رغم تعدد وكثرة لغات الأمم والشعوب على هذه البسيطة وتنوعها واختلاف طبيعاتها، إلا أنها تلتقي على صعيد واحد، فهي عبارة عن إصدارات صوتيه منتظمة مركبة تصدرها أعضاء فسيولوجية بشرية دقيقة الأداء تعرف بالجهاز الصوتي وهو القادر على إطلاق هذه الأصوات بشكل متنوع و منتظم وفق قوانين منطقية إتفق عليها البشر بحيث تشكل إشارات ذات مدلولات منطقية مسؤولة عن إصدارها جهة معينة من العقل البشري لتحرك أعضاء هذا الجهاز الصوتي من أجل إصدار تلك الأصوات ليستقبلها جهاز سمعي من طرف آخر فتنجز خلالها أكبر وسيلة اتصال بشري بعد أن يتم تحويل ذبذباتها إلى صور عقلية.
هناك علمان رئيسيان مسؤولان في بحث ودراسة هذا الجانب من أصوات اللغات يعرفان بالصوتيات phonetics وعلم الصوت phonology ، فمهما اختلفت أساليب البحث وجوانبه في كل منهما بحسب وجهات نظر الدارسين، إلا أنه قديما كان المصطلح الأول أكثر شيوعا واستعمالا من الثاني وأوسع في التطبيق حيث يقصد به الدراسات الصوتيه بشكل عام بما فيها الثاني”الفونولوجي” وقد استمر العمل بهذا الرأي حتى القرن التاسع عشر تقريبا. ولكن مع تقدم الدراسات الصوتيه بفضل اختراعات الأجهزة والمجهودات العلميه المتواصلة، فقد توصل العلماء إلى حقائق صوتية لم تكن معروفة من قبل، إذ أن للصوت جوانب يقتضي النظر لكل جانب منها بإسلوب مختلف، وعليه فإن كل جانب يجب أن يمثل فرعا من هذا العلم او مدرسة لها منهجها.
لقد وزعوا الدراسة الصوتية على هذين الفرعين -ولنسميهما هنا “الفوناتيكس” و “الفونولوجي” تعريبا لا ترجمة لسرعة التداول. فمجالهما وعلاقتهما ببعضهما قد ولدت تعدد آراء الباحثين والخبراء والدارسين وفلسفاتهم في النظرات لتلك الحقائق الصوتيه وإلى طبيعة اللغة ذاتها التي تسهم في وضع حقائق قد تختلف عن حقائق لغات أخرى. عند مقارنة الفوناتيكس بالفونولوجي في أيامنا هذه، ندرك أن الفوناتيكس أصبح ذا مدلول أضيق نسبيا؛ إذ يقصد به فقط دراسة الأصوات من حيث أنها “أحداثا منطوقه فعليا” actual speech events وهي ذات “تأثير سمعي معين” audible effect بغض النظر عن قيم هذه الأصوات ومعانيها في لغة معينه: فهو إذاً يعنى بالمادة الصوتية لا بالقوانين الصوتيه، وبخواص الأصوات بوصفها “ضوضاء”noise لا بوظائفها في التركيب الصوتي للغة ما.
أما الفرع الثاني “الفونولوجي” فهو لا تقتصر دراسته ومناقشته على أصوات لغة بعينها، فهو يعنى بالصوت اللغوي في عمومه والتعمق في مشكلات هذا الصوت بوصفه خاصة مشتركة بين اللغات جميعها. فهو علم تنظيم الأصوات ووظائفها كما أنه يعنى بتنظيم الماده الصوتيه وإخضاعها للتقنين والتقعيد (أي وفق قوانين وقواعد)، كما ويبحث في الأصوات من حيث وظائفها في اللغة. إن هذا الفصل بين الفوناتيكس والفونولوجي جاء نتيجة تقدم البحوث العلمية في مجال الأصوات اللغوية وخصوصا عندما توصلوا إلى أن “الصوت الواحد هو ذو صور نطقية عديدة” تتنوع بتنوع السياق الذي يقع فيه. وهذا التنوع ليس مقصورا على أصوات دون غيرها أو نطق بعض الأفراد دون غيرهم، وإنما وجدوه قاعدة عامة في كل الأصوات ومشتركة بين كل الناطقين باللغة المعينة. فأدركوا أن صوتا معينا -كالكاف أو k مثلا – يختلف نطقه من سياق إلى آخر، فوصف حدوثه أنه من أقصى الحنك مهموس غير أن نقطة نطقه الدقيقه تختلف في الواقع باختلاف ما يجاوره من حركات، فقد تكون الى الخلف أو الأمام بحسب نوع الحركة التالية وقد يكون بجهر أحيانا في بعض المواقع. وعليه فقد قرر علماء الصوت أن الفروق بين صور الصوت الواحد هي فروق نطقيه محضه لوقوعه في سياقات صوتيه مختلفه وهي ليست فروق ذات وظيفه لغويه أو عاملا في تفريق المعاني في الكلمات. وقد اختلف بعض العلماء في هذا الرأي فكان من أثر هذا اللون من التفكير أن ظهرت نظرية جديده في عالم الصوت اللغوي لتصف بجانب كلا من الفوناتيكس phonotics والفونولوجي phonology وهذه النظرية شقت طريقها بشكل مستقل عرفت بإسم phoneme وترجمتها “الوحدة الصوتيه” phonetic unit وهنا أيضا سنسميها “فونيم” تعريبا لا ترجمة لسرعة التداول. وبإختصار أن الفونيم هو وحدة صوتية قادرة على التفريق بين معاني الكلمات وليست حدثا صوتيا منطوقا بالفعل، فهي أنماط للأصوات “types of sounds”، فصوت الكاف k-المشار إليه سابقا- هو فونيم، وارتباط الفونيم بالمعنى قد أعطاه ارتباطا مباشرا بالفونولوجي الحديث، وليس معقول أن ننظر في المعاني إلا٘ وفق إطار لغة معينه. وقد استخدمها عالم اللهجات السويسري ( J. Winteler ) للتفريق بين المعاني والوظائف النحوية للكلمات. وهنا ظهرت اختلافات في الآراء عند كثير من العلماء حول هذا المضمار فشكل كل رأي مدرسة مستقلة، ولنكتفي بتسليط الضوء على أبرزها وهي أربع مدارس:
أولا– مدرسة براغ:
وهي مدرسة تشكيلية ذات بحث لغوي حديث، كما أنها خاضت بحر الفروق بين الفوناتيكس والفونولوجي، وتأثر روادها بأراء العالم السويسري دي سوسير من حيث أن الفونيم هو جانب غير مادي للصوت أو الصورة الذهنية له وأن وظيفته هي التفريق بين معاني الكلمات، كما وتأثروا برأيه في التمييز بين الكلام المنطوق بالفعل الصادر من المتكلم الفرد في الموقف المعين وبين اللغة المعينه، واللغة المعينة في رأيه لاتنطق ولايتكلمها احد وإنما يتكلم الناس الكلام طبقا لقواعدها.
فالفوناتيكس هو علم أصوات الكلام وهو أقرب إلى علم الطبيعة منه إلى علم اللغة linguistics وعندهم ليس بفرع من علم اللغة وإن كان وسيلة لدراسة أصوات الفونولوجي لكن وظيفته دراسة الأصوات المنطوقه بالفعل في الكلام ويهتم بحركة أعضاء النطق وأوضاعها وملاحظة الذبذبات الهوائية الناتجة عن التحركات والأوضاع ويلاحظ أحداث النطق من مصادرها (أعضاء النطق) ودراسة وظيفة المصدر تفصيليا على نحو ميكانيكي. أما الفونولوجي فهو علم أصوات اللغة ، وهو عندهم فرعا من علم اللغة linguistics فهو لايهتم بالوصف لدراسة الأصوات وإنما عليه أن يدرس الفونيمات (وهي العناصر المكونة للمعنى اللغوي) وهي عناصر عقلية لا مادية إنما تحقيقها المادي بواسطة الصوت الفعلي أو النطق كما ويعمق النظر في الشعور أو الوعي اللغوي (the linguistic consciousness) للبيئة المعينه، فيدرس الصور الذهنيه الصوتيه ذات القيم المميزه المكونه للكلمات واللغة ذاتها. ويختصرها أحد رواد هذه المدرسة تروبتسكوي بقوله: إن الفوناتيكس يهتم بمنطق الإنسان في الحقيقة والواقع عندما يتكلم، على حين يهتم الفونولوجي بما يظن أو يتصور الإنسان أنه ينطقه. ويضيف أولمان بأن الفوناتيكس هو علم أصوات الكلام ومختص بدراسة الأصوات من جانبها العضوي والفيزيائي لا جزءا من علم اللغة، بينما الفونولوجي هو علم أصوات اللغة أي أن الفونيمات والمنتميات لعلم اللغة يخصص لها مكانا مستقلا في الفنولوجي كفرع منه.
والنتيجة هي أن أصحاب الفصل بين علمي الأصوات الفوناتيكس والفونولوجي يطابق عندهم التفريق بين جانبي الكلام الانساني(الكلام المنطوق واللغة المعينة)، أي انهم القائلين بثنائية الكلام الإنساني في دراسة الأصوات وهم أصحاب تقسيمه إلى علمين منفصلين.
وقد وجه لهذه المدرسة اعتراضا شديدا وعدم قبول التفريق بين اللغة والكلام، فاللغة والكلام جانبان لشيء واحد فإذا جاز التفريق بينهما فهناك إذا لغة للفرد وأخرى للجماعة.
ثانيا – مدرسة دي سوسير:
غير دي سوسير رأيه عن مدرسة براغ بعد أن كان من مؤسسيها، فلم يمكنه الفصل بين علمي الكلام وبالتالي فرق بين الكلام واللغة لأنه يجد حقيقة منطقية في مثل هذا التفريق بين الفوناتيكس والفونولوجي. لقد توصل إلى أن الفوناتيكس هو علم تاريخي يبحث في أطوار الأصوات لأنه منذ بداية نشأته خصص لهذا الغرض ويجب أن يبقى كذلك وهو فرع أساسي في علم اللغة. أما الفونولوجي فيدرس الأصوات من الجانب العضوي أو ميكانيكية النطق وهو نظام مساعد لعلم اللغة ومقصور بشكل تام على الكلام (speech/ parole) وهذا يعني أن الفوناتيكس دراسة تاريخية فقط ووصفية، وأن الفونولوجي يتطابق مع الفوناتيكس عند أغلب الدارسين حيث قصره على دراسة أصوات الكلام وهي في رأي غيره الموضوع الأصلي للفوناتيكس، ويختلف في رأيه في وضعهما بالنسبة للإنتماء لعلم اللغة أو عدمه وهذا عكس ماتراه المدارس الأخرى. وأن هذا المعنى الضيق للفونولوجي مقتصر على أصوات الكلام المنطوق دون اللغة. فهو يتوجه للأصوات من ناحية دراستها العضوية والفسيولوجية. لقد توصل بعد ذلك بدراسته إلى أن الفونولوجي تقرب من “علم الاصوات العام” ووظيفته وصف الأصوات كأنواع أو أنماط عامه ويطلق عليها الفو نيمات (الوحدات الصوتيه)، وأما وظيفته فهو تحديد هذه الوحدات ووصفها وتصنيفها إلى مجموعات وهذا لايتم إلا بالإنطباع النفسي، فيصعب تحديد أين يبدأ الصوت واين ينتهي في سلسلة الكلام عن طريق الإشارة الى الأعضاء مالم تستطع تصوير حركة أعضاء النطق فوتوغرافيا، ولكن بالإنطباع السمعي للأصوات يمكن تحديد ذلك وإخبارنا بيسر. ولايمكن وصف الأصوات إلا بالإشارة إلى العمل النطقي ولايتسنى ذلك إلا بدراسة جهاز النطق ميكانيكيا. فدوسير يدرس الفونولوجي فسيولوجيا وسيكولوجيا، والأصوات عنده منعزله كأنماط ووحدات نطقيه، كما أنه يربط الفونولجي بالكلام المنطوق دون اللغة ويخرجه عن علم اللغة، فهو مخالفا لغيره. ويصعب عليه ربط الفونولوجي بالكلام (الأحداث الفعليه المنطوقه -إذا كان بدون اللغة- أي القواعد والقوانين العامة المتفق عليها بيئيا) ويناقش سوسير مقطع الكلمة syllable ومشكلاته في إطار الفنولوجي ويؤكد مكانته في هذا العلم، وهذا مايقرب رأيه برأي غيره إذ أنه من المعروف أن دراسة المقاطع هي من صميم الفونولوجي لا الفوناتيكس عند المفرقين بين هذين العلمين. وفي نظره أن هذه الوحدات أو الأنماط لها حالاتها الأخرى التي تظهر في سلسلة الكلام المتصل فيجب أن يكون هناك فرع آخر للفونولوجي يدعى فونولوجي الكلام المتصل combinatory phonology وهو نافع لمن لايفرقون تفريقا فعليا بين الفونولوجي والفوناتيكس.
فهذا الباحث قد قصر وظيفة الفونولوجي على دراسة الأحداث الصوتيه المنطوقه فعليا، ويرى أن الجانب العضوي للغة هو الجانب اللفظي أو الصوتي الناتج من الحركات العضوية لجهاز النطق وميكانيكيته.
ثالثا – المدرسة الإنجليزية:
ومؤسسها فيرث Firth ولاتزال مبادئها واتجاهاتها تمثل الخط التفكيري لتلامذته من الإنجليز وغيرهم، إذ أنه حتى عهد قريب كانت الفونولوجي عند الإنجليز عامة تطلق على الدراسات التاريخية للأصوات (على عكس رأي دي سوسير)، على حين كان الفوناتيكس يشمل البحث الصوتي في عمومه من الناحية الوصفية دون تفريق للجانب المادي وغير المادي، ودون وجود فرعين من الدراسة ولم يكن هناك نظام مخصص لدراسة الأصوات عضويا وفسيولوجيا وآخر مستقل يبحث في الأصوات من حيث وظائفها وقيمها في التركيب الصوتي للغة. والفوناتيكس يشمل كلا من الفوناتيكس بالمعنى الضيق والفونولوجي بمفهومه الدقيق. وأن الفونولوجي مقتصر على أنه قواعد علم الأصوات ورموز الكتابه. لقد اتفقوا على أن الفوناتيكس يشمل هذا المعنى أيضا منذ قرون طويله، وليس هناك ضرورة ملحة تدعو إلى التخصيص.
منذ انتشار التفريق بين هذين العلمين في جميع أنحاء اوروبا، اضطر الإنجليز الى تعديل نظرتهم ولكن في حدود ودون المبالغة التي وقع فيها الأوربيون حين فصلوا فصلا تاما بينهما، فرأى الإنجليز وجوب تسيير أعمال هذين العلمين في اتساق ومواءمة تامتين لتأتي نتائج البحث متكاملة مؤتلفة رغم أنهما يمثلان مستويين مختلفين من الدراسة.
ويرى فيرث أن هناك الفوناتيكس التجريبي الذي ينتقل بالأصوات إلى مجال الفيزياء لمعرفة خواصه الطبيعية، وهناك الفوناتيكس ذو المعنى الضيق المقتصر على تسجيل الماده الصوتيه لتحليلها فيزيائيا وفسيولوجيا.
وينتهي الإنجليز إلى نتائج مفادها أولا: أنه لايمكن فصل الفوناتيكس عن الفونولوجي في حال من الأحوال فكلاهما جزء لايتجزأ من علم اللغة وليس خطأ أن يطلق عليهما إسما واحدا.
ثانيا: حتى في حالة فصل الفونولوجي عن الفوناتيكس فلا يعدو أن يكون منهجا لتنظيم مادة الأخير أو هو الفوناتيكس نفسه أصبح وظيفيا وعمليا. وفي السنوات الأخيره طورت المدرسة الإنجليزية في الدراسات الفونولوجية لتصبح ذات فرعين متصلين هما فنولوجي الوحدات للبحث في الأصوات كأنماط للأصوات وهي مادة التركيب الصوتي للغة المعينة، ومن هذه الأنماط الأصوات الصامته consonants والمتحركة vowels وهناك فونولوجي الظواهر التطريزية prosodic phonology وهو النظر في الظواهر التي تنسب الى سلسلة المنطوق كله جملة أو عبارة أو كلمة أو مجموعة، وظاهرة الطول والقصر والنبر في الأصوات. وهناك اتجاهان آخران هما: التفريق التام بين الفوناتيكس والفونولوجي (كمدرسة براغ)، الاهتمام بالجانب التطبيقي للدراسات اللغوية حسبما رسمه فيرث وهو أن الفوناتيكس والفونولوجي لايمكن فصلهما عن بعضهما من الناحية التطبيقيه وأنه يمثل حلقة وصل بين الفوناتيكس وعلم اللغة.
رابعا – المدرسة الامريكيه:
ويمكن تلخيصها في ثلاث مراحل ففي المرحلة الأولى أخذت منحى المدرسة الإنجليزية في البداية وهي دراسة الأصوات على نحو علمي فيطلقوا مصطلح الفنولوجي على الدراسة التاريخية للأصوات، مستخدمين مصطلح الفوناتيكس للدراسات الصوتية العامة والتي لاتهتم بالتفريق الواضح بين جانبي الأصوات التي كانت تنظم الكثير من مسائل الفونولوجية الحديثة. أما في – المرحلة الثانية – عندما تقدموا في الدراسات الصوتية شعروا بضرورة تخصيص منهجين متخصصين متميزين لدراسة الأصوات. فاطلقوا إسم “الفوناتيكس” على دراسة الجانب المادي للأصوات والممثل في الآثار السمعية الناتجة عن عملية النطق. وعلى عكس التقليد الإنجليزي والأوروبي السائد، فهم لم يستعملوا المصطلح فونولوجي لدراسة الأصوات من جانبها الوظيفي اللغوي لأرتباطه بمعنى قديم ثابت في أذهان الناس وهو اطلاقه على الدراسات التاريخية للأصوات. لذا فقد اختاروا مصطلحا آخر وهو الفونيم لشدة ارتباطه بمنهج الفوناتيكس واعتماد كلا منها على الآخر. ويلخصوا رأيهم بأنه يمكن تناول الأصوات بثلاث طرق:
أولها من جانبها المادي تسجل خواصها النطقية والفيزيائية عن طريق الفوناتيكس الضيق او الفوناتيكس المحض pure phonetics بفروعه الثلاثة الفوناتيكس النطقي، الفوناتيكس الفيزيائي، والفوناتيكس المعملي أو التجريبي .
وثانيهما التعرف على الأنماط والوحدات الصوتية المكونه للنظام الصوتي للغة المعينة عن طريق الخبرة والملاحظة الذاتية المعروفة بعلم الأصوات العملي practical phonetics ولاينظر إليه كنهجا علميا، وإنما هو مهارة وفن.
وثالثهما النظر إلى الأصوات بوصفها وحدات مميزة للمعنى في اللغة، وهي محور دراسة هذه المدرسة ومناقشتها تحت مسمى الفونيم وأحيانا بمسمى الفونولوجي وهي تجمع بين الطريقتين الأوليتين وتحول العمل الصوتي إلى مجموعة قوانين وقواعد عامة وهذا هو النهج العلمي الدقيق. وبإرتباط هذه الأفرع الثلاثة فإنه يجعلها جزءاً لايتجزأ من علم اللغة.
أما – المرحلة الثالثة – فهي المعاصرة وهي مرحلة تشعب الدراسة في استخدام المصطلحات الجديدة وظهور اتجاهات جزئية أو فردية في مجال الدراسات الصوتية الحديثة عند الأمريكيين، لقد استخدم مصطلح phonemics (علم الوحدات الصوتية – بدلا من الفونيم- ولنعربها إلى الفونيمات) وهذا يشمل خطوة واسعة لأنه أصبح علما له خواصه، ومن آثار تقدم هذه الدراسة أنها اختصت في التعمق في الفونيمات كالأصوات الصامته والحركات بوصفها عناصر مكونه للتركيب الصوتي للغة. كما اهتمت بدراسة الفونيمات الأخرى التي اطلقوا عليها (supra-segmental phonemes) أي الفونيمات فوق التركيبية كالظواهر الصوتية التي ليست جزءا من التركيب نفسه، وقد أثارت انتباه الباحثين في الفوناتيكس الفيزيائي علاج عيوب السمع وهندسة الصوت وغيرها، كما وقد ظهر بينهما علم الفونيمات الصرفي morpho phonomics ويسميه الآخرين غير الأمريكان morpho phonology ويختصر morphonology ووظيفته تحليل ووصف مايعرض على هذه المورفيمات من تركيبات وصور صوتيه. ومع ذلك التشعب فإن الأمريكيين يربطون هذين الفرعين ببعضهما، ومن مظاهر هذا الربط نسبتهما معا لعلم اللغة على أنهما منهجين من مناهجه. فهم لاينسبوا علم الفوناتيكس إلى علم اللغة بل ينسبونه الى علوم اخرى كالفيزياء والفيسيولوجيا.
بين علم الأصوات وعلم اللغة:
لابد لنا من معرفة علاقة هذين العلمين ببعضهما بشكل موجز إذ لابد أن نلم بهذين الطرفين لنكون منهما صورة واضحة محددة -أعني علم اللغة وعلم الأصوات بفرعيه (الفوناتيكس والفونولوجي أو علم الفونيمات)- وماهي طبيعة هذه العلاقة. هناك أربعة اتجاهات تحدد هذه العلاقة تلخص في:
أحدهما: أن الفوناتيكس فرع مستقل عن علم اللغة وليس جزءا منه، أما الفونولوجي ونظيره (علم الفونيمات) فهو أحد فروع اللغة وجزء أساسي من مناهجه. ففريق منهم يفرق بين الكلام المنطوق speech وبين اللغة language وفريق يعتني بالفوناتيكس ويتعمق في دراسته فيربطوه بعلوم غير لغويه كالفسيولوجيا والفيزياء واعتباره فرعا من هذه العلوم.
وثانيهما: أن دي سوسير عنده أن الفوناتيكس جزءا لايتجزأ من علم اللغة على حين يرى أن الفونولوجي نظام من البحث ثانوي بالنسبة لهذا العلم وفي الوقت نفسه خاص بالكلام لا اللغة رغم أنه صاحب فكرة التفريق بين الكلام واللغة وهي التي قادت عددا من الناس الى الرأي السابق بوضع الفوناتيكس والفونولوجي وعلاقتهما بعلم اللغة.
الإتجاه الثالث: يقول بأن الفوناتيكس فرع من فروع علم اللغة الجانبي، أما الفونولوجي فهو فرع أساسي منه، ومن أنصار هذا الرأي هوكيت الأمريكي وله أنصار كثيرون من بينهم العديد من تلامذة فيرث الإنجليزي.
ويرى الإتجاه الرابع أن كلا من الفوناتيكس والفونولوجي (ونظيره علم الفونيمات) كلاهما جزء لايتجزأ من علم اللغة وليس أحدهما أهم أو أشد ارتباطا من الآخر بعلم اللغة. ومن أنصار هذا الإتجاه بلومفيلد الذي يقسم علم اللغة الى فرعين رئيسين علم الأصوات وعلم الدلالة (السيمانتيك semantics): فالأول يشمل الجانب الصوتي والثاني يشمل علم القواعد والمعجم. فاللغة عند هؤلاء لها ثلاثة جوانب: المادة الأساسية substance المتمثلة في الأصوات، والصيغة أوالتركيب structure، وسياق الحال context، وهو يعني ربط اللغة بالظروف والأحداث الخارجية في البيئة. فهذه الجوانب الثلاثة تعنى بدراستها نظم أو مستويات لغوية تتحد في إطار واحد عام أسموه “علوم اللغة ” linguistic sciences (بصيغة الجمع) ويفصل بعدها ان المخصص لدراسة المادة الصوتية هو الفوناتيكس، والذي يقوم بدراسة الجانبين الآخرين معا فهو ماسموه “علم اللغة” linguistics (بصيغة المفرد) حيث تنضوي تحت طائلته مستويات فرعية هي علم القواعد والمعجم المختصان بدراسة التركيب، بالإضافة لعلم الدلالة أو السمانتيكس semantics الذي يربط اللغة بسياق الحال “contaxt” ، فالفوناتيكس هو قسيم علم اللغة وليس جزءا منه إذ يكونا علم اللغة حتى قيل “إذا كانت اللغة عبارة عن ضوضاء تتسم بالتنظيم فإن الفوناتيكس يدرس ضوضاء علم اللغة ويبحث في هذا التنظيم وقواعده” . أما الفونولوجي فهو المستوى الخاص من البحث اللغوي وهو الوسيط بين الفوناتيكس وعلم اللغة ووسائل ربط المادة الصوتية بالصيغة أو التركيب اللغوي وهو واضع أصوات اللغة في أنماط ونظم تستغل في بناء التركيب اللغوي وعناصره. فارتباط كل من الفونولوجي والفوناتيكس ومايتعلق بهما ويتفرع منهما بعلم اللغة هو ارتباط وثيق إذ لاغنى لأحد هذه الثلاثة عن الآخر، وهما مرحلتين من مراحل البحث في علم اللغة فمادتهما هي أصوات اللغة.