[هدم السور]
أفعى بسبعة رؤوس؛
خرجت من بين ركام السور المهدوم بعد أن دكت معالمه البلدوزرات التي كنا نسميها “دبابات”.
خبرٌ تداوله الناس في احاديثهم وشاع بينهم، فانتشر انتشار النار في الهشيم. حدثان تلازمان وصارا حديثين اشتغل بهما الناس في حكاياتهم: قص السور وظهور الحية العجيبة.
قيل أنها حيةٌ كبيرةٌ؛
ضخمةٌ ومخيفة، لكنها جبانة؛ اختفت عندما رأت جموع الناس الذين جاؤا لمشاهدة هدم السور، وكانت لهم متعة، متعة التغيير الذي يخلق اجواء تستثير النفس البشرية وتدعوها إلى التحرك والتغيير. وكان الأطفال أكثر استمتاعًا بمشاهدة هذا التغيير، وأكثر قدرة على تسجيله وحفظه في ذاكرتهم. إنها نقطة تاريخية فاصلة في معالم حياة الواحة، طبيعتها، بيئتها وناسها.
من خوفها ودهشتها، رجعت الحية واختبأت في جحر من الجحور اللاتي آوتها بين حجارة السور المليء بالمزابن العميقة وتراب الحجارة العتيقة سنينًا عديدة كثيرة.
الأمن والأمان والألفة والعيش الرغيد مدعاة لحب أرض الوطن وبعث الحنين إليه كما وصف الشاعر:
وطني احبك لابديل @@@ أتريدُ من قولي دليل
سيضلُ حُبك في دمي @@@ لا لن أحيد ولن أميل
سيضلُ ذِكرُكَ في فمي @@@ ووصيتي في كل جيل
عمري سأعملُ مُخلِصاً @@@ يُعطي ولن اُصبح بخيل
وطني يا مأوى الطفوله @@@ علمتني الخلقُ الاصيل
قسما بمن فطر السماء @@@ ألا اُفرِطَ في الجميل
لم يقطع أحدٌ بعدد أعين رؤوس الحية العجيبة المخيفة، لكن المخيلة تتصور اربعة عشر عينا؛ عينان في كل رأس.
وبقى الناس ينتظرون طلتها ثانية وهي تنظر بأعينها العديدة في استغراب ودهشة وحذر لما يجري حولها من تغيير وتبديل، مستوجسة من البشر الذين خافتهم وارتعبت منهم بأكثر مما خافوها وارتعبوا منها، ولكن إن كان للحية حيلة فطرية فعقل الإنسان يبتكر الحيل ويطور الأساليب ليتعامل مع ظروفه القاهرة.
بين كل عدوين تبادل رعبٍ سرمدي، صولات وجولات معارك يظهر فيها رعب الطرف الأقوى أوضح وأكثر فجاجة، وخوف الضعيف أمر وأصعب وأكثر هاجسا.
وإذا استمر هذا الصراع بين المتضادين المتقابلين دون انسحاب أو استسلام أحدهما أو التخلص منه، يبقي الرعب والتوجس والحذر خندقًا فاصلاً بينهما حتى يُؤدنُ بالصلح أو تسود الهدنة للتعايش أو يُقضى أمرٌ كان مفعولا.
سمُ الأفعى قاتل ولفتها خانقة تحبس الدمَ في العروق ويصعب الخلاص منها. على الجميع الإنتباه وأخذ الحيطة والحذر وإن لم يُتيقن من حقيقة هذه الحية.
أواقع هي أم خيال؟ لم تُشاهد برؤية العين، لكنها سكنت مخيلة الناس ولم تفارقها، ومع الوقت والتكرار، رسخت في العقول فتصوروها حقيقة وإن شابتها الظنون وحامت حولها الشكوك.
عدم منطقية نفي ما لا نعلم وأن “كل شيء ممكن” تعطي “نظريات المؤمرة” حيزًا لها في عقول الناس ووجدانهم، وسبب ذلك نقص المعلومات وغياب المعطيات والجهل بالملابسات، فيتم تبرير الأحداث بما تهوى النفوس وتفسيرها بما يثير الشكوك ويقويها، وتبني رغبات نتوق إليها بنسج صور في عالم خيالنا تريحنا ونتفاعل معها.
يحفل تراث الشعوب بكثير من قصص الخيال والأساطير التي أخذت شهرتها مثل اسطورة الحية أم السبعة رؤوس التي ينكرها العارفون. من المحتمل أن يكون للحية رأسان، كما في حالات نادرة للتوائم الملتصقة، ولكن لم يثبت وجود حية بسبعة رؤوس. ومثل الحية هناك السنور ابو سبعة ارواح! فلماذا سبعة (7)؟
رمزية الرقم (7) قديمة في الدين والفلسفة والأساطير والخرافات القديمة التي تعتبرها دلالة للأمور الحيوية والعجيبة، فهناك السبع المثاني والسموات السبع والأرضون السبع والقارات السبع وعجائب الدنيا السبع، والأمثلة كثيرة ومعروفة والقائمة طويلة يصعب حصرها ويطول شرحها، كما اعطى فيثاغورس (الرقم 7) رمزية خاصة بسبب اتحاد الرقم (4) المادي مع الرقم (3) الروحي. أما المصريون القدماء فجعلوه رمزًا للأبدية.
تضخم الأساطير القديمة شأن الحيايا وتعظم قدراتها واساليبها وتصبغ عليها صفة الذكاء، وتجعلها رمزًا للشفاء والخصوبة ومُخلِدة لأرواح الأسلاف والقديسين، وواسطة لاستدعاء الأمطار وزيادة محاصيل الحقول، ورابطًا بين خلق البشر والأرض، ففي الأساطير الصينية: “نوا” أفعى لها رأس امرأة خلقت البشر من طين، واحدًا بعد آخر.
تبتكر المجتمعات قصص خيالية تصبغ ثقافتها بالخرافة التي تخلق اشياء ووقائع لتصورات ومحض تكهنات. هناك راعية البيت (جنية تعيش مع سكنة الدار، تُستشعر ولا تُرى) ؛ وتوزيع العذرة (طبق من الرز يوضع في زوايا الساحات والطرقات للوقاية من العين والأجناس الخفية وإبعاد الشر والضر) ؛ وكسر البيض ، وكت ماي الشكر (السكر) على الأرض، وهناك عادة ذبح الدجاج والخراف قبل البدء في إنشاء قواعد بيت جديد؛ وربط التعويدات في الزند والرقبة.
كل هذا بقصد به تخفيف وطأة الخوف من ضرر المجهول الذي لا قدرة للإنسان على مواجهته. في البلاد التي نعمت بالعلم والمعرفة والطاقات والقدرات يؤخذ المرضى للعلاج في المستشفيات، أما في المجتمعات القاصرة فملاذهم المشعوذون والمرتزقون بجهل الناس.
يستحوذ الخيال على العقل ويلعب دورًا فعال في تشكيل افكار وترسيخ قناعات البشر. ليس كل ما نعتقده حقيقة وليس كل ما لا نستوعب وهم. هناك مزيج منهما، لكن المدارك لا ترغب في التمييز بين الفروقات، لأن ذلك يخلق فراغ باليقين ينهك العقل في رحلة البحث عن الحقيقة ويتعب الروح التي تبحث عن سر ما يدور حولها وتحاول جاهدةً إيجاد اجوبة ناجعة وتفاسير مقنعة عن اشياء تجهلها. العلم نور والجهل ظلام.
تُستلهم الروايات سردياتها من الخيال؛ تتحدث عن قدرات خارقة لشخصيات بطولية واحداث غير عادية تثير اعجاب الأطفال، وتحفز فضول خيال الكبار. يستأنس العقل البشري بالتفكير والتلاعب بالمفاهيم ليواجه بذلك التحديات ويتغلب على المعوقات ويبطل مفعول المثبطات ويتجاهل المحبطات.
يستجيب الخيال للدوافع العاطفية التي ترضي النفس وتستحضر ما تتوق إليه، وتبلور الأفكار وتبتكر أشياء رائدة تساعد في تحقيق الطموح.
تسرد الروايات القصص المدهشة التي لم يخلو منها العالم يومًا من الأيام بما في ذلك “ألف ليلة وليلة” و “علاء الدين والفانوس السحري” خيالات وأوهام نتماهى معها ونميل لجعلها حقيقة، فتصبح من نسيج قناعاتنا فنعتقد إنها تفسر ما نجهل وتعلمنا مالا نعلم، فنحل بها المشاكل التي تفوق قدراتنا على استيعابها وحلها اعتمادًا على قوة لا نمتلكها أو منطق لا نحيط بمفاهيمه، فنلجأ للرواية التي تمازج شيء من الحقيقة بالكثير من الخيال؛ خيال يميز الإنسان عن غيره من سائر المخلوقات ويمنحه القدرة على التفكير.
أخافت ضوضاء البلدوزرات الحية، أو ربما اخافها الضوء الذي لم تتعود عليه في جحورها المظلمة بين حجارة السور الأثري الضخم قبل هدمه. أعشى النور أعين رؤوسها السبعة واذهلها الواقع الجديد، وأخافتها الحشود التي اجتمعت لتشهد عملية الهدم، أو ربما أنها لا تريد أن تخرج من جحرها الآمن الذي عاشت فيه مايزيد عن 1600 عام، ففضلت أن تعود لتختبئ فيما تبقى من السور المهدوم ما بقي من عمرها إن امكنها ذلك.
كل ما قيل عن الحية افتراء من نسج الخيال، ربما كان المراد منه إبعاد الفضوليين عن مكان الهدم خوفًا على سلامتهم؛ كيلا يتعرضوا لإصابات الأحجار المتساقطة. أو ربما كان السبب الخوف من المجهول الذي البسوه الحية بصورها المليئة بالعجائب، فهي التي جعل السحرة منها خديعة ارهبت أعين الناس وهي التي أخرجها موسى لتبتلع ما يأفكون.
كل تفسيرات الخوف احتمالات تختلف مسبباتها باختلاف قبول الناس لها ومباركتهم فحواها وتأييدها، أو رفضها ومعارضتها.
هدموا السور فهتكوا سترنا؛ قالت أحداهن وهي مكتئبة. مملكتهم داخل السور. كل ما هو خارج السور لا يناسبهم. القاطنون خارج السور لهم عالم آخر. إنه الخوف من التغيير الذي يأخذهم إلى ما يجهلون، فالطفل يبكي حين ولادته لأن عوالمه اختلفت من رحم أمه المظلم الذي وفر له حياة دون عناء إلى عالم مليء بالمتطلبات والتحديات والصراعات ؛ يسحق القوي فيه الضعيف ويستحكم الأعلى بالأدنى، والسمك الكبير يأكل السمك الصغير.
هدم السور ازال العتمة وأتى بالضوء والتطور؛ قال شاب بابتهاج. إنها الرغبة في التغيير والتطلع للأمام. لكل رؤياه حسب واقعه وفكره ورغباته وهواه. هذا هو الحال في الحكم على الأمور أو الموافقة مع شيء يتتطلب اتخاذ قرار. كل يغني على ليلاه، وليلى على بلواها تغني.
خرجت الحية من السور فأدهشت واندهشت. خافت ورجعت إلى جحرها، وأخافت من سمع عنها ولم يرها وجعلته يتحسس ويترقب من مباغتتها. الخوف مما هو قادم مرعب، وهمٌ كان ذلك أم حقيقة.
ليس الحيايا القابعة في جحورها فقط هي من لا تحب التغيير. الإنسان هو الآخر لا يرغب فيه فيقبع في منطقة الراحة. إنها العادة الني تخلق الطباع فتجعلها لا تطيق التغيير ولا تتقبله، إلا إذا عودت نفسها الخروج من قواقع الظلمة لمواجهة الصعاب والأخطار التي تملأ الفضاء المفتوح.
أدهشنا خبر الحية، لكننا لم نكن ندرك، نحن الصغار حينها، إننا شهود على بداية تغيير جذري لمعالم منطقة من اقدم مناطق العالم الآهلة بالسكان تأصلت جذورها وترسخت قيمها في اعماق حضارات امتدت طوال 5000 إلى 7000 عام. رأينا السور يهدم بأم اعيننا وعشنا التغييرات الهائلة المتوالية التي بدلت معالم الواحة الخضراء.