من ثمرات الفلسفة – د. حسين العيسى

قد يُتهّم من يضمن مفاهيم مثل الجوهر أو الماهية في حديثه من قِبل من ليس له أُلفة باللغة الفلسفية، بأنه يعيش في أبراج عاجية، أو أنه يتحدث بلغة ميتافيزيقية لا تمت للواقع المعاش بصلة. 

لا، ليس الأمر كذلك على الإطلاق، وإنما تتفاوت العقول في مستويات إدراكها، فهناك من الموجودات من لا يدرك إلا كل ماهو محسوس فقط، وأما ما يمكن أن يقف وراء هذا المحسوسات من أفكار فلا طاقة له بإدراكها وبمدى أهميتها.  

لنأخذ مفهوم الجوهر مثلاً، ولنحاول أن نبين فيما تكمن أهميته، ولعل خير ما نستعين به هنا هو الرياضيات، فهي خير مايُقرّب الفكرة في مثل تلك المفاهيم المجردة.

لاحظوا، بأنني قد أتصور دوائر كثيرة مختلفة على مستوى المحيط والمساحة، ولكن لا يمكن إطلاقاً أن أتصور أي دائرة منها، دون أن يكون لها مركز، أو نصف قطر؛ وهنا تحديداً تعيننا الرياضيات على التفريق بين ما هو جوهري، وماهو عرضي.

فمفاهيم مثل المركز، ونصف القطر مفاهيم جوهرية للدائرة كوجود، لأن وجود الدائرة ينتفي بانتفائهما من الأساس من جهة، ولأنهما يتحكمان في سائر ما يتمظهر لنا من أعراض الدائرة الأخرى، كمعادلتها أو محيطها أو مساحتها. 

اسأل نفسك، هل يمكن أن تكتب معادلة دائرة من الأساس، أو تحسب محيطها، أو مساحتها من دون مفهوم نصف القطر نفسه. 

الآن، إذا أدركنا معنى الجوهر، فإن ذلك يستحثنا على التماس الأفكار الجوهرية في أي موضوع، لا العرضية منها، لكي تكون أسساً مكينة في مواقفنا، في نقدنا، في تشخيص مع من تكون خصومتنا؟

وللتقريب، فخصومتي ليست مع من يريد أن يطور المكيف من صحراوي إلى سبلت أو من سبلت إلى ماهو أحدث، وإنما مع من يحاول أن يسلب من المكيف فكرة التبريد نفسها. 

وكما سأقف على الضد مع من يسلب من أي وجود خصائصه الجوهرية، فكذلك سأفعل مع كل من يحاول أن يخلع على وجود خصائص ليست من مقومات كينونته، ولا يفرق في ذلك معي من يطالب بشرعية الحديث عن زوايا داخلية للدوائر كما هي للمضلعات، أو من يتحدث عن المطالبة بتشريع الشذوذ.

الدكتور حسين العيسى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *