السماء زرقاء صافية خالية من تلوث الكربونات. لا سيارات مزدحمة ولا مصانع تبعث السموم في الأجواء. زرقة السماء وصفائها توحي للشعراء توصيفها. ينشدُ ابن حميدس:
وَزَرقاءَ في لَونِ السَّماءِ تَنَبَّهَتْ…لِتَحبِيكِها ريحٌ تَهُبُّ مَعَ الفَجرِ
يَشُقّ حَشَاها جَدولٌ مُتَكَفّلٌ…بسَقيِ رياضٍ أُلْبِسَتْ حُلَلَ الزَّهرِ
نسيم عليل في يوم ربيعي بديع يمر بأجواء هادئة، يحاكيه الشيخ الخطي في قصيدته “هذا الربيع الطلق”:
خذ ما استطعت من الربيع بلذة…هذا أوان الفوز بالأوطار
ماتت نفوسٌ لا يلذُ لها الهوى…وعمى لجفن مطبق الأشفار
إن الربيع هو الزعيم بمحو ما…خط الشتاء في النفس من أكدارِ
فاسْتَجْلِ طلعته وكن كطيوره…غَرِدِاً وصفق كالغدير الجاري
مكانٌ تتجلى فيه الروح في فسحة من الفضاء وسط الواحة الخضراء يخر فيه الماء خرا. مروجٌ تنتشر في احضانها الأشجار الباسقات الزاهية بثمارها الوارفات. هنا تينٌ وتوتٌ وهناك رمانٌ وعنب. كعكٌ ولوز. موزٌ وبوبي. بطيخ وليمون. ترنج وررانج. يقول أحمد شوقي:
تِلكَ الطَبيعَةُ قِف بِنا يا ساري…حَتّى أُريكَ بَديعَ صُنعِ الباري
الأَرضُ حَولَكَ وَالسَماءُ اِهتَزَّتا…لِرَوائِعِ الآياتِ وَالآثارِ
مِن كُلِّ ناطِقَةِ الجَلالِ كَأَنَّها…أُمُّ الكِتابِ عَلى لِسانِ القاري
ربوعٌ قضى فيها الإنسان اجمل لحظات عمره من الساعة التي وعى فيها مجريات الأمور حوله. مرتع الصبا ومحفل نمو العقل والبدن، وتشرب الأخلاق والمبادئ والقيم، وتعلم القراءة والكتابة ،ونهل العلوم والآداب، وبداية الاحساس بالاعتماد على الذات، والامتزاج بالناس، ولذة عنفوان الشباب، وتجارب شقاوة الأضداد، وذكريات الأمل، واستشراف المستقبل، والسعي بالعمل، وصحبة الأصدقاء، وما لذ من طعام، ورق من نسيم، وطاب من غرام الهوى، وصفى من الحب في الجوى، وتحقق من نجاح. كل ذلك ساقته الأقدار ومجريات الأزمان من غير تكلف أو قصد حتى لازم الروح وأبى أن ينفك عنها.
هذا التفاعل في أثير الوطن والالتصاق بترابه يولد في الروح حب الأرض التي ربينا عليها والسماء التي استنشقنا هواها فلم يعد يهمنا بارحها ولا سموم رياحها ولا وهج شمسها ولا حر صيفها ولا ظلمة ليلها ولا ظلم أهلها. ما نذكر منها ولها إلا ربيعها وعذب مائها وصفاء اجوائها وعليل نسيمها.
هذا هو حب الوطن. وفاء مستمر دون منة. الوطن الذي اكرمك. ظلّلتك سماؤه وتنفست هواءه وشربت من عذب مائه وغدتك ثماره وغمرتك نعمه واختلطت خلايا جسدك بترابه وأحبك ناسه وحمتك من جور العوادي اسواره، لا بد أن تكون في الشدائد مخلصًا له كما هو دائمًا لك وفيًا { هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ }. يقول أحمد شوقي:
اختلاف النَهارِ وَاللَيلِ يُنسي…اُذكُرا لِيَ الصِبا وَأَيّامَ أُنسي
وَصِفا لي مُلاوَةً مِن شَبابٍ…صُوِّرَت مِن تَصَوُّراتٍ وَمَسِّ
عَصَفَت كالصَّبَا اللَعوبِ وَمَرَّت…سِنَةً حُلوَةً وَلَذَّةُ خَلسِ
كُلَّما مَرَّتِ اللَيالي عَلَيه…رَقَّ وَالعَهدُ في اللَيالي تُقَسّي
وَطَني لَو شُغِلتُ بِالخُلدِ عَنهُ…نازَعَتني إِلَيهِ في الخُلدِ نَفسي
وَهَفا بِالفُؤادِ في سَلسَبيلٍ…ظَمَأٌ لِلسَوادِ مِن عَينِ شَمسِ
شَهِدَ اللَهُ لَم يَغِب عَن جُفوني…شَخصُهُ ساعَةً وَلَم يَخلُ حِسّي
الهدوء يعم الأجواء. بيد المزارع منجل يقص به السعف ويشذب به الأغصان، وآخر بيده صخين يحرث به الأرض وينثر البدور. لا صخب ولا ضجيج. لا تسمع فيها سوى حفيف الأشجار وزقزقة العصافير وتغريد البلابل وبطبطة البط وكأكة الدجاج وصياح الديوك ونقيق الضفادع وبعبعة الماعز ومأمأة الخراف وثغاء الغنم وخوار البقر وخترشة ابو عريس، والصوت الحزين لحمام بدي.
اصوات تذهب القلق وتهدئ الأعصاب وتحسن الأدراك وتنمي الوعي وتزيد نسبة الذكاء. البيئة الريفية تساعد في تحسين الحالة النفسية. وفي التراث المروي: “ثلاثة يجلين البصر، النظر إلى الخضرة، والنظر إلى الماء الجاري، والنظر إلى الوجه الحسن”. يقول شمس الدين بن العفيف التلمساني:
ثلاثةٌ يُذهِبْنَ عنِ المرءِ الحَزَنْ… الماءُ والخُضرَةُ والوجهُ الحَسَنْ
البيئة الريفية مصدر تسلية وإلهام علمي وثقافي واجتماعي. مشهد يرسم في مخيلة الفنان صورة لا متناهية لبساتين الواحة الحالمة.
حمامة بدي من موروثات الواحة المميزة. بيئيًا هي جزء من الحياة الفطرية، وثقافيًا تدل على الالفة والحنان. حمام بدي يمام رملي بني صغير متوسط الحجم يتميز بتاج رمادي فاتح يميل للون الأبيض وطوق أسود غير متصل من الأمام يعتليه بياض ومنقاره أسود.
يقال إن حمامة بدي تنوح باستمرار وخاصة في وقت الظهيرة لإنها تبحث عن بنتها التي فقدتها فتقول: يا فاته يا بتي، وين رحتي وما جيتي. هذه الأسطورة تخلق تعاطف معها فلا يسعى الصبيان لأداها. يقول أبو الحسن الشاذلي:
نوح الحمام على الغصون شجاني…ورأى العذول صبابتي فبكاني
إنَّ الحمامَ ينوحُ من ألمِ النوى…وأنا أنوحُ مخافةَ الرحمن
على جدع نخلة من بقايا نخلة يتيمة، جلس عمار يتأمل بقايا واحته الجميلة، ينصت لنوح حمام بدي ويسترجع ذكريات الأيام الخوالي. أخذته الذكريات بعيدًا إلى زمن مضى. سرح عمار بخياله وسبح في احلام اليقظة.
الصبيان يستمتعون بالتسلل إلى البساتين ونط الحضران وتسلق القضوب لقطف اللوز من اغصانها ونتف الليمون من اشجارها وخرمطة الخلال من نخيلها… اعمال تزعج الفلاحين ولكن الصبيان يجدون فيها ايما متعة… يستشعرون بلذة اكل ما يجمعونه فكأن ما في بيوتهم من هذه الأثمار ليس له طعم… ويتفاخرون فيما بينهم بقدرة الواحد منهم عل نط الحضار وتسلق الأشجار وقطف الثمار… والأهم من ذلك كله القدرة على الهروب من امساك الفلاح بهم وضربهم بلا رحمة ضربًا مبرحا، أو شكواهم عند اهاليهم لينالوا الجزاء مضاعفا.
الصبايا فرحات متزينات بثياب طويلة زُركشت بنقوش بديعة ورسوم انيقة فبدين من خلف شيلاتهن كورود بازغة من اغصان نظرة لأشجار باسقة مخفية خلف سور من الخوص والجريد صنعه البستاني ليحمي بستانه من العبث. الورود تتناثر في الغدير بأشكالها وألونها وأغصان خضراء تضفي الحيوية والنشاط في روح من ينظرها. ويتأمل المشهد فيرمق وجوه الصبايا بين حينٍ وآخر، وهن يعشن احلام المستقبل… يتضاحكن فرحات بجمعهن… لا يشعرن بمرور وقتهن… وهن في شوقٍ لدروسهن لينهلن من العلوم الحديثة… للبقاء مع شللهم ليتهادينَ الورود مع بعضهن بسرور… ويتبادلن ابتسامات المحبة والتحيات والتبريكات والضحكات والكلمات الطيبة…
كانت “شوقٌ” الرشيقة الأنيقة الرقيقة الباسمة الضحوكة اكثرهن فرحًا وحركة ونشاط… بنيتها الطيبة وسريرتها النقية ومحبتها النابعة من قلبها الحنون تقترب شوق لكل رفيقاتها دون استثناء لأحد ممن حولها فيشعرن جميعًا انهن على مسافة متساوية منها وأنها مركز اتكاء لهن، فيتقن لسماع عذب كلامها واطالة النظر في جميل ابتساماتها.
يفيق عمار من تفكيره العميق، ويستدعي انتباه صاحبه بصوتٍ مرهف حزين. يسكت ويطرق برأسه إلى الأرض. أتذكرُ هذا المكان يا عزيز؟
هنا كان غدير ماء بديع الجمال، علقتْ صورته بذاكرتي منذ رأيته أول مرة. كنا نمر عليه مسرعين وأنا اسير مع والدي متجهين إلى حمام أبو لوزة. كان والدي يحرص على أخذي لهذا الحمام كل يوم ليعلمني السباحة وأنا في الرابعة من عمري. كان الآباء يحرصون على تعليم ابنائهم السباحة في سنٍ مبكرة. وإذا مررنا بهذا المكان تتعلق عيني في المياه التي تغمره ومحيطه المتعرج إلى أن نتخطاه. كان ماؤه الصافي ينساب بهدوء…يتلألأ كعسجد من فضة وأشعة الشمس تسطع فيه. يصف أبو ماضي المشهد:
الشَمسُ تُلقي في الصَباحِ حِبالَها…وَتَبيتُ تَنظُرُ في الغَديرِ خَيالَها
غدير الخرارة حوض ماء شفاف رقراق ترى قاعه واضحا والحراسين تسبح فيه. شكله الهندسي اقرب إلى مربع بأضلاع غير منتظمة وضعت على مدارها جدوع نخيل لتحمي جدرانه من الانجراف وتوفر مكان للجلوس.
الحراسين اسماك صغيرة شبه استوائيه طولها في حدود 7سم وتعيش في المياه العذبة والمالحة وشبه المالحة، واسمها العلمي (Aphanius dispar). لهذه الحراسين وظيفة ييئية هامة، فهي تأكل اليرقات التي تولد البعوض. يشكل الحرسون جزء من الدورة التكاملية البيئية الطبيعية التي تساعد في استمرار الحياة. كانت المنطقة تعاني من البعوض الذي يتسبب في انتشار مرض الملاريا. مرضٌ كان متأصلًا في المنطقة بسبب تكاثر يرقات البعوض في المسطحات المائية يطيئة الحركة. كانت الحراسين ضروررة بيئية لمحاربة هذا المرض.
إذا جلست عل جدع النخلة وجعلت قدمك في الماء الذي لا يتعدى عمقه 50 سم، تأتي الحراسين لتأكل ما في القدم من حراشف ونتوءات الجلد الخشنة وقشور الجراح الناشفة فتنظفها.
تصب في الغدير مياه متدفقة من عدة عيون دون انقطاع. لم يكن مصدر الماء الذي يصبُ في هذا الغدير يثير الفضول المعرفي عند الصغار. وجود الماء ووفرته لا يبعث عندهم حافزًا للتساؤل، ولا يثير فضولهم. الماء في كل مكان. إذا توفر شيء، يصبحُ شيئًا عاديًا لا يستدعي الفضول لمعرفة خفاياه. بل وربما لا يقدر الناس قيمته ولا يستشعرون فضله ولا يحمد الكثير منهم نعمته. وجود الشيء والتعود عليه يلغي العجب به والتعجب منه والاهتمام به. هذه قاعدة عامة.
تتدفق المياه باستمرار دون انقطاع طوال ساعات الليل والنهار من عيون ارتوازية نباعة. يأخذ الناس منها حاجتهم لري مزارعهم والاستخدام الآدمي والحيواني، والفائض يجد طريقه إلى البحر. عيون مياه عديدة تتوزع على رقعة المنطقة القريبة من الغدير. هذه العيون تسقي النخيل والمزارع وتوفر الماء للاستخدام الأدمي وتربية الماشية من ابقار وماعز وغيرها من الدبش التي تناسب تربيتها البيئة الريفية.
وهذه العيون أما أن تكون داخل الأراضي الخاصة بالمزارع المملوكة أو عامة مفتوحة للجميع. ومن العيون العامة الشهيرة: الخباقة وحمام أبو لوزة والرواسية والقصاري والمربعة والقصير واللبانية. ولعين المربعة ميزة خاصة فمياهها تكون باردة في فصل الصيف، ولذلك تكون مقصدًا للشباب إذا اشتد وطيس الصيف.
تصب هذه العيون في قنوات مائية ترابية تسمى ضلوع. كان الماء ينساب في كل مكان. لا يوجد طريق زراعي لا يكون على جانبيه ضلعان يتدفق فيهما الماء بغزارة. هندسيًا، الضلع خط طولي يحدد اشكال معينة (مثلث-مستطيل)، وفي المصطلح الزراعي، الضلع هو قناة قصيرة أو متوسطة العرض والعمق تجري فيها مياه الري الزراعي. وكانت الضلوع منتشرة انتشارًا واسعًا في واحة القطيف وتشكل الأوردة المائية لسقاية البساتين والنخيل.
خرير الماء بصوت ناعم يشعرك بنبض الحياة في بساتين الواحة البديعة. غرب الغدير هناك شلال صغير ينساب منه الماء بسبب الاختلاف النسبي بين الساحة الذي يقع فيه الغدير والأرض التي تجاورها من الغرب. منظر الشلال بديع ومريح، ومن خرير مائه سمي هذا المكان الخرارة.