يتحرك الكون والمجتمع حسب نظام دقيق جدا تحكمه معادلات ذات متغيرات كثيرة. نظريا، لو عرفنا هذه المعادلات قطعا وقسنا جميع المتغيرات بدقة وتوفرت لدينا حواسيب وقدرات فنية مناسبة فسيمكننا التنبؤ بالمستقبل حسب الأسباب الطبيعية، لكن هل نستطيع ذلك؟
يتحرك هذا الكون بطريقة منتظمة ونتيجة اسباب ومعادلات رياضية دقيقة نعرف بعضها ونجهل الكثير منها. لذا يمكننا قراءة المستقبل بالنسبة لخسوف القمر وكسوف الشمس لقربهما منا ولدراستنا الدقيقة عنهما، لكن لا يمكننا التنبؤ بولادة نجم يبعد عنا مليارات السنوات الضوئية نتيجة علمنا المحدود.
هذا النهم المعرفي البشري في اكتشاف المجهول وقراءة المستقبل دفع الكثير من العلوم للتطور ، مثل علم الفيزياء الذي درس المادة من الذرة الى المجرة وقوانينها التي اكتشفها نيوتن وتبعه الكثير من العلماء والتي كشفت معادلات حركة الكواكب والأجرام السماوية. ثم حاول اوغست كونت ان يأتي بعلم يقيس المتغيرات الاجتماعية وسماه فيزياء المجتمع ثم غيّر هذا الاسم الى علم الاجتماع.
وحاول الكثير من علماء النفس دراسة النفس البشرية دوافعها وظروفها. لقد كان الهدف الذي سعت له البشرية من هذه العلوم كعلم فيزياء المادة وعلم النفس وعلم المجتمع وعلم الاقتصاد وغيرهم ان تفهم هذا الكون والمجتمع بدقة حتى تضع الحلول المناسبة للمتغيرات المستقبلية. وكلما غاص البشر اعمق في بحر العلم، اكتشفوا محدودية معرفتهم، فاضطروا لوضع الكثير من الافتراضات التي تبسط المتغيرات الكثيرة لتجعلها في متناول عقولهم وحواسيبهم الآلية.
العلم بين القطع والظن:
حين نقول اننا نقطع بأمر ما، يعني اننا على يقين تام ١٠٠٪ بهذا الأمر. أي أننا نعلم علما واضحا كاشفا عن هذا الأمر بدرجة لا لبس فيها ابدا. هذا العلم الكاشف القطعي يمثل الحقيقة كما هي. هذا القطع يعادل اليقين الذي يتحقق رياضيا بدرجة ١٠٠٪ نتيجة حل معادلات فيها متغيرات يمكن قياسها بدقة ١٠٠٪. هذا العلم القطعي (١٠٠٪) وربما حتى ما يفيد الاطمئنان (٩٨-١٠٠٪ مثلا) معذّر ومنجّز، معذّر للعلماء اي لهم الحق ان يعتذروا و يحتجوا به لإثبات مواقفهم وارائهم، وهو منجّز عليهم اي انهم يستحقون العقوبة ان خالفوه رأيا او فعلا.
في الواقع، هذا العلم القطعي او المطمئن يبقى في دائرة صغيرة جدا في مساحات الحياة الكونية والاجتماعية المتغيرة. لذلك يلجأ الإنسان الى وسائل أخرى تبسط له تعقيدات الحياة فيفترض الكثير من الأمور التي تبسط له المعادلات، فتنتقل النتيجة بذلك من القطع الى الظن (الظن هو الثقة بالنتيجة بنسبة تزيد عن ٥٠٪)، ومع ذلك يقبل بها الانسان لانها هي وسيلته الوحيدة لفهم هذه الامور المعقدة، (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا). ثم تدريجيًا، يتطور العلم قليلا الى الأمام وتنكشف مساحة اوسع ويفهم الانسان متغيرات اكثر ويحاول ان يقترب من القطع قليلا، وهكذا هي مسيرة العلم.
مثال العلم المستحيل حاليًا – معادلة حياة الافراد والمجتمعات:
إن أهم وأقرب شيء للإنسان حياته وسعادته، فهل يستطيع أن يقرأ مستقبله؟ مثلًا: زيد من البشر يولد في أُسرة، ويعيش في مجتمع، ويدرس في جامعة، له اقارب واصدقاء وزملاء واساتذة، ثم يعمل في شركة له مدير وعملاء وموردون، في سوق فيه الاف المنافسين والمشترين وتحكم هذا السوق متغيرات بيئية واقتصادية واجتماعية. يتزوج زيد من امرأة عفيفة ولدت وعاشت ودرست وعملت في ظروف أخرى وضمن متغيرات تحكم عملها. كيف نتنبأ بسعادة هذه الأسرة مستقبلا، وكيف نقرأ مستقبل زيد في عمله ومستقبل زوجته في عملها، بل هل سينتقل زيد وزوجته الى مدينة أخرى للعمل والعيش وما هو مستقبل اطفالهم، وماذا سيكون تخصصهم مستقبلا، وهل سيكونون سليمين صحيا واذكياء ومتميزين او سيكونون ضمن المعدل العام الذي يعيشه الآخرون.
هذا مثال بسيط عن زيد وأسرته. الآن افترض انك كتبت معادلة معقدة تشمل كل متغيرات ظروف حياة زيد وزوجته وأسرته، ثم كتبت معادلة لكل فرد من البشر (سبعة بلايين انسان) فستكون لديك سبعة بلايين معادلة مرتبطة ببعضها، لأن اي انسان في هذا الكون يؤثر في بقية البشر بطريقة تتناسب مع وجوده وظروفه. يبدو الأمر مستحيلا، فحتى معادلة الفرد الواحد وتأثيره وتأثره بمحيطه ومجتمعه لاتزال لغزا يحير العقول، فما بالك بمعادلات تشمل تأثير كل شخص على بقية البشر.
إن قراءة مستقبل البشرية افرادا ومجتمعات يعتمد على بلايين المتغيرات والتي تؤثر في بعضها البعض مما يجعل كتابة معادلات قراءة مستقبل الافراد والمجتمعات شبه مستحيلة، فحتى لو كتبناها فإن ايجاد حلول لهذه المعادلات يحتاج الى دقة قياس المتغيرات النفسية والاجتماعية ومن ثم استخدام هذه القياسات لوزن هذه المعادلات المعقدة، مما يجعل اي حاسوب آلي مهما كانت قدرته يقف عاجزا امام هذا الكم الهائل من المتغيرات والقياسات غير الدقيقة.
مثال العلم الممكن حاليًا – معادلة الهزات الكبرى:
من الواضح أنّ قراءة مستقبل الافراد والمجتمعات بالتفصيل ليست في متناول البشر حاليًا بغض النظر عن سرعة الحواسيب والذكاء الاصطناعي. لكن ليس من المستحيل بل هو من الواجب على البشر حاليًا ان يركزوا على الامور المهمة التي يمكن التنبؤ بها مثل دراسة معادلات الزلازل والبراكين والاعاصير والفيضانات والهزات الاقتصادية والتحولات الاجتماعية الكبرى ومحاولة علاجها وتجنب كوارثها مما يحقق للبشرية السعادة المطلوبة.
ويبقى الحلم البشري ان يتمكن العلم من دراسة الفرد والمجتمع بدقة اكثر مستقبلًا، عسى ان يمكن كتابة معادلة حياة الفرد الواحد ومن ثم معادلة حياة المجتمع، والحمد لله ربّ العالمين.
سبحان الله
{
{يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ}
{وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}
مقال اكثر م رائع
نعم، التنبؤ بالمستقبل امر ممكن بل هو ضرورة علمية للتعامل مع الواقع وهناك امثلة كثيرة في مجالات عديدة كالفيزياء والاقتصاد والطب لتقديم الحلول ووصف العلاج ودرأ المخاطر.
الانسان عاجز عن معرفة علاج امراض مستعصية لأكثر من 100 عام .
الانسان عاجز عن معرفة مايدور في خلايا بدنه ، واي لحظه قد يفاجأ بالم لا يعلم مصدره.
الانسان المعاصر يتوهم أنه يعلم حقائق الاشياء بنسبة 100%.
الانسان لم يحيط بعلم الماديات فما بالك بعلم المجردات.
و فوق كل ذي علم عليم
يبقى الغموض والجهل موجودا مهما وصلنا إلى نتائج يعتقدها العقل مبهرة مقال جميل ويستحق التأمل والوقوف عند كل سطر منه شكرا أبا محمد
مقال جميل شكراً أبو محمد
التنبؤ بالمستقبل بشكل قطعي يكاد يكون مستحيل، لكن ببساطه الأشياء و العوامل الإيجابيه مجموعه تؤشر نحو نتائج إيجابيه – الكره الأرضيه سفينة فضائيه و كل ما يفعله ركابها يؤثر ايجاباً أو سلباً بما يجري عليها و فيها – لكن قياس بارومتري لكمية الأثر بشكل دقيق مستعصي. و قس على ذالك الأمور المتعدده الأخرى
قطعاً أن هناك مبادئ و مثل متى ما تقمصها الإنسان > ولو كانوا قد عرفوا قدره وأطاعوه، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، طاعة ولي الأمر تأخذ بناصية الإنسان إلى الخير – و من يتق الله يجعل له مخرجاً و يرزقه من حيث لا يحتسب، و من يتوكل على الله فهو حسبه قد جعل الله لكل شيئٍ قدرا، ممارسات انعكاساتها إيجابيه دنياً و أخراً – و إن لم يكن لها قياس دقيق لكن التنبؤ نوعي ….لا تعلم نفس ما أخفي لها من قرة أعين – أمور لا يعلمها إلاَّ الله و أوليائه بإذنه
مقالة ناهضة في محدودية العلم البشري بالاضافة لاستخدامه لوسائل حديثة ودقيقة مثل الذكاء الاصطناعي المعتمد على التحليل العلمي للمعلومات المتنوعة والمتعددة.
هذا العلم وغيره محدود النتائج وعاجز عن الوصول للحقيقة.
للوصول للمستقبل ومعرفته ، هنالك علم يسمى (السنن الكونية) والقران الكريم والسيرة النبوية المباركة تحدثت عن ذاك (كتاب السنن الكونية في القرآن الكريم ) للشهيد محمد باقر الصدر قدس سره،