يراود الأبناء والبنات أسئلةٌ حضاريةٌ مهمةٌ جدًا، نتيجة الإحباط الشديد من قيم الحضارة الغربية الحديثة وأدائها العملي على ساحة الواقع، مثل:
ماهي المعادلة السحرية للسعادة؟
هناك لذات جسمانية تشتعل، فهل السعادة أن تلبيها؟
هناك مشاعر نفسية عارمة، فهل السعادة أن تستجيب لها؟
هناك أبهة ومظاهر وزبارج مادية، فهل السعادة أن تحصل عليها؟
هناك غايات وطموحات سامية، فهل تستحق التعب والعناء لتحقيقها؟
هذه الأسئلة وغيرها تبحث عن بديلٍ حضاري يحقّق السعادة الفردية والاجتماعية؟
من يقود سفينة الحياة، المادة او المعنى؟
حتى نوضح مفهوم المادة والمعنى والصراع الشديد بينهما، دعونا نتصوّر أنّ المادة والمعنى يركبان سفينة الحياة في بحرٍ متلاطم، ويحاول كلًا منهما أن يقفز ليقود السفينة. نعني بالمادة كلّ ما يتعلق بتلبية الحاجات الطبيعية الدنيوية كالثروة والمنصب والجاه التي توفر للإنسان ما يشتهيه من أصناف الطعام والشراب والرفاهية، ونعني بالمعنى الاستقامة والقيم والأخلاق التي تحقّق الرضا والطمأنينة.
من الواضح أنّ الرأسمالية انطلقت في البداية تحت اشراف المعنى وحماس القيم الدينية كرضا الربّ حيث تأثرت بالتعاليم البروتستانتية، ووضع فلاسفتها قوانينًا وقيمًا معنويةً وإنسانيةً لتكون مثالًا عالميًا يحقّق طموح الإنسان في الغرب. لكن سرعان ما قفزت المادة لقيادة السفينة فنادت بالمصلحة المادية الفردية وشجّعت كلّ ما يحققها وهكذا حكمت ماكينة الحياة الاستهلاكية حياة الأفراد والمجتمعات الغربية.
لقد أبرز الغرب المناظر الزاهية لماركاتٍ عالميةٍ يلبسها الشباب وأشكال الرفاهية من طبيعةٍ خلابةٍ وأبراجٍ عاليةٍ وتقنيةٍ رائعةٍ وجامعاتٍ مرموقةٍ واختراعاتٍ حديثةٍ وسواحل خلّابة وملابس فاتنة وأفلام ايحائية وألعابٍ الكترونية وما لذّ وطاب مما يسيل لها لعاب البشر. وفي نفس الوقت، إستمر الغرب في رفع شعارات القيم والأخلاق كرايةٍ يستدرج بها بقية الأمم، وكأنّ الغرب يقول للآخرين دون أن يتكلم: (إن شئتم مثل حياتنا الرغيدة، فليس عليكم إلا أن تسلموا أمركم وتتبنوا أفكارنا وثقافتنا).
هكذا أستطاع الغرب أن يهندس ثقافة المجتمعات الأخرى، فها هو قد حقّق كل ما يتمناه في عالم المادة والرفاهية وفي نفس الوقت رفع راية القيم وأدّعى أنه خير من يمثلها ويمارسها. وتدريجيًا، انطلقت الكثير من الأمم في السير حذو الثقافة الغربية وتبني أراءها، وهل يريد الشباب أن يحقّق أكثر من هذه الرفاهية المادية والقيم الإنسانية التي رفعها الغرب. لكن، ماهي الحقيقة؟
تقييم التجربة الغربية:
ركب الغرب قطار العلم والتقنية منذ القرن الرابع عشر حتى بلغ أوج قمته في نهاية التاسع عشر فأصبحت جامعاته قبلة الطلبة وغزت منتجاته أصقاع الأرض فملك بعض الغربيين الثروات الطائلة وأسسوا الشركات العالمية وحصلوا على الامتيازات المربحة. هذا التقدم العلمي والتقني والاقتصادي كان على حساب الكثير من الأمور الأخرى، منها:
- رغم مرور خمسة قرون من زعامة الحضارة الغربية، لم ينجح النظام الغربي في نشر الرفاهية في أرجاء العالم بل مازال حوالي بليونان من البشر تحت خط الفقر،
- استفاد الغرب من شعاراته التي رفعها كقيمٍ معنويةٍ لتحقيق أهدافه المادية، فسعى وتنافس على استعمار الدول الأخرى وقضم ثرواتها، ولم يعبأ بتطبيق قيمه فيها،
- حفل تاريخ الغرب بحروبٍ وحشيةٍ داميةٍ كان أوضحها الحربين العالميتين الأولى والثانية، فلم يكن لديه عقلانيةٌ ولا وازعٌ يمنعه،
- عاش الغرب حضارةً استهلاكية تسعى الى تحقيق الأرباح وجمع الثروات على حساب المعنى، فأنتجت فراغًا معنويًا وخواءً روحيًا، انعكس سلبًا على سعادة الفرد والمجتمع،
- انهارت الروابط الأسرية وتفشت الانحرافات الأخلاقية بدعمٍ وتقنينٍ غربي واضح،
- يعيش بعض الغربيين حاليًا حنينًا شديدًا وعطشًا روحيًا الى القيم الإنسانية، يبحثون فيه عن معاني روحيةٍ عسى أن تروي عطشهم وتلبي نهمهم.
ما هو البديل العالمي:
من الواضح أن خلل التوازن بين المادة والمعنى في الحضارة الغربية أجهز على الثقافة الغربية ففقدت بريقها وبدأت في الأفول والانحدار، ولن يكون هذا سهلًا ميسورًا، بل ستحاول الحضارة الغربية إطالة عمرها والحفاظ على نفوذها بشتى الوسائل والسبل. لكن ما من شكٍ أنّها أفلت وانحدرت معنويًا وقد بدأت ملامح الانحدار المادي عليها، وفقدت الأمم تلك الآمال التي وضعتها في الحضارة الغربية فبدأت في البحث عن بديلٍ آخر، فما هو البديل؟
هل يمثل المارد الصيني بديلًا حضاريًا عن الثقافة الغربية؟
حقّقت التجربة الصينية خلال الأربعين عامًا الماضية قفزاتٍ رهيبة في مجال التقنية والتصنيع والاقتصاد وصارت قاب قوسين أو أدنى من بلوغ مرامها المادي. وبدأت تسعى عالميًا في الاستثمار في البلدان النامية الأخرى في البنية التحتية وفي توفير طرق تجارةٍ عالميةٍ لتسويق منتجاتها، لكن لا يبدو أنّ هذه الجهود ترقى الى طرح بديلٍ اقتصادي قوي يحقق النمو في البلدان النامية.
الملاحظ أنّ الصين تتبنى الثقافة الكنفوشية التي تقوم على الكثير من القيم المعنوية والإنسانية، كالتزام الفضيلة واللياقة والحكمة والإخلاص والولاء والحب والطاعة بين الأب وعائلته وبين الزوج والزوجة وقيم الثقة بين الأصدقاء والسعي الى إقامة علاقاتٍ طويلة الأمد واحترام التقاليد والعلاقات الهرمية والتوافق والوصول الى الحلول الوسط والعمل والاجتهاد. لكنّ هذه الثقافات الكنفوشية والطاوية والبوذية التي تنتشر في الصين تم غزوها ثقافيًا بالحضارة والقيم المادية الغربية فتأثرت الثقافة الصينية بها حيث تبنت مثلًا بعض مبادئ الرأسمالية، ولا ندري هل تصمد او تنهار الثقافة الصينية الأصيلة وتترك قيادة سفينة الحياة الصينية للمادة على حساب المعنى!
والسؤال هو ما مدى أهلية الثقافة الصينية لتكون بديلًا عن الثقافة الغربية في أنحاء العالم؟ يبدو أنّها لن تكون البديل نظرًا لما يلي:
- تمثل اللغة الصينية حاجزًا قويا يمنع انتقال الثقافة الصينية بسهولةٍ الى الشعوب الأخرى،
- الفارق التقني والعلمي بين الصين والغرب ليس عظيمًا، لذا لن تتحقق الصدمة الحضارية للشعوب الأخرى التي تسبب الانبهار وتسهل عملية الغزو الثقافي،
- العامل الزمني ليس في مصلحة الثقافة الصينية (بينما تزعّم الغرب العالم خمسة قرون وانتقلت ثقافته تدريجيًا عبر الاستعمار والتعليم والإعلام، مضى فقط أربعون عامًا على نهوض الصين عالميًا، لذا قد تحتاج الصين الى عشرات السنين لتبرز ثقافيًا كبديلٍ منافس)،
- ليس من الملاحظ أن يقلّد الآخرون الصينيين في طعامهم ولباسهم حتى عصرنا الحاضر.
البديل المطلوب عالميًا:
يحتاج العالم الى ثقافةٍ عالميةٍ متميزةٍ تعالج مشكلات الحضارة الغربية التي تم ذكرها سابقًا وتسبق الغزو الصيني الثقافي للأمم الأخرى الذي يحتاج الى عشرات السنين ليأخذ أثره. هذا البديل الثقافي يحتاج الى الميزات التالية:
- التوازن بين الفكر والعمل،
- التوازن بين المادة والمعنى،
- الاشعاع الحضاري المؤثر والفعّال.
ثقافة الاستقامة بين المادة والمعنى:
لن يقبل البشر رفاهيةً منقوصةً، فهم يستحقون الثروة والمنصب والجامعات والعلم والتقنية وما لذّ وطاب، ولن يقبل البشر أيضًا أن يعيشوا حياةً فارغةً من المعنى كروبوتٍ استهلاكي فاقدٍ للمشاعر والقيم الإنسانية، ولا يمكن أن يعيش البعض منعمًا بينما يعيش الآخرون تحت مستوى الفقر، فهذا لن يحقق الرضا والسعادة الإنسانية، خاصةً في زمن نقل الصوت والصورة عبر وسائل التواصل العالمية.
والسؤال ما هو البديل الثقافي الذي يحقّق السعادة كبديلٍ عن الثقافة الغربية؟
إنها ثقافة الاستقامة، فماهي؟
استقام الشيء في اللغة إذا تحققت آثاره ومنافعه ولم يفقد شيئًا منها.
لذا جاء الأمر بالاستقامة للفرد: (فاستقم كما أُمرت)، وللمجتمع البشري (إن الذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا) واستقامة البشر أي أنهم ثبتوا وعاشوا في حياتهم وفقًا لتوحيد الله وعبوديتهم له، فاستفادوا من مواردهم وقواهم ومواهبهم وحققوا أهدافهم وطموحاتهم دون أن يضيعوا شيئًا منها. ونتيجة هذه الاستقامة (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) تحقيق السعادة الدنيوية والأخروية وهي غاية ما يهدف اليه الفرد والمجتمع البشري ويسعى لتحقيقه.
إنّ ثقافة الاستقامة ثقافةٌ عظيمةٌ تستحق البحث والتركيز لأنّها تشمل نظام حياةٍ وطريقة عملٍ لتطبيق هذا النظام تراعي النواحي التفصيلية في الحياة البشرية.
وعلى من يهتم بالإسهام في هذه الثقافة أن يراعي ما يلي:
- توازن ثقافة الاستقامة بين الفكر والعمل، فلا تسهب في استنباط تفاصيل دقيقةٍ جدًا غير عمليةٍ تضيع الجهود وتهدر الطاقات، بل تتطرق الى الأنظمة العملية فقط التي يحتاجها الإنسان، ثم تسخر جهدًا استثنائيًا في محاولة تطبيق هذه الأنظمة عمليًا في شتّى نواحي الحياة. فالاستقامة تعني توازن الجهود والطاقات الفردية والاجتماعية بين النظرية والتطبيق، فلا داعي أن تصرف الجهود العظيمة على جانب النظريات بينما لا يبقى إلّا اليسير الذي يهتم بالجوانب الحياتية العملية.
- توازن ثقافة الاستقامة بين الأهداف المادية والمعنوية، فالفرد والمجتمع لهم أهدافٌ معنويةٌ ساميةٌ وفي ضمنها أهدافٌ ماديةٌ تحقق سعادة البشرية. نعم، يتولى المعنى والغاية السامية قيادة سفينة الحياة، في حين تعمل المادة كالثروة والمنصب خادمةً للمعنى ساعيةً الى تحقيق آثاره. نتيجة ذلك، يستمدّ الإنسان طاقته ومدده المعنوي من غايته السامية ونظرته الكونية للخالق والدار الآخرة، ويسعى في نفس الوقت دون مللٍ ولا كللٍ الى تحقيق رضاه عمليًا وماديًا في اعمار الأرض والتنعم بالطيبات من الرزق. هذه الثقافة تحارب الرهبانية الخاطئة والانسحاب من الأعمال بحجة الزهد، فالزهد في هذه الثقافة أن تملك الأشياء دون أن تملكك الأشياء، إنها ثقافة أن تملك وتعطي لا أن تملك وتكنز.
- اشعاع ثقافة الاستقامة مؤثرٌ وفعّالٌ بلغةٍ عصريةٍ تتفهم قضايا المجتمع البشري الحضارية وتضع الحلول النظرية والعملية لها بتوازنٍ معنوي مادي يتعاون مع الثقافات الأخرى في المشتركات ويقدّم الحلول الناجعة في المعضلات التي تعاني منها البشرية في عصرنا الحاضر. فهي ليست ثقافةً انعزاليةً تعالج هموم الماضي في منطقةٍ معزولة، بل هي ثقافةٌ عصريةٌ تعالج هموم البشرية جمعاء في الحاضر والمستقبل.
ما هو الفرق بين ثقافة الاستقامة وبين الأخلاقية (Ethics) والنزاهة (Integrity):
الأخلاقية والنزاهة يتعلقان بسلامة واستقامة التنفيذ فهما قيمتان عمليتان مهمتان في الحياة العملية، لكنّهما لا يشملان استنباط القوانين الفكرية التي تحقق طموحات البشرية على مستوى المادة والمعنى. فثقافة الاستقامة تشمل الأخلاقية والنزاهة لكنّها تتعداها بمراحل عديدةٍ حيث تشمل التنظير الفكري والتطبيق العملي والاشعاع الحضاري.
أمثلة عملية على ثقافة الاستقامة:
- الإدارة: ماهي مثالب الإدارة الغربية التي تركز مثلًا على الأرباح، وما هو البديل الحضاري في الإدارة الذي يراعي الأرباح الإنسان معًا؟ ماهي التفاصيل النظرية والعملية للبديل الإداري المقترح؟
- الاقتصاد: ماهي مثالب النظام الرأسمالي الاقتصادي وسياسة السوق الحرّ؟ وما هو البديل الذي يشجع النمو الاقتصادي ويعالج مشكلة الفقر عالميًا؟
- الأسرة: ما هو وضع الأسرة في الغرب حاليًا وما أسباب تفككها وما نتائج ذلك اجتماعيًا، وما هو البديل الذي يضمن ترابط الأسرة ودورها الفعّال في بناء الاقتصاد والمجتمع؟
- العلم والعمل: كيف إستطاع الغرب أن يؤسّس لثقافةٍ علميةٍ انضباطٍ عملي وما أوجه القوة فيه، وكيف يمكن أن يكون البديل الحضاري أقوى فعاليةً وأكثر انضباطًا؟
- الأخلاق والقيم: كيف انحدرت الفضيلة وانتشرت الرذيلة في الثقافة الغربية، وكيف يتم طرح البديل الحضاري الذي يجذب جيل الشباب ويحفظ أصالة القيم والأخلاق الفاضلة؟
هكذا يمكن للباحثين التطرق للكثير من مواضيع الحياة المهمة والتفصيل في استنباط نظرياتها الفكرية وتطبيقاتها الحياتية التفصيلية بأسلوبٍ جذابٍ ولغةٍ عصريةٍ منفتحة يصل اشعاعها الى أرجاء المعمورة كبديلٍ حضاري متميز. لقد آن الأوان لثقافة الاستقامة أن تثبت وجودها وتأخذ موقعها الطبيعي في خدمة البشرية، والحمد لله ربّ العالمين.