ومضات معرفية من كتاب: الوِثَاق [تاريخ موجز لشبكات المعلومات من العصر الحجري إلى الذكاء الاصطناعي] – ترجمة* عبدالله سلمان العوامي

إسم الكتاب: 
الوِثَاق: تاريخ موجز لشبكات المعلومات من العصر الحجري إلى الذكاء الاصطناعي
Nexus: A Brief History of Information Networks from the Stone Age to AI

تنصل:

هذه الترجمة لا تعبر بالضرورة عن دعم أو رفض لمحتوى المادة المترجمة، بل تهدف بشكل أساسي إلى نشر المعرفة وتوسيع فهم وجهات النظر المتنوعة. قد تتضمن بعض المعلومات عناصر غير مفيدة للبعض أو تتعارض مع معتقدات معينة أو توجهات سياسية لدى البعض الآخر. كما أن هذه الترجمة قد لا تكون دقيقة بالكامل، بل هي محاولة جادة لنقل الفكرة الأساسية والحفاظ على السياق العام للنص. والغاية الأساسية من الترجمة هي توسيع آفاق التفكير، ونقل المعرفة والرؤى والأبحاث في مجالات مختلفة كالصحة، والتقنية، والاقتصاد وغيرها، والتعرف على طرق التفكير الأخرى. هذا يسهم في خلق حالة تثاقف مع الأفكار والمعارف، مما يعزز الفهم العميق للنص ويوفر إمكانيات للاستفادة منها أو نقدها بتقديم ردود ملائمة عليها عند الحاجة.

 تعريف مختصر للكتاب من شركة أمازون (Amazon):

هذا الكتاب يعتبر من الكتب الأكثر مبيعًا في قائمة صحيفة نيويورك تايمز (#1 NEW YORK TIMES BESTSELLER). المؤلف له عدة مؤلفات مشهورة، ومنها كتاب “العاقل Sapiens”، ويأتي هذا الكتاب ليسرد القصة المذهلة حول كيفية بناء شبكات المعلومات لعالمنا وتفكيكها في نفس الوقت.

مجلة الإيكونوميست (The Economist) وصفت الكتاب: “إنها فكرة أصلية مذهلة… لقد نجح المؤرخ وتمكن في استعراض براهينه على مدار آلاف السنين في التقاط روح العصر بشكل مثالي”.

السيد مصطفى سليمان (Mustafa Suleyman)، مؤلف كتاب الموجة القادمة (The Coming Wave) يصف هذا الكتاب: “يأتي هذا الكتاب المهم للغاية في وقت حرج حيث نفكر جميعا في آثار الذكاء الاصطناعي وإنتاج المحتوى الآلي. … بارع واستفزازي”.

على مدى الـ ١٠٠،٠٠٠ سنة الماضية، اكتسبنا نحن البشر العقلاء قوة هائلة. لكن على الرغم من جميع اكتشافاتنا واختراعاتنا وفتوحاتنا، نجد أنفسنا الآن في أزمة وجودية. العالم على وشك الانهيار البيئي. تنتشر المعلومات المضللة بشكل واسع. ونحن نندفع بسرعة نحو عصر الذكاء الاصطناعي – وهي شبكة معلومات جديدة تهدد بفنائنا. بعد كل ما أنجزناه، لماذا نحن مدمرون ذاتيا؟

ينظر كتاب “الوِثَاق” من خلال عدسة طويلة تمتد عبر تاريخ البشرية ليأخذنا في رحلة استكشاف في الكيفية التي شكّل بها تدفق المعلومات عالمنا وأثر علينا. من العصر الحجري مرورًا بتقنين الكتاب المقدس، ومحاكمات السحرة في العصور الحديثة، والستالينية، والنازية، وحتى عودة الشعبوية في يومنا هذا، يدعو المؤلف السيد يوفال نوح هراري إلى التفكير في العلاقة المعقدة بين المعلومات والحقيقة، البيروقراطية والأساطير، الحكمة والسلطة. يستكشف كيف استخدمت المجتمعات والأنظمة السياسية المختلفة عبر التاريخ المعلومات لتحقيق أهدافها، سواء كانت للخير أو للشر. كما يناقش الخيارات الملحة التي نواجهها الآن، حيث يهدد الذكاء غير البشري لوجودنا ذاته.

إن المعلومات ليست المادة الخام للحقيقة؛ كما أنها ليست مجرد سلاح. يستكشف كتاب “الوِثَاق” المنطقة الوسطى المأمولة بين هذين النقيضين، وفي هذا السياق، يعيد اكتشاف إنسانيتنا المشتركة.

مؤلف الكتاب:

السيد يوفال نوح هراري (Yuval Noah Harari) هو من مواليد ١٩٧٦م. هو مؤرخ وفيلسوف وكاتب عالمي مشهور، يُعرف بأفضل كتبه مبيعًا. تتناول أعماله التقاطع بين التاريخ والعلم والفلسفة، مع التركيز على تطور البشرية ومستقبل التكنولوجيا والتحديات التي تواجه الإنسانية. حصل السيد هراري على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة أكسفورد (University of Oxford)، وهو وزميل وباحث متميز في مركز دراسة المخاطر الوجودية بجامعة كامبريدج (University of Cambridge).

لديه عدة مؤلفات وتُرجمت كتبه إلى ٦٥ لغة، وبيعت منها ٤٥ مليون نسخة، وهي:

  1. كتاب: “العاقل: موجز من تاريخ الجنس البشري (Sapiens: A Brief History of Humankind)” والذي صدر في عام ٢٠١٤م.
  2. كتاب:” الإنسان الإله: موجز من تاريخ الغد (Homo Deus: A Brief History of Tomorrow)” والذي صدر في عام ٢٠١٦م.
  3. كتاب: “٢١ درسًا للقرن الحادي والعشرين (21 Lessons for the 21st Century)” والذي صدر في عام ٢٠١٨م.
  4. مبتكر ومؤلف مشارك في كتاب “العاقل: تاريخ مصور (Sapiens: A Graphic History)”: وهو مقتبس جذريا من كتاب ” العاقل” في سلسلة روايات مصورة أُطلقت في عام ٢٠٢٠م، والتي نشرها بالاشتراك مع فناني القصص المصورة السيد ديفيد فانديرمولن (David Vandermeulen) (مؤلف مشارك) والسيد دانييل كاساناف (Daniel Casanave) (رسام).
  5. سلسلة الأطفال تحت عنوان: “نحن لا نهزم (Unstoppable Us)” والتي أطلقت في عام ٢٠٢٢م.
  6. كتاب: “الوِثَاق: تاريخ موجز لشبكات المعلومات من العصر الحجري إلى الذكاء الاصطناعي (Nexus: A Brief History of Information Networks from the Stone Age to AI)” والذي صدر في عام ٢٠٢٤م.

منصة الوميض** (Blinkist) قامت بتلخيص الكتاب في “خمس ومضات” معرفية ، وهي كالتالي:

مقدمة – تحليل دقيق للمعلومات الشبكية:

لقد أرست الألواح الحجرية الأساس لحفظ السجلات والحكم. كما نقلت الكتب القصص والمعلومات إلى ما هو أبعد من التقاليد الشفهية، كما عملت المطبعة على نشر المعرفة على نطاق واسع.

الآن، يتعامل البشر مع أحدث ثورة في المعلومات. مع صعود أجهزة الكمبيوتر (الحواسيب)، وتقنيات الذكاء الاصطناعي، وتمدد الإنترنت، تغيرت شبكات معلوماتنا – وهي في طريقها للتطور أكثر وأكثر. وهذا يثير أسئلة مهمة، ومنها: هل أطلقنا العنان لقوة خارجة عن سيطرتنا؟ وكيف يمكننا التقليل من مخاطرها المحتملة؟

لإدارة هذه التقنيات الجديدة بحكمة، يجب علينا أولاً أن نفهم العلاقة العميقة بين المعلومات والقوة – كيف كانت دائمًا مترابطة داخل الشبكات، وكيف يجب أن توازن تلك الشبكات بين الحقيقة والنظام، وكيف تعيد هذه الثورة المعلوماتية الجديدة تشكيلها. من العصر الحجري إلى البيتكوين، سوف تستكشف في هذا الومضات المعرفية التعقيدات في كيفية توليد الشبكات المعلوماتية للقوة ولماذا يعتبر ذلك مهمًا.

ومضة رقم ١ – المعلومات والسلطة هما كيانان مترابطان:

في عام ١٧٩٧م، كتب الكاتب الألماني السيد يوهان فولفغانغ فون جوته (Johann Wolfgang von Goethe) قصيدة تجسد وجهة نظر ثابتة حول العلاقة بين المعلومات والقوة، تحت عنوان: “تلميذ الساحر”. في القصيدة، يستخدم شاب صغير، يتوق لإثبات نفسه، سحر معلمه لتحريك مكنسة لجلب الماء. لكنه سرعان ما يفقد السيطرة على التعويذة. في حالة من الذعر، يقطع المكنسة إلى نصفين، لكن الشظايا تتحول إلى مكانس أكثر سحرًا. وفي نهاية المطاف، يستخدم الساحر امكانياته لإلغاء هذه الفوضى.

هناك نتيجتان رئيسيتان من هذه القصة. أولاً، يسيء التلميذ استخدام القوة بعد أن يتذوق طعمها، مما يشير إلى أن النفس البشرية تدفعنا إلى إساءة استخدام القوة. ثانيًا، يتدخل الساحر لإصلاح الفوضى، مما يعني أنه عندما نستدعي قوى خارجة عن السيطرة، يمكن لشخصية خارقة أخرى أن تحل المشكلة. لسوء الحظ، فإن كلا الاستنتاجين معيبان. ما دامت البشرية تتبع نموذج “تلميذ الساحر” في القوة، فإننا نسير نحو الدمار.

لقد أطلقت البشرية عددًا لا يحصى من “المكانس المسحورة” مجازيا. لقد أفسدنا المناخ، واستدعينا تقنيات مثل الطائرات بدون طيار والذكاء الاصطناعي، وأشعلنا الأيديولوجيات المدمرة مثل الفاشية – ومع ذلك، نتصرف كما لو أن شخصية ساحر سوف تأتي لتصلح كل شيء. الحقيقة هي أنه لا يوجد ساحر قادم، ولا يوجد شخص أو مجموعة واحدة مسؤولة عن حل هذه المشاكل. ينشأ ميلنا لاستدعاء قوى خارجة عن السيطرة من كيفية تصرفنا مع بعضنا البعض، كجزء من شبكات أكبر.

ولنتأمل هنا دولة ألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين على سبيل المثال. لم يكن كل الألمان فاشيين، ولكنهم كشبكة واحدة دعموا بشكل جماعي صعود هتلر إلى السلطة. وكانت المعلومات دوماً بمثابة الغراء (الصمغ) الذي يربط هذه الشبكات ببعضها البعض، وفي عصر البيانات الضخمة هذه الأيام، أصبح هذا أكثر وضوحاً من أي وقت مضى. ولا شك أن توليد المعلومات ومشاركتها أفاد البشرية: فقد أدى الى التقدم في الطب، على سبيل المثال، وإلى خفض معدل وفيات الأطفال بشكل كبير. ولكن على الرغم من امتلاكنا لكمية ضخمة وهائلة من البيانات، فإننا ما زلنا ندمر المناخ، ونلوث الأرض، وننخرط في الصراعات.

ونحن نقف على أعتاب ثورة تقنيات الذكاء الاصطناعي، فإننا على وشك إطلاق المزيد من القوى المدمرة المحتملة. وهذه ليست مشاكل خلقها كيان واحد، بل شبكات معلومات معقدة. ولكي ننقذ أنفسنا، نحن بحاجة إلى إعادة التفكير في العلاقة بين المعلومات والسلطة التي تمتلكها شركات التقنية. ويجب علينا أن نفهم كيف تعمل الشبكات، وكيف تتحرك المعلومات وتنتقل من مكان الى آخر من خلال هذه الشبكات، وكيف يمكننا توجيهها لاحتواء المكانس المسحورة التي أطلقناها.

ومضة رقم ٢ – نحن متصلون من خلال القصص المتداخلة بيننا:

البشر ليسوا الكائنات الوحيدة التي تتعاون فيما بينها – فالنمل والنحل والشمبانزي يعملون معًا أيضًا. ومع ذلك، في حين أن هذه الحيوانات تبني خلايا أو تصطاد للحصول على الطعام بشكل جماعي، فإنها لا تخلق إمبراطوريات أو ديانات أو أيديولوجيات. إذن، فما الذي يميزنا؟ لقد وهب التطور البشر القدرة على سرد القصص والتأثر العميق بها بشدة. سمحت لنا هذه القدرة على سرد القصص لشبكاتنا بالنمو والتوسع بشكل كبير – متصلة ليس فقط بين شخص وآخر، بل بين شخص وقصة. لم نعد بحاجة إلى معرفة شخص ما شخصيًا لمساعدته أو التواصل معه؛ كان علينا فقط مشاركة نفس السرد، سواء كانت قصة الكتاب المقدس أو قصة الشيوعية.

إذا نظرنا إلى أقوى الشخصيات في تاريخ البشرية ــ الملوك والباباوات والأباطرة ــ فسوف يتبين لنا أن قوتهم لم تستمد فقط من الكاريزما الشخصية. بل كانت تنبع بدلا من ذلك من القصص التي جسدوها. وينطبق الأمر نفسه اليوم على المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة: فهم لا يتواصلون شخصيا مع ملايين المتابعين، لكنهم يمثلون قصصا قوية تحمل علامات تجارية وتتردد صداها عبر شبكاتهم.

هناك ثلاث مستويات من الواقع يجب أخذها في الاعتبار. وهي:

  1. هناك الواقع الموضوعي – الحقائق التي لا يمكن إنكارها في العالم، مثل أن البيتزا تحتوي على حوالي ٢،٠٠٠ سعرا حراريا.
  2. هناك الواقع الذاتي – كيف نختبر العالم بشكل فردي، مثل العثور على بيتزا لذيذة.
  3. هناك الواقع المتداخل بين الاشخاص – القصص التي نتشاركها والتي توجد في عقول المجموعات الكبيرة.

على سبيل المثال، في عام ٢٠١٠م، أنفق المبرمج السيد لازلو هانييتش (Laszlo Hanyecz) ١٠،٠٠٠ بيتكوين لشراء اثنتين من البيتزا. في ذلك الوقت، كانت قيمة ١٠،٠٠٠ بيتكوين تبلغ ٤١ دولارًا أمريكيًا. اليوم (منتصف سبتبمبر ٢٠٢٤)، تبلغ قيمة نفس المبلغ من البيتكوين ما يقرب من ٦٩٠ مليون دولار. قيمة البيتكوين ليست حقيقة متأصلة؛ إنها موجودة لأن عددًا كافيًا من الناس يتفقون على أنها تملك قيمة معينة. هذا هو الواقع المتداخل بيننا كأشخاص.

إننا نحب أن نتصور أن أنظمتنا الخاصة بالنظام الاجتماعي، مثل السياسة والقانون، تستند بشكل كامل على الحقائق والوقائع فقط. ولكنها تعتمد أيضاً بشكل كبير على القصص المشتركة. على سبيل المثال، في حين أن العبودية تُدان عالمياً اليوم، فإن المجتمع الأميركي في بداياته كان مبنياً على الاعتقاد بأن العبودية مبررة. بل إن الدستور الأميركي الأصلي أقرها، إلى جانب إخضاع النساء والشعوب الأصلية.

بالعودة إلى فكرة شبكات المعلومات: قد تشير وجهة نظر تبسيطية إلى أن المزيد من المعلومات يؤدي بطبيعة الحال إلى المزيد من السلطة والحكمة. وتزعم وجهة نظر أكثر تشاؤما، والتي يتبناها غالبا الشعبويون ومنظرو المؤامرة، أن المعلومات سلاح لا ينبغي الثقة فيه. والحقيقة تكمن في مكان ما في المنتصف. فشبكات المعلومات هي أدوات للكشف عن الحقيقة (الواقع) وخلق النظام (من خلال القصص). وعندما تعطي شبكات المعلومات الأولوية للحقيقة على النظام، فإنها تخاطر بزعزعة الاستقرار ــ تماما كما زعزعت نظرية التطور لداروين استقرار المجتمع المسيحي في العصر الفيكتوري. ومن ناحية أخرى، عندما تعطي شبكات المعلومات النظام قيمة أكبر على الحقيقة، فإنها قد تحشد قوة عظمى ولكنها تصبح عرضة للإساءة ــ كما حصل في روسيا الستالينية.

اليوم، تركز بعض شركات التكنولوجيا العملاقة مثل شركة ميتا (Meta) وشركة جوجل (Google) على زيادة السرعة التي تجمع بها الشبكات للمعلومات. ولكن من خلال التركيز على تحسين الكفاءة، فإننا نتجاهل تحديًا أكثر أهمية، وهو: الحاجة إلى إيجاد توازن بين الحقيقة والنظام في هذه الشبكات.

ومضة رقم ٣ – تدفق المعلومات بحرية ليس بالضرورة أمرًا جيدًا:

البشر غير معصومين من الخطأ، ومع ذلك يجب على الأنظمة الشمولية أن تقدم نفسها على أنها لا تخطئ. خذ الكنيسة المسيحية على سبيل المثال: تعتمد أيديولوجيتها على تصحيح خطيئة آدم وحواء الأصلية. وعلى نحو مماثل، تزعم العقيدة الماركسية أن الطبقة العاملة قد تتعاطف عن طريق الخطأ مع مضطهديها، ولهذا السبب تحتاج إلى التوجيه الخيري من قادة الحزب. كلا النظامين يحدد ويقيد تدفق المعلومات، بافتراض أن أتباعهما ليسوا مؤهلين لتفسيرها بشكل صحيح. وإذا كانت المعلومات متاحة بحرية كبيرة في هذه الأنظمة، فقد يتم التشكيك في العقيدة الأصلية أو الكشف عنها باعتبارها معيبة.

ولكن ما هو النقيض لهذا النموذج؟ إنه سوق المعلومات الحرة، حيث يتم الكشف عن الأخطاء واستبدالها بالحقائق. من الناحية النظرية، يبدو هذا مثاليا. دعونا نأخذ في الاعتبار إحدى أهم المحطات في تاريخ شبكات المعلومات: اختراع السيد يوهانس جوتنبرج (Johannes Gutenberg) للمطبعة في منتصف القرن الخامس عشر. قبل اختراعها، أنتجت أوروبا حوالي ١١ مليون مجلدا من النصوص المنسوخة يدويا على مدى ألف عام. ومع ذلك، في غضون ٤٦ عاما فقط من اختراع المطبعة، تم توزيع أكثر من ١٢ مليون مجلد مطبوع.

ولقد أعقب ذلك تحول عميق. فقد انتشرت المعلومات بسرعة، وبدأ الناس يشككون في العقائد الراسخة، الأمر الذي مهد الطريق للثورة العلمية مع تداول مفكرين مثل جاليليو (Galileo) وكوبرنيكوس (Copernicus) لأفكارهم. وكان هذا بمثابة بداية العصر الذهبي للحقيقة والتنوير ــ أو هكذا بدأ الأمر. ولكن تبين أن الأمر لم يكن بهذه البساطة. ففي حين عملت المطبعة على إضفاء الطابع الديمقراطي على المعلومات في نشرها، فقد عملت على إضفاء الطابع الديمقراطي على نشر كل المعلومات ــ سواء كانت صحيحة أو خاطئة.

في الوقت نفسه الذي انتشرت فيه اكتشافات جاليليو حول فوهات القمر بفضل المطبعة، كان نص آخر يكتسب زخمًا، وهو كتاب: (مطرقة الساحرات Malleus Maleficarum)، الذي كتبه السيد هاينريش كرامر (Heinrich Kramer) في عام١٤٨٧م. كان السيد كرامر، وهو محقق دومينيكي، قد طُرد من الكنيسة بسبب سلوكه المتقلب وهوسه بالمؤامرات الشيطانية. وردًا على ذلك، كتب مطرقة الساحرات، وهو دليل لصيد الساحرات، والذي أشعل موجة من مطاردة الساحرات في جميع أنحاء أوروبا، مما أدى إلى إعدام ما يقدر بنحو ١٢،٠٠٠ “ساحرة” – على الرغم من أن بعض العلماء يشيرون إلى أن العدد الحقيقي كان أعلى من ذلك بكثير. ربما حررت المطبعة المعلومات، لكنها لم تضمن انتشار الحقيقة، ناهيك عن النظام.

ولكي تسود الحقيقة، فنحن في حاجة ماسة إلى أكثر من مجرد سوق مفتوحة للمعلومات. ذلك لأن المؤسسات تلعب دوراً حيوياً في ترجيح كفة الحقائق. ولكن المؤسسات ذاتها ليست معصومة من الخطأ ــ فهي تحتاج إلى آليات تصحيح ذاتية. وتقدم لنا الطبيعة هنا تشبيهاً جيداً: فلنتأمل كيف تصحح أجسادنا نفسها بنفسها عندما نتعلم المشي. على سبيل المثال، اكتسبت الكنيسة السلطة بإعلانها أنها لا يمكن أن تخطئ أبداً ــ وهي آلية تصحيح ذاتية بدائية ثبت في نهاية المطاف أنها معيبة. وعلى النقيض من هذا، تستمد المؤسسة العلمية سلطتها جزئياً من استعدادها للاعتراف بأخطائها وتصحيحها.

تنشر المؤسسات العلمية بانتظام أوراقًا بحثية تدحض النظريات السابقة. خذ على سبيل المثال علم تحسين النسل، الذي استُخدِم ذات يوم لتبرير الاستعمار والإبادة الجماعية، ولكن العلم فقد مصداقيته منذ ذلك الحين. وفي مجال الطب النفسي، يتم مراجعة الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية (DSM)، الذي يُشار إليه غالبًا باسم “الكتاب المقدس” في هذا المجال، والذي يصدر في كل عقد أو نحو ذلك ليعكس فهمًا جديدًا.

فهل تشكل آليات التصحيح الذاتي مفتاحاً لتوازن الحقيقة في شبكة المعلومات؟ إنها تشكل أهمية بالغة، ولكنها ليست العامل الوحيد. ففي حين أن هذه الآليات قد تتمكن من تحويل الكفة نحو الحقيقة، فإنها في بعض الأحيان تفعل ذلك على حساب النظام والاستقرار.

ومضة رقم ٤ – تدخل أجهزة الكمبيوتر في شبكات معلوماتنا:

ولننتقل الآن من عصر الطباعة إلى لحظة محورية أخرى في تاريخ المعلومات: اختراع الكمبيوتر (الحاسوب). كانت أجهزة الكمبيوتر الأولى، التي بُنيت في أربعينيات القرن العشرين، عبارة عن آلات ضخمة مصممة لإجراء الحسابات الرياضية. ومع ذلك، تنبأ الرواد مثل السيد آلان تورينج (Alan Turing) بإمكانية تطويرها إلى الحد الذي قد يجعلها قادرة في يوم من الأيام أن تحاكي الذكاء البشري. ومنذ ذلك الحين، أشعلت أجهزة الكمبيوتر ابتكارات رائدة مثل الهواتف الذكية، ووسائل التواصل الاجتماعي، والبلوك تشين، والذكاء الاصطناعي، وكلها تعمل على تغيير طريقة حياتنا بشكل جذري.

ولنتأمل هنا تأثير خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي على السياسة، وخاصة في ميانمار أثناء أزمة الروهينجا. فبعد عقود من الحكم العسكري، بدأت ميانمار في التحول نحو الديمقراطية. ولعب موقع فيسبوك، الذي وصل إلى البلاد قبل فترة وجيزة من التحول، دوراً في هذه الديمقراطية من خلال تمكين الناس من تبادل المعلومات ومشاركتها والوصول إليها والتي كانت خاضعة لسيطرة الدولة في السابق. ولكن إلى جانب صعود الديمقراطية، تصاعدت أيضاً أعمال العنف ضد الروهينجا، وهي أقلية عرقية مهمشة.

لقد شن المتطرفون من جيش إنقاذ روهينجا الأركاني هجمات لإقامة دولة الروهينجا. وردًا على ذلك، نفذت الحكومة والمتطرفون البوذيون تطهيرًا عرقيًا، مما أسفر عن مقتل ما بين ٧،٠٠٠ و٢٥،٠٠٠ من الروهينجا وتشريد ٦٠،٠٠٠ منهم. كان دور فيسبوك في هذه الأزمة مثيرًا للقلق. فقد غمرت الأخبار المزيفة ونظريات المؤامرة والدعاية المناهضة للروهينجا حسابات فيسبوك البورمية. لقد عملت خوارزمية فيسبوك، المصممة لتعظيم المشاركة، على تضخيم المحتوى التحريضي. فشلت خوارزميات المنصة في تعديلها، بل إنها قامت بتشغيل مقاطع فيديو تحريضية معينة تلقائيًا – بما في ذلك مقطع فيديو لراهب متطرف حصل على ٧٠٪ من مشاهداته من التشغيل التلقائي، مما يعني أن المستخدمين لم يحتاجوا إلى النقر لمشاهدة الرسالة الضارة.

إن أزمة ميانمار في عامي ٢٠١٦م و٢٠١٧م تشكل تحذيرا صارخا. ففي ذلك الوقت، كانت الخوارزميات هي التي تحرك تدفق المعلومات بين البشر. واليوم، ندخل عصرا جديدا حيث يمكن للذكاء الاصطناعي التواصل دون تدخل بشري. تخيل هذا: تكتب خوارزمية من الذكاء الاصطناعي مقالا، ثم تشاركه خوارزمية أخرى، وخوارزمية ثالثة تصفه بأنه مزيف، وتقوم خوارزمية رابعة بتحليله واعتباره بداية لأزمة سياسية، وتقوم أنظمة ذكاء اصطناعي أخرى بتفعيل عمليات بيع الأسهم – كل ذلك في غضون ثوانٍ، ودون أي تدخل بشري.

إن أجهزة الكمبيوتر اليوم أكثر تقدماً من تقنيات المعلومات السابقة. فقد كان بوسع لوح حجري أن يسجل الضرائب ولكنه لم يكن قادراً على حسابها. وقد تتمكن المطبعة من نسخ كتاب ولكن لم يكن بوسعها إعادة كتابته. وقد تتمكن الإذاعة من بث الموسيقى ولكنها لم تكن قادرة على اختيار الأغاني. ولكن تكنولوجيا الكمبيوتر تعمل حاليا على تغيير الكيفية التي تعمل بها شبكات المعلومات بشكل جذري ــ ليس فقط الكيفية التي تنتقل بها المعلومات، بل وأيضاً الكيفية التي يتم بها إنشاء المعلومات ومشاركتها وتفسيرها.

ولأول مرة، أصبح لدينا شبكات معلومات لا تتطلب تدخلاً بشرياً. فماذا يعني هذا بالنسبة لقوة أجهزة الكمبيوتر؟ في المجتمعات الرأسمالية، غالباً ما تقاس القوة بعدد الكيانات التي تعمل معك، ومدى فهمك للقانون والشؤون المالية، ومدى قدرتك على الابتكار. وجميع هذه الأمور تستطيع أجهزة الكمبيوتر الآن القيام بها، أو سوف تقوم بها قريباً، بشكل أفضل من البشر. ومع استمرار أجهزة الكمبيوتر في إعادة تشكيل شبكات المعلومات، فإنها سوف تتراكم لديها المزيد من القوة والنفوذ أكثر من البشر.

ومضة رقم ٥ – الذكاء الاصطناعي ثوري. هل هذا أمر جيد؟:

الحركة ٣٧. إذا كنت خبيرًا في الذكاء الاصطناعي أو من محبي لعبة الطاولة الصينية جو (Chinese board game Go)، فأنت تعلم أهمية هاتين الكلمتين. في لعبة جو، يضع اللاعبون الحجارة على شبكة للاستيلاء على منطقة في لعبة تتميز بتعقيد هائل – أكثر تعقيدًا بكثير من الشطرنج. خلال مباراة تاريخية في عام ٢٠١٦م بين كل من: الذكاء الاصطناعي لشركة جوجل (Google)، والمعروف باسم ألفاجو (AlphaGo)، والسيد لي سيدول (Lee Sedol)، وهو بطل العالم في لعبة جو، حيث قام وقتها الذكاء الاصطناعي بحركة أذهلت العالم، وهي: الحركة ٣٧. هذه الحركة الجريئة وغير المسبوقة تحدت قرونًا من استراتيجيات البشر، ولم يتوقعها أحد. ومع ذلك، مهدت الطريق لانتصار ألفاجو (AlphaGo).

الحركة ٣٧ لم تكن مجرد فوز لاعب على آخر. بل مثلت لحظة محورية حيث تفوق الذكاء الاصطناعي على البشر بطريقة غير بشرية تمامًا. بالنسبة للعديد من الخبراء الذين شاهدوا المباراة، أثارت أسئلة أوسع نطاقا: ماذا يعني أن يتفوق الذكاء الاصطناعي ليس فقط على مهاراتنا ولكن أيضًا على فهمنا؟

ولنستكشف هذا الأمر من خلال عدسة تأثير الذكاء الاصطناعي على الديمقراطية. فالديمقراطية، رغم عيوبها، ربما تكون أفضل محاولة للبشرية لإنشاء شبكة معلوماتية تحقق التوازن بين الحقيقة والنظام. وتساعد آليات مثل التصويت والضوابط المؤسسية (مثل النظام القضائي والصحافة الحرة) في الحفاظ على هذا التوازن. ولكن هل يؤدي نفوذ الذكاء الاصطناعي المتزايد إلى زعزعة استقرار الديمقراطية إلى الحد الذي لا يمكن إصلاحه؟ هذا ليس مجرد سؤال نظري ــ فالذكاء الاصطناعي يتخذ بالفعل قرارات بشأن من يُسجن، ومن يحصل على مقابلة عمل، ومن يُقبل في الكلية.

ولنتأمل هنا في قضية السيد إريك لوميس (Eric Loomis) على سبيل المثال. ففي عام ٢٠١٣م، حيث أدين السيد لوميس بالتهرب من الشرطة، وخلال النطق بالحكم، استخدم القاضي خوارزمية ذكاء اصطناعي تسمى كومباس (COMPAS) لتقييم احتمالات عودته إلى الجريمة. واستنادا إلى تقييم الذكاء الاصطناعي، اعتُبِر السيد لوميس “عالي الخطورة” وحُكِم عليه بالسجن ست سنوات، رغم أن السيد لوميس وفريقه القانوني لم يكن لديهما إمكانية الوصول إلى الكيفية التي توصل بها الذكاء الاصطناعي إلى هذا القرار. وقد طعن السيد لوميس في الحكم، بحجة أنه ينتهك حقوقه، لكن المحاكم أيدته.

وهذا الحكم يثير قضية بالغة الأهمية: فنحن لا نعرف كيف تصل خوارزميات الذكاء الاصطناعي إلى استنتاجاتها. فإذا رفض الذكاء الاصطناعي طلب قرضك، فإن أسبابه مخفية وفي “صندوق أسود”. وحتى لو قدم تفسيرا، فمن المرجح أن يكون عبارة عن صفحات من الحسابات المعقدة ــ بعضها يستند إلى عوامل ذات صلة (مثل سجل المدفوعات) والبعض الآخر يعتمد على تفاصيل تبدو غير ذات صلة (مثل وقت اليوم الذي تقدمت فيه بطلبك أو مستوى بطارية جهازك). فكيف يمكننا إنشاء آلية تصحيح ذاتية عندما لا نفهم حتى ما هو الشيء الذي يحتاج إلى تصحيح؟

ومع تزايد غموض قرارات الذكاء الاصطناعي، فقد تتآكل الثقة في الأنظمة الديمقراطية والمدنية. وهذا يخلق أرضًا خصبة للشعبويين ومنظري المؤامرة والقادة الكاريزماتيين لاستغلال حالة عدم اليقين. ونحن نشهد هذا بالفعل في الخطاب السياسي، حيث لا يزال بعض الأميركيين غير قادرين للاتفاق على الحقيقة الأساسية حول من فاز في انتخابات عام ٢٠٢٠م.

ولكن هل الذكاء الاصطناعي مجرد “مكنسة مسحورة” أخرى ــ وقوة خارجة عن سيطرتنا وقد تؤدي إلى انهيار المجتمع؟ قد يجيب المتفائلون مثل السيد راي كورزويل (Ray Kurzweil)، الذي يتوقع أن الذكاء الاصطناعي سيحدث ثورة في التعليم والرعاية الصحية، بل وحتى المساعدة في منع الكوارث البيئية، سيقولون لا. ولكن التاريخ يقدم لنا منظورا أكثر تعقيدا. فخلال الثورة الصناعية، خشي معارضو التكنولوجيا أن تدمر التكنولوجيات الجديدة الوظائف والنظام الاجتماعي. ورغم أن تنبؤاتهم لم تتحقق بالطريقة التي تصوروها بالضبط، فإن الثورة جلبت تكاليف بيئية وبشرية ــ مثل تغير المناخ ــ ونحن ما زلنا نواجه ذلك ​​حتى يومنا هذا.

على مر التاريخ، أعادت التقنيات الحديثة تشكيل شبكات المعلومات البشرية، بدءًا من أدوات الكتابة القديمة في بلاد ما بين النهرين التي سجلت الضرائب ونظمت المدن في الولايات إلى أجهزة الكمبيوتر التي تنتج وتنشر المعلومات الآن بسرعة البرق. ولكن على الرغم من أن هذه الشبكات أنتجت القوة، إلا أنها لم تنتج دائمًا الحكمة. وقد يكمن خلاصنا في إدراك، وعلى عكس تلميذ الساحر، أنه لمجرد أننا نستطيع فعل شيء ما، لا يعني أنه يجب علينا القيام به.

الملخص النهائي:

في هذه الومضات المعرفية من كتاب “الوِثَاق” للسيد يوفال نوح هراري، تعلمت أنه على مدار التاريخ البشري، أنشأنا شبكات معلوماتية تتشابك فيها القوة والمعرفة. لقد أحدثت تكنولوجيا الكمبيوتر ثورة في كيفية بناء هذه الشبكات واستدامتها، لكنها تهدد أيضًا بتقويض آليات التصحيح الذاتي التي توازن بين الحقيقة والنظام. وللتنقل في هذا الواقع الجديد، نحتاج إلى تعميق فهمنا لكيفية تدفق القوة عبر هذه الشبكات وإيجاد طرق للحفاظ على التناغم بين الحقيقة والنظام، وتوفير ضمانات بأن تخدمنا التكنولوجيا دون التسبب في أي أضرار.

*تمت الترجمة بتصرف.

**المصدر: منصة الوميض (Blinkist) وهي منصة تقوم بتلخيص الكتب ، ومكتبتها تحتوي على آلاف الكتب ويشترك في هذه المنصة الملايين من القراء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *