يُمكن لرجُل ضئيلٍ جدًا أن يُلقِي بظِلٍّ هائل.”

                     لورد (فاريس)، من ملحمة أغنية الجليد والنار

يُعَدُّ اللورد (فاريس) ضمن أشد شخصيات ملحمة (جورج آر آر مارتِن) “أغنية الجليد والنار” غموضًا. لم يعرف أحدٌ عن ماضيه إلا النزر اليسير، أما دوافعه فلا يكاد يعرفها أحدٌ أبدًا. ما يعرفه البعض هو أن اللورد (فاريس) لم يستحق لقب “لورد” على الإطلاق، فهو ليس ابنًا لعائلة نبيلة، بل على العكس تمامًا. لكن لقب النبالة مُنح له بعد شَغلِهِ لمنصبٍ رفيع في مجلس الحُكم، تقتصر عضويته في المعتاد على أرفع “اللوردات” شأنًا. أما لقبه الآخر فيعرفه كل الناس، فاللورد (فاريس) لم يكن في واقع الأمر سيدًا لأسرة عريقة أو قلعة تاريخية أو مقاطعة مترامية الأطراف، وإنما كان سيدًا لشبكةٍ محكمة من الهامسين في الظلام بأخطر الأسرار عبر الممالك السبع. سيدًا استحق عن جدارة لقبه الأشهر: العنكبوت.

وإذا ذُكِر التلوُّن في عالم الحيوان لا يتبادر العنكبوت إلى الذهن، بل الحرباء. لكن الحرباء في الواقع لا تمارس إلا محاولة التخفِّي في بيئتها الطبيعية والتماهي في محيطها اللوني، أما الأبعاد الأعمق للتلوُّن فيمارسها جنس صغير الحجم من العناكب القافزة لا يستطيع تغيير لونه على الإطلاق، يُعرف بالاسم العلمي “ميرماراكني” Myrmarachne المشتق من مقطعين يونانيين: arachne الذي يعني العنكبوت، وmyrmex الذي يعني النملة!

العنكبوت الممثل

تُعرَف العناكب القافزة بأجسامها الدائرية المُشعرة، لكن عناكب “ميرماراكني” تمتاز بأجسادها المستطيلة الملساء التي تشبه أجساد النمل، وبألوانٍ كألوان النمل تتدرج بين الحُمرة والصُّفرة، مع مسحات مُنتقاة بعناية من اللون الأسود تكسو البطن وتدور كالكُحل حول الأعين فتجعلها تبدو أكبر كثيرًا من حجمها الطبيعي.[1] بل تتمادى المحاكاة فنرى بطون هذه العناكب وقد شقَّتها تحزُّزات لتبدو أجسادُها كأجساد النمل، برأس وصدر وبطن. أما الأعجب من هذا كله، فيتمثل في الحل العبقري للمشكلة التي تُعد أكبر حائل دون إتقان التنكر؛ فالعناكب -بخلاف الحشرات كلها ومنها النمل- لها ثماني أرجل لا ست فقط. وللنمل قرنا استشعار طويلان لا تمتلكهما العناكب. فماذا يفعل العنكبوت الممثل؟ بالطبع يقف على أرجله الست الخلفية فقط، ويرفع رجليه الأماميتين فوق رأسه ويلوِّح بهما في الهواء محاكيًا قرني استشعار النملة[2]، في أداءٍ جديرٍ بجوائز الأوسكار!

وطبعًا لن يفوت أي “مشخصاتي” بارع أن يتخلى عن مشيته وحركاته ليذوب تمامًا في مشية وحركات الشخصية التي يُجسِّدها، وهذا ما تفعله العناكب بالضبط، تتخلى عن الحركات المتقطعة الفجائية المميزة للعناكب القافزة، من السكون الطويل إلى الوثوب الخاطف، وتتخذ مشية النمل السريعة المذبذبة التي لا تهمد تقريبًا[3]، ولا تستقر على حالٍ واحدة لأكثر من لحظاتٍ معدودة. أداءٌ كان كفيلًا بتمكين عناكب “ميرماراكني” من غزو الغابات الاستوائية في قارات العالم كله تقريبًا!

سادة الأرض الحقيقيون

لكن لماذا يريد عنكبوتٌ مفترس أن يبدو كنملة أصلًا؟ قد يطرح هذا السؤال مَن لا يعرف الغابات الاستوائية جيدًا، التي تفوق الكُتلة الحيوية للنمل فيها مجموع الكُتل الحيوية لكل سكانها من الحيوانات الفقارية الأخرى! للنمل آثار هائلة على الحياة البرية في تلك الغابات، وسُلطانٌ يفوق الخيال على جميع قاطنيها تقريبًا. يستشهد كاتب الخيال العلمي الفرنسي (برنار فيربير) في روايته “النمل” بموسوعة خيالية أطلَقَ عليها “موسوعة المعرفة المطلقة والنسبية لإدموند ويلز”، فيقول في تصدير الرواية: “في غضون اللحظات القصيرة التي ستستغرقها قراءتكم لهذه السطور سيولد على الأرض 40 إنسانًا و700 مليون نملة، وسيموت 30 إنسانًا و500 مليون نملة”، وينقل عنها في موضعٍ ثانٍ قائلًا: “تمكَّن الإنسان من أن يَسحق، وأن يضع في المتاحف كل الأجناس التي كان بإمكانها أن تأكله. لدرجة أنه لم يتبقَّ غير الجراثيم والنمل، يسببان له القلق”.

وفي موضع آخر: “وجود البشر ليس سوى مرحلة قصيرة من سيادة النمل المطلقة على الأرض. هم أكثر منَّا عددًا بما لا يُقاس، لديهم مدن أكثر، ويتبعون أنماطًا حياتية أكثر تنوُّعًا. يعيشون في المناطق الجافة وفي المناطق الجليدية وفي درجات الحرارة والرطوبة التي لا يسع أي إنسان أن يبقى فيها على قيد الحياة. أينما نظرنا يوجد نمل! لقد كانوا هنا قبلنا بمئة مليون سنة، وإذا وضعنا في الاعتبار أنهم كانوا من الكائنات النادرة التي قاوَمَت القنبلة الذرية، فإنهم سيظلون بعدنا هنا بمئة مليون سنة. نحن لسنا أكثر من حادثٍ طارئٍ لا يتجاوز الثلاثة ملايين سنة من تاريخهم. وإذا هبط سكان الفضاء يومًا ما على كوكبنا فلن يخطئوا أبدًا؛ سيحاولون بلا ريب أن يحاوروهم: هُم سادة الأرض الحقيقيون”.

الدهاء الفطري للعناكب

وقد يحتاج الإنسان إلى هذه اللغة الأدبية لأخذ فكرةٍ عن المكانة الحقيقية للنمل، لكن الدهاء الفطري للعناكب يدرك ذلك كله، ويُخبرها بأن أفضل ما يُمكن -إذا لم تكن نملة- هو أن تتظاهر بأنك كذلك. سُمعة النمل المرعبة تسبقه، وشراسته المتناهية في القتال الهجومي أو الدفاعي معروفة للمُفترِسات قبل الفرائس. أما المخلوقات التعسة التي يخونها ذكاؤها أحيانًا وتتطفل على بيوت النمل، فتمر بتجارب لا تُنسى مدى الحياة، هذا إن كُتب لها البقاء على قيدها. وبتجاربٍ مثل تلك تعلَّمَت معظم المُفترسات أن تتحاشى استهداف النمل ما استطاعَت. وهو ما استغلَّتهُ عناكب “ميرماراكني” لصالحها بتصنُّعها المتقَن الذي يسحر عيون المفترسات فترى العناكبَ كأنها نملٌ يسعى، وتدعها تُفلت من براثنها غيرَ مأسوفٍ عليها.

هذا عن المحاكاة الدفاعية. لكنَّ هناك أنواعًا أكثر خبثًا تستغل قدرتها على محاكاة النمل لأغراض هجومية! فالعناكب من نوع ميرماراكني ميلانوتارسا Myrmarachne melanotarsa تعرف الرعب الذي سيثيره مظهرها في بعض أنواع العناكب القافزة الأخرى، فتشن الغارات على أوكارها، وتدفع الإناث إلى الهروب في نوبات من الذعر تاركةً بيوضها أو صغارها لُقَمًا سائغة للمُهاجِم المُتصنِّع، الذي لا تعوق طريقَه إليها -على عكس النمل الحقيقي- خيوطُ الحرير الكثيفة المبطِّنة للأوكار.[4]

حَدُّ الشَّعرَة

لكن هذا التَّصنُّع -ككل شيء جيد في الدنيا- له ثمنه. وعناكب “ميرماراكني” تدفع ثمن محاكاة النمل أكثر من مرة في الواقع.

أولًا: يتطلب التنكُّر أن تعيش العناكب بالضرورة بالقرب من مناطق نفوذ النمل، وهو أشبه ما يكون بجاسوس يمارس مهماته خلف خطوط العدو، إذ تكفي لحظةٌ واحدة من التخلِّي عن الحذر وإتقان الأداء لملاقاة الهلاك.

وثانيًا: أن هذه المحاكاة المذهلة يمكنها أن تأتي بنتائج عكسية تمامًا، وتنطلي على أنواع المُفترسات المتخصصة في اصطياد النمل، مثل بعض الأنواع الأخرى من العناكب القافزة، فتستهدف العناكب المحاكية ظَنًّا أنها وَجْبَتها الأثيرة!

وهناك أسباب لا نعلمها تمامًا قادَت فُكوك ذكور عناكب “ميرماراكني” إلى الاستطالة، وعلى ما يبدو فإنها صفة تجذب الإناث؛ لأنها ربما تشي بجودة الحالة الصحية للذكور. لكن هذه الاستطالة على الأرجح تجعل الذكور تبدو في أعين المُفترسات كنمل يحمل بين فكيه شيئًا ما، وهو ما يغريها أكثر بالهجوم! فهذه المفترسات تعرف مدى خطورة فكوك النمل، وتنتهز ما استطاعت فرصة الانقضاض على نملةٍ انشغل فكَّاها بالقبض على الطعام! وهكذا فما يُغري الإناث بالتزاوُج هو عينُه السلاح ذو الحدّين الذي يُثير في الخصوم غرائز الافتراس.

لهذا تحديدًا تَعرِف العناكب الممثلة -بدهائها المثير للعجب- خطورة أن تذوب في شخصية النملة طوال الوقت. وقد لاحظ الباحثون السلوك الطريف الذي يلجأ إليه العنكبوت الممثل عندما يقترب منه بفضول عنكبوتٌ آخر آكل للنمل، فيترك صاحبنا على الفور مشية النمل، وينقل رجليه الأماميتين من وضع محاكاة قرون الاستشعار إلى وضع التأهُّب الدفاعي، ويتجمد في مكانه محدقًا في غريمه.

باختصار: يرتدُّ عنكبوتًا حقيقيًّا في لحظة! وهو ما يحدث أيضًا عندما يحاول أحد الباحثين الإمساك بعنكبوت ممثل يتمشى كالنمل على ساق نبات، فيتخلى في الحال عن أدائه، ويثب في الهواء مُعتمِدًا على فطرته العنكبوتية، وعلى خيطٍ رفيعٍ من حرير.

وهكذا تتعلق مصائر هذه الكائنات المُدهشة بشَعرَة فاصلةٍ بين البقاء والهلاك. في “أغنية الجليد والنار” تُلخِّص الملكة (سيرسي لانستر) فلسفتها وفلسفة عالمها في جملة واحدة تُلقيها على مسامع (نِد ستارك) فتقول: “عندما تلعب لعبة العروش فإما أن تفوز أو أن تموت. ليس ثمة حلول وسط”. كان (نِد) ذئبًا عجوزًا صلبًا فالتهمته لعبة العروش سريعًا. أما اللورد (فاريس) -العنكبوت- فلم يزل -حتى لحظتنا هذه على الأقل، قبيل بداية الموسم الأخير من المسلسل- يراوغ الجميع ويمثِّل على الجميع ويُخفي نواياه الحقيقية عن الجميع. حتى قوله المأثور في بداية هذا المقال لا نعلَم تحديدًا إن كان يقصد به القزم (تيريون لانستر) أم يقصد نفسه، أم لعله كان يتأمل -مثلما نفعل الآن- أغنية النمل والعناكب.[5]

[1] https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/thumb/e/e9/Myrmarachne.formicaria.male.1.jpg/1200px-Myrmarachne.formicaria.male.1.jpg

[2] https://www.hindawi.com/journals/psyche/2012/151989/#B22

[3] https://www.youtube.com/watch?v=vAS3kahu76k

[4] https://royalsocietypublishing.org/doi/full/10.1098/rsbl.2009.0355

[5] اعتمد هذا المقال في الحقائق العلمية المذكورة فيه -عدا ما أشير إليه في الهوامش السابقة- بشكل أساسي على مقال

The Spiders That Would Be Ants – Ximena Nelson
https://www.scientificamerican.com/article/the-spiders-that-would-be-ants1/