خلافاً لما يعتقد الكثير من الناس من أن الإكتئاب ظاهرةُ غربيةُ، يأتي الإكتئاب على رأس قائمة أكثر الأمراض النفسية إنتشارا في العالم العربي. على أن الناس يختلفون في تفسيره وتشخيصه و علاجه، فتارةً يصنف على أنه مسُ من الجن و تارة أخرى على أنه حسد، كما يعتقد أنه تصنعُ من قبل المصاب، أو حالةُ يمكن الخروج منها بقوة الإرادة فقط أو بزيادة منسوب الإيمان الديني، أو غير ذلك من المعتقدات، وذلك لقلة المعلومات وعدم فهمنا لهذا الإضطراب الخطير، و عدم المبادرة إلى زيارة العيادات النفسية و الإجتماعية أو عيادات طب العائلة حيث يمكن تشخيصه تشخيصاً دقيقاً و إعطاء العلاج الناجع له.
من هم المعرضون للإصابة بالإكتئاب؟:
يصيب الإكتئاب بمختلف أنواعه جميع الطبقات الإجتماعية من الجنسين على أن النساء أكثر إصابة به من الرجال و من مختلف الأعمار على حد سواء، و تزداد هذه النسبة كلما إزدادت المدنية و الحياة الحديثة بما تحمل من تعقيدات و ضغوط نفسية نتيجة المتطلبات العصرية و التغيرات الكبيرة في حياتنا اليومية. و يصل عدد المصابين به إلى أكثر من ثلاث مئة مليون (١) شخص في العالم، و هذا هو العدد المشخص بواسطة المختصين أما الكثير من الحالات فبقت دون إحصاء أو تشخيص أو علاج إما لعدم قيام المصابين بزيارة المختصين، أو لعدم توفر مراكز التشخيص و العلاج كما في الدول الفقيرة، أو لعدم وجود إحصائيات. علماً بأن بعض أنواع الإكتئاب قد تنتقل بالوراثة في بعض الحالات دون التعرض لأي سبب من الأسباب المعروفة.
ما هو الإكتئاب؟:
يفسر الإكتئاب على أنه إضطراب ناتج عن خلل في الموصلات العصبية (Neurotransmitters) الموجودة في المخ و أهم هذه الموصلات هي:
- الدوبامين (Dopamine).
- السيروتينين ((Serotonin.
- النورإبينفرين (Norepinephrine).
أشكاله:
يأتي الإكتئاب في أشكال مختلفة؛ مثل الحزن الشديد و الإنطواء على النفس و إضطرابات النوم (زيادة في ساعات النوم، أو قلة في ساعات النوم) و نقص أو زيادة الوزن و فقدان أو فرط الشهية للطعام و الرغبة الجنسية و الإهمال المفاجئ في النظافة الشخصية ،كأن يعزف الإنسان عن تنظيف أسنانه على عادته، أو تأخير الإستحمام عن وقته أو عدم أخذه لأكثر من يوم و فقدان الرغبة بالقيام بالنشاطات و الهوايات المختلفة كما تقل الرغبة في الحياة و ينقص بشكل واضح حب الحياة و ما فيها حتى أن البعض يفكر في الإنتحار و التخلص من الحياة باعتبار أن لا شيء فيها يستحق الحياة بالإضافة إلى السوداوية في النظر إلى كل الأمور.
أعراضه:
يشكو المصاب من الحزن الشديد لمدة أسبوعين أو أكثر، و لا يعتد بما يشعر به الشخص عندما يكون هذا الشعور لأيام قليلة إلا إذا تكرر عدة مرات في السنة، كما ينعدم عنده الإستمتاع بما حوله من مباهج الحياة، و يتخلى عن النشاطات و الهوايات المعتادة، و يعزف عن الحديث مع الآخرين حتى مع أفراد العائلة المقربين كالزوجة و الأبناء و الوالدين كما يصاب بنوبات من البكاء المفاجئ دون أي سبب يذكر، و يصعب عليه النوم في الساعات الأولى من الليل و يتأخر في الإستيقاظ صباحاً، أو العكس حيث يستيقظ المصاب في ساعات مبكرة في الصباح و لا يستطيع الرجوع الى النوم، و يشكو المصاب من الشعور بالذنب تجاه الآخرين لأي سبب، كما يشعر بالإرهاق السريع و فتور الهمة و ضعف الطاقة، و يشعر بعدم أهميته كشخص في المجتمع، كما أنه يفقد الأمل في كل شيء حوله و يسوء حكمه و تقديره للأمور حيث يصبح إتخاذ القرارات في هذه الفترة هو الأصعب و الأسوأ، و لذلك يجب تجنب إتخاذ القرارات المصيرية و المهمة في هذه الفترة كما يفضل للمصاب طلب المشورة و المساعدة دائماً من الآخرين سواءً من الإختصاصيين أو من المعروفين بالحكمة و حسن التصرف.
أسبابه:
يرجع الإكتئاب إلى عدة أسباب بعضها واضح و بعضها غامض، و أحيانا ً يكون لأسباب وراثية بحته لا علاقة لها بأنماط الحياة المختلفة.
و ضمن الأسباب المعروفة؛ يأتي الإنفصال بين الزوجين أو الحبيبين أو فقد شخص عزيز سواء بالموت أو بالسفر أو غيره على رأس هذه الأسباب، وكذلك عقب الإصابة ببعض الأمراض الخطيرة أو المزمنة مثل السرطان و أمراض القلب و الحروق الشديدة و غيرها من الأمراض التي تقض المضاجع، كما تأتي الديون الكبيرة و الخسائر الفادحة في الأموال و الممتلكات في المراتب الأولى في القائمة، و كذلك الضغوط النفسية الكبيرة في البيت أو العمل أو شتى نواحي الحياة، و على العكس من ذلك يأتي الفراغ النفسي و الروحي أو الفراغ في الوقت كأحد الأسباب، أيضاً. كما ينتج عن بعض التغيرات الجذرية في نمط الحياة مثل خسارة الوظيفة أو تغيير المسكن أو الفشل الدراسي، و الصعوبة في حل و إحتواء المشاكل وعدم القدرة على تحمل المسؤوليات المناطة بالشخص لكبر حجمها مقارنة بقدراته، أو لعدم تعوده لمثل هذه المسؤوليات.
المراحل الصعبة في حالات الإكتئاب:
إن أشد ما يكون على المريض وطأة، هو إحساسه بفقدان الأمل في الشفاء، إعتقاداً منه بأن هذه حالة مزمنة، والحقيقة هي عكس ذلك، فهو مرض قابل للشفاء و التعافي. كما أن تخلي من حوله عنه في مثل هذه المحنة تزيد من حالته سوءاً. و يزيد الأمر شدة، عدم فهم من حوله (من أفراد أسرته، أصدقائه أو من رؤسائه في العمل) بمشكلته و عدم إدراك حالته و التعاطف معه بشكل يخفف عنه معاناته.
طرق علاجه:
يأتي العلاج على عدة مراحل و أشكال و هو في البداية علاج للأعراض و ليس للمرض نفسه و من هذه العلاجات:
- الأدوية و العقاقير المضادة للإكتئاب (Antidepressants): و هنالك عدة أنواع تعمل بطرق مختلفة و على موصلات عصبية مختلفة منها عقارات حديثه و منها قديمة لا زالت فاعلة لدى بعض المصابين. علماً بأن إستجابة الأفراد تختلف حسب التركيب الكيميائي لجسم كل شخص حيث يستفيد بعض الأشخاص من بعض الأدوية دون غيرها و قد لا يستفيد من أي منها، و يبدأ تأثير هذه الأدوية عادة بعد أسبوعين تقريباً من بدء تعاطيها. و يجب التركيز هنا على أن الدواء لا يؤخذ أو يترك إلا باستشارة الطبيب فقط، كما يجب أن يبدأ بتناوله و الإنقطاع عنه تدريجياً، إذ أن التوقف المفاجيء قد يؤدي الى آثار عكسية في أكثر الأحوال، كما يجب عدم تغيير الطبيب بين الحين و الآخر بحجة عدم فائدة الدواء الموصوف إذ أن المسألة قد تتطلب عدة محاولات حتى يصل الطبيب إلى الدواء المناسب لهذا المريض. و لهذه العقاقير عدة مضاعفات جانبية تتراوح بين الجفاف في الحلق و زيادة الوزن و الدوخة و النعاس و قلة الرغبة الجنسية (Low Libido).
- العلاج بالجلسات الكهربائية ((Electroconvulsive therapy (ECT): قد يستفيد البعض من الجلسات الكهربائية خصوصاً ممن لم تنجح معهم العقاقير أو لوجود حساسية أو مضاعفات جانبية شديدة من العقاقير حيث تتم الجلسات الكهربائية تحت التخدير على يد أطباء مختصين، و تتم على مدى ست إلى إثني عشر جلسة حسب حاجة ووضع المريض الصحي يتم من خلالها إعطاء صدمات كهربائية في الرأس تستغرق كل واحدة منها عدة ثواني فقط. و ضمن الآثار الجانبية لهذه الصدمات فقدان الذاكرة المؤقت لدى البعض فقط، سرعان ما ترجع الذاكرة إلى طبيعتها.
- العلاج النفسي و السلوكي (psychological therapy): ويشمل تبادل الحديث بين الأخصائي النفسي أو الإجتماعي و المصاب و حثه على أن يفضفض عما في نفسه و الإفصاح عما يشعر المصاب به قدر الإمكان، كما يحاول المعالج أن يزرع التفاؤل و الأمل و يحول التفكير السلبي إلى تفكير إيجابي و يقترح على المصاب شغل نفسه بأفكار و هوايات جديدة تبعده و تشتت أفكاره عن التركيز في مشاكله و همومه، كما يمكن إخضاع المصاب لجلسات من التأمل (Meditation) و التفكر و التنفس العميق و الصحيح.
- العلاج الذاتي (Self treatment): و يأتي على عدة أشكال أهمها الإنخراط في المجتمع و العمل الإجتماعي و الخروج في رحلات جماعية و الترفيه بشتى أنواعه، كما تفيد و بشكل واضح ممارسة الأنواع المختلفة من الرياضة و على رأسها المشي السريع و لعب الكرة بأنواعها، إذ تساعد الرياضة بشكل فعال و كبير في تغيير مستوى الموصلات العصبية في المخ مما قد يساعد المريض على التحسن بشكل ملحوظ وقد يساعد كثيراً العمل في بعض الأشياء و الألعاب الدقيقة إذا أمكن ذلك، كما أن الكثير من المصابين إستفادو من ممارسة بعض العبادات و الطقوس الدينية و الروحانية مثل الصلاة و قراءة القرآن و الأدعية خصوصاً أولئك الذين يتمتعون بإيمان عميق بأهمية و تأثير هذه العبادات و الطقوس. كما تأتي بعض الطقوس و الممارسات الأخرى في نفس المكانة من التأثير؛ و هي العمل التطوعي و محاولة مساعدة الآخرين مالياً أو ببذل الجهد الشخصي لحل مشاكل الآخرين ممن يعانون في هذه الحياة، و سماع الموسيقى و محاولة الغناء أو الإنشاد وسط حضور بعض الأقارب أو الأصحاب أو حتى حينما يكون وحيداً.
من خلال كل ما سبق ذكره؛ يتضح لنا أهمية التشخيص الصحيح من خلال الإختصاصيين و أهمية فهم هذا الإضطراب من قبل المريض نفسه و ممن حوله، و اللجوء للعلاج المتاح في العيادات و المراكز الإجتماعية و الصبر على ذلك بدلاً من اللجوء إلى المشعوذين أو حتى إلى الطب الشعبي و الذي لا يملك الكثير في هذا المجال، حيث لم يثبت حتى الآن جدوى و نجاعة العلاجات الشعبية ، و لا أقصد هنا الأعشاب إذ ثبت فعالية بعضها في الحالات الخفيفة جداً. كما يمكن الوقاية من هذا الإضطراب من خلال تنمية و تشجيع التفكير الإيجابي و خلق روح التفاؤل و التعود على تحمل المسؤوليات المحدودة بالتدريج و إتخاذ الأصدقاء الأوفياء الذين يمكن إشراكهم في الهموم و المشاكل المثقلة، كما يجب أن نحرص على إيجاد الجو العائلي في البيت و توفير الدفء العاطفي لمن حولنا و تفادي إتخاذ القرارات التي من شأنها إثقال كاهلنا بما لا نطيق.
(١) نقلاً عن منظمة الصحة العالمية.
مقال رائع ومختصر
استفدت منه الكثير وبين لي اشياء لا أكاد أعرفها عن الاكتئاب
شكراً للكاتب المبدع