعاكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *