{قصة حقيقية بأسماء مستعارة}
“وَفي الناسِ مَن يَرضى بِمَيسورِ عَيشِه، ِوَمَركوبُهُ رِجلاهُ وَالثَوبُ جِلدُهُ؛
فلا مَجدَ في الدُنيا لِمَن قَلَّ مالُهُ، وَلا مالَ في الدُنيا لِمَن قَلَّ مَجدُهُ” (أبو الطيب المتنبي)
حين يسود المكان الهدوء، يشعر الحاج رضوان بالسكينة ويأنس لمن معه، يبتسم ابتسامة عريضة، ويترنم ببعض ابيات التراث… ويكررها كلما عنت له حالة من استشعار الماضي.
“رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال، ومن ليس له مال فعنه الناس قد مالوا” – “يمشي الفقير وكل شيء ضده، والناس تغلق دونه أبوابها” – “حتى الكلاب إذا رأت يومًا فقيرًا عابرًا، نبحت عليه وكشرت انيابها؛ وإذا رأت يومًا غنيًا مقبلا، هشت إليه وحركت أذيالها”.
هذه الترانيم تفصح مشاعر الحاج رضوان التي كان يحملها معه من لحظات صباه ورافقته إلى حين شيبته… صعوبات وتحديات واجهها… متاعب متعددة كابدها، وشدائد أوجبت عليه تحملها… وضرورات استلزمت منه العناء للتغلب عليها.
[كلما سنحت الفرصة للحاج رضوان واستأنس لإصغاء من معه يحكي شيئًا مما يختلج في خاطره ويثير شجونه]
مع بداية الستينات من القرن العشرين المنصرم، صار للسلع الاستهلاكية شأن في عالم التجارة لأنها اصبحت من الأساسيات المعيشية في المجتمع. استنادًا لتوصيف ماسلو الهرمي، تترتب حاجات الإنسان والدوافع التي تُحرّكه تبعًا للاحتياجات الفسيولوجية، والأمنية، والاجتماعية، وحاجته للتقدير وتحقيق الذات.
الواقع يقول إن التمكن من امتلاك الأنظمة والأجهزة الحديثة والاستفادة منها، يعطي مقتنيها شعورًا بالفخر وتحقيق الذات. وهذه الحالة تنطبق على الأشخاص كما تنطبق على الكيانات التي تشعر بالفخر بإنجازات مجتمعاتها لإنها تضعهم في مصاف أو على الأقل في ركب المجتمعات المتطورة الراقية، فمجد القومِ يعطي الفرد فخرا، ومجدُ الفردِ يعطي القوم باعا، فالعلاقة بين الفرد ومجتمعه متبادلة لمصالح لا تنفك عن بعضها البعض.
كما إن اقتناء هذه السلع وحيازتها تنعكس في النظرة الاجتماعية للناس بعضهم لبعض لإن فيها استعراض لاستطاعة الأفراد والعائلات المادية، وبالتالي ابرازهم وترتيب مكانتهم الطبقية في السلم الاجتماعي الذي يسعى الكل برغبته الإنسانية الطبيعية لارتقائه لكسب التقدير وتحقيق الذات.
تحسين مظاهر الحياة واساليب المعيشة يعطي صاحبها هيبة ومكانة وقبول عند الآخرين. إنها النزعة البشرية التي تدفع البشر لتطوير انفسهم وتحسين معيشتهم بالمقارنة والمنافسة فيما بينهم. وهكذا، نشطت تجارة الحاج رضوان في شراء وبيع السلع والتجهيزات المنزلية، وافتتح له حيفيز واسع في وسط ميدان سوق البلد الكبير وأصبح بفضلها تاجرًا معروفًا يشار إليه بالبنان.
لكل زمان سلعة وتجارة {وتلك الأيام نداولها بين الناس}. متى ما تغيرت انواع السلع وطرق تسويقها ومعاملاتها المالية تبدلت انماط التجارة ونوعية الاقتصاد الذي يرفع اقوامًا ويهبطُ بمن لم يلحق بركب المتغيرات.
بدل من العمل في بيع التمور والسلوق والدبس والجريش والدقيق والشربات والحِبوب والجِرار والمساخن والدواشق والتكيات والكرار والمحاش وكل ما هو محلي بسيط، تحول الحاج رضوان لتجارة المعدات والآليات المستوردة، متخصصًا في الاجهزة الكهربائية وقطع الأثاث الحديث المستورد، التي غزت الأسواق حينها وصارت من متطلبات الناس كسلع استهلاكية بدأ الطلب عليها يزداد كونها وسائل تسهل انجاز المهمات والأعمال المنزلية وتساعد في توفير الرفاهية.
بدأ الناس يبتعدون عن البيوت القديمة المبنية من الطين والحجارة والجص والمكونة من دور أو دورين والبعض من ثلاثة ادوار والقليل من اربعة ادوار وتسكنها عائلات ممتدة ومقسمة إلى اقسام يقال لكل قسم منها سهما يسكن فيه قسم من العائلة؛ فيكون الأخوة وأبناء العمومة في بيوت مشتركة أو متجاورة، وعادة ما تخصص غرفة لكل فرد متزوج يعيش فيها مع اولاده.
كانت البيوت صغيرة، ولكنها تتسع للجميع بفضل عيونهم القانعة. اثاث البيوت بسيط جدًا، لا يتعدى مديد وحصر ودواشق تفرش ليلًا وتطوى نهارًا لتسمح بالحركة في المنزل لأن هذه الدواشق ربما تغطي كافة مساحة الغرفة لأنها توضع في صفوف متراصة لا فسحة بينها كي توفر مكانًا يكفي لنوم افراد الاسرة، فالغرفة تستخدم كمكان للمعيشة نهارًا وللنوم ليلا.
يخيط النداف الدواشق وفقًا للطلب فمنها ما يخصص للجلوس ومنها ما هو للنوم ويسمى منام. ومهنة الندافة مهنة اصيلة متوارثة واسعة الانتشار لعمل الفرش والوسائد والمساند القطنية حيث يندف القطن ويحشى به القماش المعد له ويخاط بعد ذلك. ومع غزو الأثاث المستورد اسواقنا اختفت هذ المهنة ربما كليةً من الأسواق ومثلها اختفت مهنة صنع المديد والحصر ولم تعد تُرى إلا في الرسومات والمتاحف. أسباب الاختفاء عديدة، منها عدم السعي لتطوير الصناعات القديمة وتحويلها لصناعات حديثة بمكننتها وتحسين منتجاتها وخطوط انتاجها لتصبح ذات جدوى اقتصادية تنافس المنتجات المستوردة المماثلة.
في الأجواء الحارة لفصل الصيف تقوم الفتايا بنقل الدواشق أو المنمة مع المديد أو الحصر التي تفرش تحتها إلى سطح المنزل بعد تنظيف ارضية السطح ورشها بالماء لتبريدها قبيل الغروب إذا كان الجو “بارح”، ويتم هذا العمل يوميًا. في هذا الوقت تكون اقامة العائلات ليلًا فوق اسطح المنازل وإذا اشتدت الحرارة والرطوبة يتم وضع غطاء على المنام ليخفف من تشربه للرطوبة الشديدة، التي تجعل الشعور بدرجة الحارة أعلى بكثير من مؤشر قياسها.
البيوت متلاصقة وملمومة مما يجعل الجيران اقرب الى بعضهم البعض كعائلة واحدة، فيتحادثون ويتسامرون ويتبادلون الأطعمة من خلف جدران السطوح التي تفصل بين المنازل، مما يخلق أُلفة اجتماعية قوية.
صارت البيوت تُبنى بطراز معماري حديث وتؤثث بكنب وكراسي وطاولات وأسرة ومراتب، وتجهز بثلاجات وفريزارات وغسالات ومجففات وأفران ومواقد غازية وتلفزيونات وتلفونات. مع مرور الوقت لم تعد هذه السلع الحديثة من الكماليات، بل اصبحت عند البعض من الضروريات التي لا يستغنى عنها. وهكذا ازدهرت تجارة الحاج رضوان، وتغير بذلك حاله ومكانه.
هذه السلع أخذت مكانها في البيوت التي تغيرت معالمها لتصبح فلل واسعة، وبعد ان كان اثاث البيوت القديمة لا يتعدى مدة وحصير وأسُرة من جريد ودواشق ومنزات للرضع، وقد يكون في منزل من تيسر حاله بعض قطع من الزل (السجاد) ودواشق وتكيات يتزين به مجلسه العام، اصبحت الفلل الحديثة مجهزة ومليئة بمختلف الأجهزة الحديثة.
كانت عمليات الاستيراد تتم عن طريق البحرين عبر جمرك الميناء البحري للمدينة. هذا المنفذ البحري كان واحدًا من أهم الموانئ على سواحل الخليج العربي تصدر منه المنتوجات المحلية وتستورد عن طريقه المصنوعات العالمية. تعامل الحاج رضوان مع ابو سجاد وهو من المتعهدين المعتمدين بنقل البضائع من الجمرك إلى السوق. كان ابو سجاد يملك سيارة شحن شوفرليت لنقل البضائع تسمى ستيك‑بدي امريكية الصنع رُكِب عليها صندوق صنع في ورشة نجارة محلية. لم يكن في المدينة مثل هذه السيارة إلا عددًا قليل لا يتجاوز عدد الأصابع.
أما نقل البضائع من البحرين فيتم بواسطة اللنجات أو الأبوام، وكان المتعهد بنقلها لمحل الحاج رضوان هو أبو جواد المعروف بخبرته وامانته وحسن إدارته لهذا العمل الذي كان يدر عليه ارباح جيدة رغم ما يترتب عليه من مسئوليات لحماية البضائع من المخاطر التي قد يضطر لغرمها احيانًا. كان ابو جواد يستأجر اللنج لحسابه لينقل بضائع التجار من وإلى البحرين ومن ثم يستوفي أجرة النقل منهم.
أصبح معرض الحاج رضوان مليء بالبضائع المتنوعة؛ ايسبوكسات (ثلاجات) أسيات (مكيفات) ومراوح ومكائن خياطة ستينجر صنعت في امريكا، تلفزيونات وراديوهات وسحارات اسطوانية مصنعة في هولندا، ساعات يد رولكس ووستند وأوميقا وساعات حائطية ذات البندولات المتدلية وساعات تنبيه بنغمات مختلفة مصنعة في سويسرا، واقلام شيفر امريكية وباركر مصنعة في انجلترا، ومواقد طبخ غازية وأخرى تعمل بالكيروسين بعضها يسمى دافور والبعض الآخر يسمى أم الفتل وأتاريك إضاءة تُشعل بالكيروسين وأتاريك يدوية تعمل بالبطاريات الجافة مصنعة في بريطانيا ويزيد الطلب عليها في شهر رمضان المبارك، وأثاث من ارائك وأسِرة وبلنكات وكاروكات مصنعة في ايطاليا.
يمتلئ المعرض بالزبائن صباحًا ومساءً، منهم من يشتري ومنهم من يتفرج على ما استجد من سلع الكماليات الأوروبية واليابانية التي تنافسها برخص اسعارها، وكان الناس حينها ينعتونها ب “الجاباني” أي ذات النوعية الرديئة مقارنة بالمنتجات الأوروبية. بمرور الوقت تغير مفهوم الناس عن جودة المنتج “الجاباني” وأصبح نعتًا لنوعية البضاعة الممتازة مثلما تغير نعت البضاعة الكورية مع تطور جودتها وكسبها لثقة أكثر وثاقة من الناس. قبول واستحسان المستهلكين للمنتج تعطيه سمعة جيدة ترفع قيمته السوقية لإنه كون صورة مثالية في عقول الناس وتفكيرهم.
علاقة الحاج رضوان بالناس كانت أكثر من جيدة في أوج ازدهار تجارته. وجه باسم وكلام طيب ولباقة في الحديث وكرم للجميع ومساعدة للضعفاء وحسن ضيافة. إن بناء علاقات جيدة بين طرفين يؤدي إلى افتراض ضمني لنية إيجابية يجعل كيمياء التفاعل بينهما أكثر فعالية. يُعرف هذا النوع من العلاقات الإنسانية بمصطلح الرابوت (rapport) الذي يعني وجود تناغم ودي مع الطرف الآخر بسبب وجود اتفاق متبادل وتفاهم وتعاطف يجعل التواصل بين الطرفين سهل المنال.
توفرت السيولة المالية مع بداية ازدهار اقتصاد البلاد، فزادت القوة الشرائية النقدية وفعلته دينًا. اصبح للتجار والبائعين ثقة في زبائنهم وبالأخص الموظفين والعمال منهم اصحاب الرواتب الثابتة التي يمكن ضمانها لأنهم يعملون في مؤسسات ودوائر وشركات تعطي الأجور بشكل منتظم فطمعَ التجارُ والبائعون في استجلابهم وكسب ولائهم كزبائن دائمين مادام لهم دخلًا ثابت.
زاد التعامل بالدين في البيع والشراء بما يسمى البيع على “الدفتر” لأن مبالغ المديونية وتفاصيلها تسجل فيه ويسمى “الدفتر التجوري”. يأخذ الزبون البضاعة ويقول سجلها “على الحساب” أو “سجله في الدفتر” ليتم تسديده لاحقًا كاملًا أو اقساطا، وعادة ما يحاسب الموظفون صاحب المحل وقت استلام رواتبهم مع نهاية الشهر.
هناك من اصحاب المحلات من لم يتعامل بحساب الدفتر فوضعوا يافطات في واجهة محلاتهم تقول: “الدين ممنوع والرزق مضمون” أو “السلف تلف”، لكن الحاج رضوان ممن تعاملوا بالبيع بالدفتر. شراء من الموردين والمتعهدين بالدين، وبيع بالدين على كثير من زبائن المحل، إضافة إلى التسليف النقدي للأصحاب والأقارب ومد يد العون للمحتاجين. دينٌ في دين والبرمة مخرومة، لم تتساوى المعادلة: الربح = البيع – الشراء. كانت الأرباح افتراضية، أرقام مسجلة في الدفتر لكنه واقعًا في ذمم المديونين.
تواجدت نقود في صندوق الحاج رضوان التجوري، فمتع نفسه وعاش عيشة بدخ. بنى يبت مسلح حديث تحيطه حديقة جميلة مُلئت بأنواع الأشجار المثمرة وكثير من اشجار الزينة واصناف الورود، وانتقل من بيتهم العربي المبني بالحجارة البحرية والطين والمسقوف بجدوع النخيل والخوص والجريد إلى بيت ذي اسقف وأعمدة خرسانية مسلحة بالحديد وصُبغت جدرانه وأسقفه بالبوية، وكُسيت ارضياته بالكاشي، وفيه غرف نوم واسعة بها نوافذ زجاجية وأبواب خشبية مزخرفة لها مقابض وتقفل بالكيلون، وحمامات بها مغاسل ومغاطس ودورات مياه جدرانها مغطاة بالسراميك وارضياتها بالبورسلان، وفيه مياه تصب من حنفيات مطلية بلون الذهب، وتصرف المياه السائلة النافذة عبر مواسير تخرجها الى بيارة حفرت خارج المنزل.
خصص الحاج رضوان مجلسًا أنيقًا وواسعًا في منزله أثثه بكنبات مريحة لاستقبال الضيوف وغرفة طولية مجاورة كبيرة فيها كراسي وطاولة طعام مغطاة بمفرش مزركش فاخر ومزينة بباقات ورد صناعي ملون جلبه بالتوصية من الهند.
فرح الحاج رضوان بالبيت الجديد وأولم فيه وليمةً كبيرة دعا إليها قرناءه في السوق وزبائنه وجيرانه واقرباءه، وكل من صادف في طريقه وقابل، حتى غدت هذه الوليمة حديث الناس ومضرب مثل لهم. واستمر المضيف في بيت الحاج مفتوحًا طوال العام لمن أراد أن يستضاف وصار يتحلق حول سفرته كل يوم من شاء لتناول افضل وأشهى وجبات الغذاء والعشاء من لحم ورز وخضار وفواكه مجانًا دون أن يكترث بتكاليفها ولا بمديونيتها، ولا بتعب اهله في تحضيرها.
وجلب الحاج رضوان إلى مجلس بيته تلفزيون فصار مقصدًا لمن اراد مشاهدة الأفلام العربية والاجنبية المترجمة والمدبلجة وحلقات المصارعة وبرامج التوعية الصحية التي تحث الناس على الالتزام بالنظافة وضرورة غسل الأيدي بالماء والصابون وحفظ الأغذية بطرق سليمة، وشرب الماء النظيف، ومكافحة الحشرات والقضاء عليها، والوقاية من الأمراض المعدية وضربات الشمس والحث على مراجعة الطبيب إذا لزم الأمر للعلاج.
كان الحاج رضوان رجل خير فساهم بمبالغ مجزية في حفر بئر ماء ارتوازي وبناء حمام شعبي ليتمكن أهل الحي من الاستحمام فيه وغسل ملابسهم ومواعينهم وشراء مولد كهرباء يعمل بالديزل وتمديد اسلاك هوائية على اعمدة خشبية مرتفعة لإيصال التيار الكهربائي إلى منازل الحي.
اصبح الحاج رضوان محط انظار من حوله ونال ودهم، خاصة وأن الكثير منهم كانوا يأكلون من سفرته وينالون معونته دون عناء، فكان إذا مر على الناس في الشوارع والطرقات يسمع ما يسره من تحيات ويرى ما على صفحات وجوههم من تقدير وتبجيل فيشعر بالفخامة في نفسه وعظم مقداره ومقامه عند الناس,
انشغل الحاج رضوان بالناس عن عمله وأدار ظهره لحيفيزه وانشغل بالمظاهر الاجتماعية السطحية: عزايم وسفرات وسوالف وضحكات، وأوكل عمل محله لصبي يعمل عنده صار مسؤول عن كل شيء في المحل خاصة بعد أن تعلم القراءة والكتابة والحساب في مدارس محو الأمية الليلية. أوكل الحاج رضوان للصبي حسان مسؤولية الدفتر والبيع والشراء ومتابعة ما إلى المحل من ديون لذى الزبائن وما عليه من التزامات للموردين. تعلم حسان في المدرسة الحساب، لكنه لم يدرك أو لم تهمه مسألة البيع بالدين والأضرار المترتبة عليه وصعوبة تحصيله من الأفراد وضرورة ضبط الإيرادات النقدية مقابل الالتزامات المالية، فما حك جلدك مثل ظفرك.
اصبح تحصيل الديون المستحقة للمحل بطيء وتأخر تسديد الديون التي حل مواعيدها للموردين. فلجأ الموردون إلى عرقلة توريد البضائع للمحل وإذا زودوه ببضاعة أتوا بالرديئة والمعطوبة منها والرجيع من المحلات الأخرى فابتعد الزبائن عن محل الحاج رضوان الذي لم يعد فيه من البضائع ما يلفت انتباههم ويلبي احتياجاتهم حتى أتى اليوم الذي انكسرت فيه تجارته.
كان الدفتر أحد اسباب انكسار العديد من التجار وخسارتهم الغير قابلة للتعويض ومنهم من استصدر صك افلاس رسمي يعفيه من تبعات مطالبة الدائنين. بعكس بعضٍ منهم، لم يرق لأبي رضوان استصدر صك افلاس يمكنه من التوصل إلى اتفاق مع دائنيه لتسوية ديونه مع احتفاظه بإدارة نشاطه التجاري بل حزم أمره على تسديد كل ما عليه من ديون ومستحقات. “الدين همٌ في الليل ودلٌ في النهار”.
لم يبقى للحاج رضوان خيارًا غير بيع بيته الجديد ليساعده في تسديد ديونه، فمطالبة الدائنين قضت مضجعه وراكمت عليه همومه، أما ماله من استحقاقات عند بعض الناس فذهبت أدراج الرياح. ترك الحاج رضوان حيفيزه الذي عمل فيه سنين عديدة، وباع البيت الجديد ورجع للسكن في بيته القديم بعد أن هجره عددا من السنين، كما باع مزرعة كبيرة كان قد اشتراها وبنى فيها قاعة كبيرة وبركتي سباحة بمرافقهما، واحدة للنساء وأخرى للرجال وأحيطت بأشجار الزينة وأنواع الورود من جوري وجهنمي وفل وياسمين.
باعت زوجة الحاج رضوان كل ذهبها الذي كان يهديه إليها باستمرار في كل مناسبة، كما ما باعت ما آل إليها من إرث أبيها، فصار عند الحاج رضوان ما يكفيه لسد ديون الموردين ودفع استحقاقات العمال الذين اشتغلوا معه ودفع كامل المستحقات التي عليه: إيجار الحيفيز لصاحب العقار المستأجر والناقل البحري للبضائع من البحرين ومتعهد نقل البضاعة من الجمرك إلى محله في السوق ورواتب عماله المتبقية لهم ولكل من له شيء في ذمته من أهل السوق والعاملين فيها واصحاب محلات التموين الغذائي للولائم التي يكن يستضيف الناس فيها. لم يقبل الحاج رضوان انقاص أيً من دائنيه مالًا مترتب عليه حتى لمن لمح باستعداده لذلك.
لم يرق للحاج رضوان الالتحاق بالعمل في الشركة التي عمل فيها كثير من ابناء بلدته وحصلوا منها على امتيازات مالية ومعيشية وثقافية واجتماعية مجزية، وقرر أن يعمل لحسابه ويكون سيد نفسه. رأى الحاج رضوان في الوظيفة نوع آخر من العبودية، ولم يكن باستطاعته أن يقول (يس سير) لأحد كما يفعل آخرون في مكان عملهم.
لم يعد الحاج رضوان ذلك الرجل البشوش الباسم الآمر الناهي الجالس خلف مكتب حيفيزه بهندامه الأنيق مرتديًا الثوب الأبيض الناصع ويضع فوق رأسه الكوفية البيضاء والعقال الأسود، يستمع إلى نشرات اخبار وبرامج محطة البي بي سي من لندن، يحلل اخبارها ويبدي رأيه للجالسين حوله في فحواها ومصداقياتها، وهو يشير بين الحين والآخر لمن يعمل معه من الصبيان بالشيل والحط وترتيب رفوف المحل وبتريتانته وتحضير الشاي والقهوة وتقديمها للضيوف والزائرين والزبائن في بيالات مذهبة وفناجين صينية.
استأجر الحاج رضوان دكان صغير في اطراف السوق وأصبح يبيع ويشتري فيه معدات الخردة القديمة والمعطوبة ويعمل على توضيبها واصلاحها وتجديدها ثم عرضها للبيع بأسعار مناسبة تغري المحتاج لها من طبقة المستهلكين المتوسطة ممن تعوزهم المادة لشراء الجديد أو يرون في ذلك نوع من التدبير والتوفير فهي تكفيهم عناء دفع مبلغ أكثر بكثير لشراء معدة أو آلة جديدة فيحصلون على أكبر قيمة من قوة شرائهم النقدية.
كان المشترون يثقون بالحاج رضوان وبصلاحية وجودة المعدات والآلات الموضبة والمجددة التي يشترونها منه فهو معروف بالأمانة والقناعة ومراعاته للناس واحتياجاتهم وظروفهم خاصة الضعفاء منهم والمتعففين، فهو يعتبرهم مثل نفسه، مما يجعلهم على ثقة تامة بأن القيمة الفعلية للأشياء التي يشترونها من الحاج رضوان عادلة وتساوي أكثر بكثير من السعر الذي يلزمهم لشراء الجديد مثلها. جاء في الأثر: “اعدل يا ابن آدم كما تحب أن يعدل عليك، وأوف كما تحبّ أن يُوَفى لك، فإن بالعدل صلاح الناس”، وكان الحاج رضوان نعم من التزم بقوله تعالى: {أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} أي ألا تظلموا وتبخسوا في الوزن.
لم يكن العمل الجديد مناسبًا لعمر ألحاج رضوان فهو يتطلب قوة بدنية ولياقة ويعرضه لملوثات سائلة وهوائية وسمعية وبصرية فالمحل ورشة تعمل بأدوات بدائية. هذا هو حال الدنيا، وكل شيء إلى نهاية، فلم تعد ابتسامته المعتادة تعلو محياه… مالت رقبته واحدودب ظهره واخشوشنت يداه وضعف سمعه وغارت عيناه تحت عظمتي حاجبيها… ولم يعد يقهقه كما كان عندما يضحك لأتفه الأشياء. ذهب الزمن الذي كان يرى في أشياء كثيرة طرافة وفكاهة تدغدغ مشاعره وتثير ضحكته.
تناقص مريدي الحاج رضوان، حتى إن بعض من كانوا يستأنسوا بالمسامرة في مجلسه والتمتع بخيرات مائدته يمرون عليه وكأنهم لم يعرفوه يومًا من الأيام ولم يقابلوه وإن قابلوه في مكان اشاحوا بوجههم عنه. فالناس تميل إلى من عنده مال، تقدره وتقدمه حتى وإن لم يستفيدوا من ماله شيء، وتستصغر من ليس له مال ولو خدمهم وتفانى من اجلهم بل واكرمهم بقليل ما عنده، “اللي ما عنه قرش ما يسوى قرش”، وحتى لو زعمنا المبالغة في حدة هذه المقولة إلا إن واقع تعامل الناس بعضهم مع بعض يثبتها ، فرضى الناس غايةٌ لا تدرك حتى ولو أكلت ما يعجبك ولبست ما يعجبهم.
الأسباب التي ادت الى خسارة الحاج رضوان وانكسار تجارته واضحة، فهو لم يدرك إن السيولة النقدية التي توفرت له ليست بمجملها ملكه، وما كان له فيها لا يتعدى صافي ربحه بعد سداد كامل قيمة البضاعة وكلما يتعلق بها من مصاريف تشغيلية من حين استلامها من المورد الى تسليمها للزبون، لكن الحاج رضوان تصرف وكأن كل النقد الذي معه هو ملك له يتصرف به متى وكيف شاء.
لابد للتاجر أن يكون حريص، يقدم الوفاء بحقوق الدائنين ويصر على استيفاء حقه من المديونين له. لم يطبق الحاج رضوان هذه القاعدة، فلم يطل به الوقت حتى خسر تجارته وأصبح مُدانًا للموردين اللذين يمونون معرضه بالبضاعة دينًا، فكانت النتيجة انكسار تجارة ، فصار مُدانًا للموردين وله ديون كثيرة غير مستوفاة من زبائنه، وكثيرون هم امثال الحاج رضوان.
اضطر عمران إبن الحاج رضوان لترك مقاعد الدراسة في التعليم العام بسبب هذه الظروف، ليلتحق بأحد المؤسسات التي كانت تستوعب الشباب للتدريب في الأعمال الفية والمهنية مقابل مكافأة مجزية خلال هذه الفترة ومن ثم العمل في المؤسسة برواتب ممتازة إضافة إلى تأمين الرعاية الصحية والسكن المناسب لمنتسبيها وعائلاتهم. تخرج عمران إبن الحاج رضوان من المعهد الفني الذي انتسب إليه وبدأ العمل في المؤسسة التي التحق بها، واستلم أول راتب له مكنه من مساعدة والده في إعالة الاسرة.
بعكس الحاج رضوان، حرص أخوه سعدان على إدارة اعماله بنفسه وجعل اصحابه ورفقاه من رأى فيهم الرغبة لتطوير واقتناص الفرص الاقتصادية واستغلالها وتقديم المصالح المالية عل المصالح الاجتماعية. وفي نفس الوقت ابتعد سعدان عن الصعاليك والطفيلين والانتهازيين وعمن يستشعر فيهم الأنانية والحسد وقلة الأمانة. كما كان ينصت لآراء الناس في بعضهم البعض فيأخذ الحذر والحيطة ممن في صحبته خسارة، مادية كانت أم اخلاقية. كان الحاج سعدان يقظًا ونبيهًا وحذرًا مما ساعد في إنجاح تجارته وبروزه كواحد من رجال الأعمال المرموقين في البلاد فاستثمر في العقار ومقاولات البناء وموادها ونقلها واستحدث مصنعًا للطابوق حين رأى عليه طلبًا في بناء المنازل المسلحة الحديثة.
إستفاد عمران من حياة أبيه المهنية وبدأ يهتم بالنواحي المالية في حياته نتيجة لتأثره بما واجهه أبيه ولما لمسه من فرق بين أبيه رضوان وعمه سعدان في إدارة الأعمال التجارية. مرت حياة عمران وهو يعايش هذه المشاهد والفروقات، وفي النهاية، يقول عمران: الرخاء والشدائد يزولان ويصبحا من الذكريات، ولا يبقى للإنسان إلا العمل الصالح.