[الجارودية مدينة الجواردة وموطن سيد عبد قيس]
الجارود بن المعلا رئيس وفد البحرين الى رسول الله صلى الله عليه وآله لإعتناق الإسلام. وقول الرسول للوفد: أنتم خير أهل المشرق(1).
الجارودية مدينة قديمة من مدن القطيف وتبعد عنها حوالي أربع كيلومترات وهي منطقة ريفية كثيرة المزارع والبساتين ومحاطة بالنخيل الباسقات ذات الثمر المتميز وأرضها جبلية تميزها عن غيرها من مناطق القطيف حيث تكثر فيها عيون الماء العذب وكان سكان القطيف وبقية سكان المناطق طيلة السنين الماضية يعتمدون على مياهها، وكان يضرب بحلاوة مائها المثل.
وكان الوجهاء والأعيان وكبار القوم يقدمون ماءها لضيوفهم ممزوجا بماء اللقاح لنقاوته وصفائه. ويكثر الزحام على السقي من آبارها ، ومن أشهر آبارها عين القشورية حيث يتزاحم أعداد كبيرة من السقائين الذين كانوا يزودون سكان القطيف بالماء في تلك الحقبة من الزمن. وماء القشوري يشبه في نقاوته وصفاته وعذوبته ماء الحنيني بالبحرين أيام زمان.
كما تمتاز الجارودية أيضا بهوائها العليل الجاف والخالي من الرطوبة وباستطاعة المرء إذا مر على طريق الجارودية أن يستنشق عبق الرياحين وأنفاس الزهور ورائحة الورد التي تتصاعد من الخمائل معطرة الدروب والطرقات. وبساتين الجارودية متصلة ببساتين الجش التي كانت وحتى العهد الأموي مدينة للشنيين الذين نزحوا من تهامة الى البحرين حيث وجدوا المناخ الخصب ووفرة المياه والموقع الإستراتيجي الهام ورخاء العيش.
وكانت قبائل أياد تسكن البحرين وما جاورها من المدن والقرى الأخرى بالبحرين فلما نزحت قبائل عبد القيس من تهامة الى البحرين فإنهم أجلوا سكانها بعد حروب دامية بينهما ، وقبيلة شن هي من أقصى إحدى فصائل عبد القيس وقد اشتبكت شن مع قبائل أياد ودارت حرب سجال بينهم ، استطاع بعدها الشنيون أن يتغلبوا على أياد ، فاضطرت أياد أن تترك لهم البحرين وتنسحب الى حدود العراق ، لكن الشنيين تبعوهم الى هناك واحتدم القتال فيما بينهم. استطاعت بعدها أياد أن تردهم على أعقابهم فرجعت قبيلة الشنيين الى البحرين بعد أن أجلت سكانها الأصليين عنها.
وكانت أياد من أقوى القبائل العربية وكانت العرب تسميها الطبق لشدة بأسها ، فإذا أطبقت على الأعداء لا تنفرج حتى تقضي عليهم. وقد شهد أحد الشعراء تلك المعارك فصورها في هذا البيت من الشعر وهو في البحر الرمل:
لقيت شن أيادا بالقنا @@@ طبقا وافق شن طبقا
ونعود الى موضوعنا الجارود بن المعلا رئيس وفد البحرين الى الرسول وسرور الرسول بالوفد ، فعندما علم أهل البحرين بعزم القبائل على إرسال وفود بعد فتح مكة المكرمة سارعوا بتشكيل وفد برئاسة الجارود بن المعلا ، وذكر المؤرخون أن وفد البحرين هو من أقدم الوفود.
والجارود كان نصرانيا عندما ترأس الوفد. فقال للرسول يا رسول الله إنني تارك ديني لدينك فهل تضمن لي ديني ، فقال رسول الله (ص) نعم أنا أضمن لك دينك أن قد هداك الله الى ما هو خير منه ، فأسلم الجارود وأسلم معه أصحابه ، ثم رفع الرسول يده الى السماء واستقبل القبلة وقال: اللهم إغفر لعبد القيس ، ثم قال صلوات الله عليه: “عبد القيس خير أهل المشرق”.
وذكر ابن سيد الناس في عيون الأثر في فنون المغازي وشمائل العبر ، أن الجارود لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله مع وفد البحرين جثى بين يديه وأنشد أبياتا من الشعر قال فيها وهي من البحر الخفيف:
يا نبي الهدى أتتك رجال @@@ قطعت فدفدا والأفألا(2)
وطوت نحوك الضحاضح طرا @@@ لا تخال الكلال فيه كلالا
كل دهناء يقصر الطرف عنها @@@ أرقلتها قلاصنا إرقالا
وطوتها الجياد تجمع فيها @@@ بكماة كأنجم تتلألا
تبتغي دفع يوم بؤس عبوس @@@ أوجل القلب ذكره ثم هالا
وبعد هذه الأبيات قال الجارود للرسول (ص) والذي بعثك بالحق نبيا لقد وجدت صفتك بالإنجيل وبشر بك المسيح (ع). وأنا أشهد أن لا إله الا الله وأنك رسول الله ثم أسلم وأسلم معه جميع من في الوفد وحملوا تعاليم الإسلام الى البحرين حيث أسلم جميع سكانها وتركوا النصرانية.
إلا أن المصادر لم تذكر عدد الوافدين لكن صاحب السيرة الحلبية يذكر أن عددهم 16 رجلا، وذكر ابن سعد في الطبقات أن الرسول أسكن الوفد في دار رملة بنت الحارث وهذه الدار كانت واسعة وبها نخل ولذلك فقد خصصها الرسول (ص) للوفود وقد سميت فيما بعد بدار الوفود.
وذكر بن حنبل في مسنده (الجزء الثالث) أن أول وفد جاء الى الرسول كان برئاسة المنذر بن عائد الملقب بالأشج وإنما لقب بهذا اللقب لضربة في وجهه ، فقد ذكر بن حنبل أنهم عندما قدموا على رسول الله سألهم عن رئيسهم فأشاروا الى المنذر بن عائد فقال الرسول (ص) أهذا هو الأشج فقال: نعم ثم تقدم الى النبي وقد بسط النبي رجله واتكأ فلما دنا منه الأشج أوسع القوم له فقالوا: ههنا يا أشج فقال النبي وقد استوى قاعدا وقبض رجله ههنا يا أشج فقعد بين يدي النبي فرحب به وألطفه وسأله عن بلاده فسمى له قرية الصفا والمشقر.
أما الجواردة الأخرين الذين اتخذوا الجارودية مدينة لهم فمنهم جرير بن الحكم بن المنذر بن الجارود وكان زعيما وله دار للضيافة ويعتبر من وجهاء عبد القيس وكان مع الإمام علي في يوم الجمل. ومن الجواردة الحكم بن المنذر الجارود وكان جوادا سخيا وكان مجلسه محط رحال الشعراء والعلماء وكان يغدق على الشعراء حتى قال فيه الشاعر الحرزاني الملقب بالكذاب أبياتا قال فيها وهي من البحر السريع:
يا حكم بن المنذر بن الجارود @@@ سرادق المجد عليك ممدود
أنت الجواد بن الجواد المحمود @@@ نبت في الجود وفي بيت الجود
والجواد قد ينبت من أصل العود. وإنما سمي هذا الشاعر بالكذاب لكذبة قالها فلصقت هذه الكذبة به. ومن الجواردة المنذر بن الجارود وكان الإمام عليا عليه السلام قد ولاه ثغري اصطخر والسند ولكنه قابل هذا الوفاء بالجحود ولم يحفظ العهد. فعندما كاتب الحسين عليه السلام وجهاء ورؤساء الأقطار ، كان هو ممن كاتبه الحسين فقبض على رسول الحسين وأرسله الى عبيد الله بن زياد مع الكتب التي كانت بحوزته الى الشيعة فقتله بن زياد ومثل به وكان يقصد بذلك التقرب الى بن زياد. ومنهم الأشعث بن عبد الله بن الجارود وعبد الرحمن بن بشر بن الجارود وكان شريفا في قومه وله إخوة أشراف. وقد تطورت الجارودية واصبحت مدينة متألقة تضاهي في جمالها وروعتها أحدث المدن.
(1) ابن حنبل في المسند ج3 الطبري –الأمم والملوك. عيون الأثر ابن سيد الناس.
(2) الآل هنا بمعنى ما ارتفع من الأرض.