يعتبر البعض خدمة المجتمع وتقديم العون والعطاء دون مقابل مادي شرفًا عظيمًا فهو بديهي لا يحتاج الى تفكير، وينعكس هذا في الساعات الطويلة التي يقضيها في التطوع للأعمال الاجتماعية سواءً في الجمعيات الخيرية او الغير ربحية او الفعاليات الاجتماعية كالزواج الجماعي وغيره.
إذن لماذا نطرح هذا السؤال التافه: هل تخدم المجتمع؟ ولماذا؟
قد يتثاقل البعض ويتساءل عن جدوى هذه الأعمال الاجتماعية ولماذا يثقل نفسه ويضيف الى جدول أعماله المشغول سلفًا، أَوَ ليس الأَولى أَن يصرف هذه الساعات في خدمة عائلته وأسرته أَو يستثمرها في مشروع عملٍ مربحٍ يرجع عليه بالأرباح التي تعينه على تأمين مستقبله؟
سنناقش أسباب هذا التغير في النظرة لخدمة المجتمع، هل هو تغير ثقافي من جيلٍ الى جيل، او هو أسلوب العمل الاجتماعي الذي لا يناسب مزاج الجيل الجديد، او هو مشاغل الحياة العامة التي أربكت جداول الأفراد اليومية وشغلتهم، او هو تركيز البعض على بعض الجوانب السلبية لبعض الأعمال الاجتماعية وإغفال جوانبها الإيجابية العظيمة؟ ثم نناقش حقيقة الخدمة الاجتماعية وثمرتها المرجوة للفرد والمجتمع، ماديًا ومعنويًا.
[أسباب تغير النظرة للخدمة الاجتماعية]
قد يسأل البعض عن دعوى تغير النظرة للعمل الاجتماعي، هل هي حقيقة وما الأدلة على ذلك؟ ليس لديّ إحصاءات تثبت ذلك، لكن دعونا نناقش بعض الأسباب التي قد تجعل الإجابة على هذا السؤال ممكنة:
- التقنية: خلال الخمسين عامًا الماضية، انتقلت البشرية عمومًا من عصر الواقع المعاش عن قُرب نفسيًا وجسديًا حيث تتسامى المشاعر المعنوية الى عصر الرقمنة والواقع الافتراضي الذي يعيشه الإنسان عن بُعد، حيث أصبح الإنسان أكثر رضوخًا للماكينة والأتمتة ووسائل التواصل، وقد تجلّى هذا في رسائل التهنئة والعزاء والدعوات الرقمية. الغريب أنّ هذه النظرة تحوّلت الى التفكير في تأسيس مجتمع (ما بعد الإنسانية، transhumanism) حيث يرغب هذا البعض في استخدام الذكاء الاصطناعي والتقنيات الأخرى لتشكيل الإنسان بهندسة الجينات والجراحة التجميلية ومعالجة الشيخوخة الى مستوى آخر من حياته المادية. لذا ليس من الغريب أن تجف العلاقات الإنسانية وتصبح المشاعر أكثر ميكانيكية وروتينية تفتقد أبسط لمسات الأنس والمودة السابقة.
- المدنية: انتقل المجتمع من مجتمعاته الصغيرة المترابطة في القرية والحي حيث يلعب الأطفال معًا وتجتمع الأسر والعوائل أسبوعيًا الى مدنٍ مترامية الأطراف يعمل فيها الأب والأم ويقضي الأطفال أغلب أوقاتهم على برامج وألعاب ووسائل ترفيه تتسم بالفردية او المشاركة عبر الفضاء الالكتروني، وهكذا ضعفت الروابط الاجتماعية السابقة وأصبحت الأسر تعيش حياتها الخاصة دون أن يعلم تفاصيلها حتى الأقارب والجيران.
- الرأسمالية: بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والنظرية الشيوعية، توجهت أنظار العالم الى الرأسمالية كبديلٍ ملهمٍ للبشرية، فأطلقت الرأسمالية الغربية عبر وسائل الإعلام والهندسة الثقافية مفهوم السوق الحر كيدٍ خفيةٍ تكفي لسعادة البشرية شريطة أن يسعى كلّ انسانٍ لتحقيق مصلحته الفردية، بل وأطلق بعض الغربيين دعواه أنّ الأنانية هي طريق التطوّر الاقتصادي وأنّ مصلحة المجتمع تتحقق عبر مجموع المصالح الفردية الأنانية. هذه الفكرة تبلورت في أذهان البعض وجعلته يتساءل لماذا يقضي الساعات الطويلة في خدمة الآخرين، أًوَ ليس الأَولى أن يقضيها في خدمة مصلحته الذاتية ومشروعه الاستثماري، والذي سيكون في خدمة المجتمع بعد نجاحه؟ لقد عزّزت الثقافة الغربية هذه المفاهيم عبر قدوات غربيةٍ وعبر مواد دراسيةٍ تلقنّها للمدراء وغيرهم فالأرباح أوّلًا هي مقياس النجاح.
- سراب السعادة: في زحمة هذه التغيرات المتسارعة، ترسّخت لدى البعض مفاهيم عن السعادة تتمثل في ركوب قطار المدنية والتقنية وتبني الأفكار الرأسمالية الاستهلاكية رغبةً في الثراء السريع الذي قد يشتري به الفرد كلّ ما يحتاجه وقد يعين به الآخرين. هذا الهدف أصبح سرابًا يلهث خلفه الأفراد دون أن يتحقق، لكنّه شغل جدول أعمالهم اليومية، فهذه الأمور أولوية يسعى لتحقيقها الفرد ولا يستطيع التضحية بها مقابل خدمة المجتمع التي قد يقوم بها الآخرون.
- تحوّل النموذج (paradigm shift): نموذج العمل الاجتماعي الذي قام به الجيل السابق تمثّل بالعمل اليدوي الجمعي واستثمر بنجاحٍ الحسّ الاجتماعي والثواب الأخروي، لذا فإنّ هذا النموذج يحتاج الى تحوّل ليتكيف مع تغير التقنية وظروف المجتمع المدني وتأثير الثقافة الغربية والرغبة الجامحة لدى البعض في الركض خلف سراب السعادة. وهنا قد تبرز صعوبة الجمع بين الجيل السابق والجيل الجديد في فريقٍ واحدٍ لأداء مسؤولية معينة، فكلّ جيلٍ له اساليبه التي لا تتناغم مع الجيل الآخر.
- النظرة الاجتماعية: لكلّ عملٍ اجتماعي جوانب إيجابية عديدة وقد يكون له بعض الجوانب السلبية نتيجة تزاحم بعض المصالح أو اختلاف وجهات النظر، لذا من المفروض أن يكون التركيز على الجوانب الإيجابية مع تصحيح بعض الجوانب السلبية دون تضخيمها. وكان هذا يتم سابقًا عبر لقاءاتٍ وديةٍ وشفافيةٍ تامة بعيدةٍ عن الأضواء لتحفظ للخدمة الاجتماعية شرفها وعظمتها أمام أعين المجتمع وليحفظ للعمل دافع الإخلاص بعيدًا عن شكوك الرياء والسمعة. في السنوات المتأخرة، أصبحت وسائل التواصل أداةً لتسويق الأعمال الاجتماعية ومحاولةً لكسب الدعم المادي والمعنوي لها، وقد يكشف هذا الظهور الإعلامي السلبيات ويضخّمها مما يفاقم الاختلافات ويشوب الأعمال برائحة البروز والظهور. هذه السلبية قد تكون سببًا لنفور البعض مستقبلًا من أداء مسؤوليته الاجتماعية خوفًا من أن تترك أثرًا سلبيًا على سمعته ومستقبله.
[المعادلة بين الفرد والمجتمع، هل هي صفرية؟]
ماذا يعني لك المجتمع، هل هو غَيرُك؟
المعادلة الصفرية: البعض يظن أنّ الأفراد خارج أسرته الصغيرة أو غيره شخصيًا هم المجتمع، فحين يقدّم أي خدمةٍ للمجتمع، يعتبر ذلك خدمةً للآخرين تزاحم خدمته لنفسه. أي أنّ هناك معادلةً صفريةً تحكم خدمته لنفسه وخدمته لمجتمعه، فوقته الذي يصرفه لمجتمعه يكون سلبًا على وقته الذي يصرفه لنفسه.
وتتفاقم هذه النظرة حين تكون المصلحة تنافسية بينه وبين الآخرين، فمصلحته هي الأولى التي لا يمكنه التضحية بها لأجل الآخرين. بل حتى حين يسخّر جزءًا يسيرًا من وقته لخدمة الآخرين، يحاول قدر جهده أن يشهره ويتحدث عنه علنيًا رغبةً في تحويله الى مصلحة ماديةٍ لذاته كوجاهةٍ اجتماعيةٍ او تحقيق أهداف ٍ مادية. ومن الأمثلة على ذلك، المسؤولية الاجتماعية التي تحاول الشركات جعلها هدفًا لها عبر انشاء مشاريع اجتماعية كبناء مدارس او مستشفيات او حفاظ على البيئة، حيث انطلقت في الأساس لإضفاء صفة الإنسانية على نشاط الشركات المادي. هذا لا يعني نظرةً سلبيةً عن المسؤولية الاجتماعية للشركات، بل على العكس ينبغي تشجيعها لتدوير الفوائد المادية للشركات في خدمة المجتمعات التي تعمل فيها.
المعادلة تضاعفيه:
الحقيقة أنّ المجتمع هو نحن ومن حولنا، وأنّ أي خدمةٍ يقدمها الإنسان للمجتمع هي في الحقيقة خدمةً لنفسه. هذه النظرة ليست طوباوية بل هي عملية ملموسة ماديًا ومعنويًا. فمن المتفق عليه أنّ الشعور بالسعادة الحقيقي ينطلق من خدمة الآخرين، وهذا ما دفع بعض الأثرياء الغربيين الى التبرع بالثروات الطائلة في أعمالٍ اجتماعية عبر العالم. امّا من الناحية المادية، فيمكن توضيحها فيما يلي:
- قوة الفرد الذاتية المادية والمعنوية قد تمثل فقط 30% تقريبًا من قوته الكلية، أما 70% الباقية من قوته فيستمدها من مجتمعه الذي يعيش فيه. فالتاجر يحتاج الى مجتمعٍ يشتري تجارته، وصاحب المصنع يحتاج الى فنيين وعمالٍ ومحاسبين يعملون لديه، ومالك المستشفى يحتاج الى أطباء ومرضى ليستمر عمله، وهكذا، تجد ان صاحب الثروة يحتاج الى بقية المجتمع ليضاعف ثروته. ثم، أنه يحتاج الى مجتمعٍ يشاركه النسب والعلاقات الاجتماعية والسعادة المادية والمعنوية والسلامة والأمن فلن يستطيع أن يبدع او يسعد في مجتمع الفقر والجريمة. لذا فإنّ استثماره في مجتمعه هو استثمارٌ يصب في مصلحته.
- خدمة المجتمع من أسمى وأوضح علامات الوحدة الاجتماعية فهي تجمع القلوب وتمنع الفرقة فالغني يساعد الفقير والرحم يصل رحمه والجار يمد يد العون لجاره. لذا فإنّ زرعَ الفرقة والاختلاف بين المجتمع مرضٌ فتاكٌ لا يعالجه سوى مضاعفة الخدمة الاجتماعية عبر طبقات المجتمع وطوائفه المختلفة. لذا تتجلى عظمة التوصيات النبوية في استقبال شهر رمضان (وَتَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُم وَمَسَاكِينِكُم، وَوَقِّرُوا كِبَارَكُم، وَارحَمُوا صِغَارَكُم، وَصِلُوا أَرحَامَكُم، وَاحفَظُوا أَلسِنَتَكُم، وَغُضُّوا عَمَّا لا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيهِ أَبصَارَكُم، وَعَمَّا لا يَحِلُّ الاستِمَاعُ إِلَيهِ أَسمَاعَكُم. وَتَحَنَّنُوا عَلَى أَيتَامِ النَّاسِ يُتَحَنَّن عَلَى أَيتَامِكُم).
- حثّت التعاليم السماوية على خدمة المجتمع ووعدت بمضاعفة الأجر والثواب الدنيوي والأخروي فلا ينقص مالٌ من صدقة، وإنّ الصدقة تزيد المال، وقد ورد في الحديث: (وأمّا الصدقة فجهدك جهدك، حتى يقال قد أسرفت ولم تسرف)، وجاء في كتاب الله: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: آية 261)، وجاء أيضًا في كتاب الله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: آية 9).
- لقد أثبتت التجارب الحياتية أنَّ من يشارك في خدمة المجتمع يتميز بروحٍ اجتماعيةٍ وقادة وقدراتٍ فائقةٍ في بناء العلاقات الاجتماعية وممارسة أدوارٍ إداريةٍ تؤهله لبناء مستقبلٍ واعدٍ في حياته العملية.
[الخاتمة]
التطوّع والخدمة الاجتماعية عملٌ عظيمٌ تصفو به النفوس من الأحقاد وتقترب به الأرواح من بعضها وتتعزز به مظاهر الوحدة الاجتماعية وتنجلي به عن القلوب لوثة الأنانية الغربية.
فما أحوج الفرد إلى خدمة مجتمعه ليحسّ بسعادة العطاء وما أحوج المجتمع إلى أن يتسامى عن سموم النقد السلبي ويتغافل عن العيوب، ليرى عظمة الجوانب الإيجابية لأهل الخير والعطاء من محبي الخير والخدمة الاجتماعية، والحمد لله ربّ العالمين.
مقال رائع وجميل واختياره يدل على ذائقة راقية تلامس ذائقة الجمهور،
فكما تفضلت وذكرت في مقالك بأن من فوائد العمل التطوعي أنه يجعل العالم مكانًا أفضل لذلك هو مكسب للجميع، المانح والمتلقّي،فقدأظهرت الدراسات أن مساعدة الآخرين من شأنه أن يخفف الشعور بالتوتر والقلق ويزيد الشعور بالسعادة,
وهناك مثل صيني يقول: “إذا أردت السعادة لمدة ساعة، خذ قيلولة. وإذا أردت السعادة لمدة يوم كامل، اذهب لصيد السمك. إذا أردت السعادة لمدة عام، تحتاج إلى ثروة. أما إذا أردت السعادة لمدى الحياة، ساعد شخص ما”.
السلام عليكم
مقال جدا شيق وهادف في الصميم
لان خدمة الفرد للمجتمع بدون مقابل ومساعدة الٱخرين
وقضاء الحوائج يدل على عدم الانانيه وترابط المجتمع
بعضهم ببعض ويستفيد حب المجتمع في الدنيا وينال الثواب
من الله في الٱخرة داىما اللي يساعد الٱخرين يحس بالسعادة.
مقال رائع .. سلمت يداك وسلم فكرك وقلمك ..