هل تعاني من الغفلة؟
أنا أعاني منها أحيانًا، وأظن أنّ الكثير من البشر يعاني منها،،،
فما هي الغفلة؟
يطلق الناس الغفلة على غياب الانتباه، فمثلًا، قد يناديك زميلك وبالك مشغول، فلا تعيره انتباهًا. وقد ترى منظرًا وتركّز فيه على الطبيعة الخلابة فلا تنتبه للكلب الواقف قُرب الشجرة. وقد ينشغل بالك بمباراةٍ حماسيةٍ مساء يومٍ، فلا تنتبه لتفاصيل شرح المدرّس في صباح ذلك اليوم. وقد يدعوك صديقٌ لزواج ابنه، فتنسى الموعد ولا تنتبه إلّا بعد فوات الأوان. أمثلةٌ كثيرةٌ جدًا عن غفلةٍ طبيعيةٍ تصيب أغلب الناس لكنّها في أغلب الأحيان، لا تمثّل خطرًا بل يمكن تداركها وعلاج آثارها.
إذن ما هو مرض الغفلة الذي نريد الحديث عنه؟ ما أعراضه؟ وكيف يتم علاجه؟
هل الغفلة مرضٌ عضوي؟
الغفلة مرضٌ خطيرٌ يصيب الكثير من الناس، ثم يشتدّ ويتفاقم، وقد يفتك بحياتهم الدراسية والمهنية والأخروية وهم غافلون عنها، مع الأسف. لكن هل الغفلة نتيجة تركيب الإنسان العضوي ام هي حالةٌ نفسية؟
يولد الإنسان مجهزًا بحواسٍ وجهازٍ عصبي يستقبل الإشارات السمعية والبصرية وغيرها وينقلها الى الدماغ الذي يعالجها ويرسل أوامره الى أعضاء الجسم بناءً عليها، فيطلب من الانسان الهرب من الوحوش والنجاة من الحريق وتفادي الحوادث وهكذا.
نفترض هنا سلامة الحواس والجهاز العصبي والدماغ فلا خلل فيها، لكنّ العقل لا يمكنه التفكير في أمرين مختلفين في نفس الوقت، فحين تفكّر في حلّ مسألةٍ رياضية وتستغرق التفكير فيها، لا يمكن أن تفكّر في نفس الوقت في التجهيز لرحلة آخر الأسبوع. نعم، قد تقفز من موضوعٍ الى آخر في أوقات مختلفة، لكن لا يمكن أن تفكّر وتركّز على موضوعين مختلفين في نفس اللحظة.
هكذا يرى وليام جيمس (أنّ العقل في أي لحظةٍ ينشغل بفكرةٍ واحدةٍ من بين الأفكار العديدة، مما يعني انشغاله عن الأفكار والأشياء الأخرى في تلك اللحظة). هذه المحدودية في تركيز العقل على موضوعٍ واحدٍ في نفس الوقت، قد تسبّب غفلةً أنيةً عن موضوعٍ آخر لكنّها ليست مرضًا، بل هي نعمةٌ تؤهل الإنسان أن يركّز قواه الفكرية بأقصى طاقته دون أن تتشتت على مواضيع مختلفة. كما أنها لا تسبّب غفلةً دائمةً لأنّ العقل سرعان ما يستطيع أن ينتقل للتفكير في موضوعٍ آخر بعد انتهاء تلك اللحظة السابقة. إذن مرض الغفلة ليس عضويًا، بل هو حالةٌ نفسيةٌ سنناقشها فيما يلي.
أعراض مرض الغفلة (بعض الأمثلة):
الحياة الأكاديمية:
عبدالله طالبٌ جامعي مجدٌ متميزٌ في دراسته، لكنه إنشغل هذا العام كثيرًا بوسائل التواصل الاجتماعي ولقاء الأصدقاء يومًا بعد آخر، فلم يكمل واجباته، أنّبه ضميره في الشهر الأوّل، ثم إنشغل بالمباريات في الشهر الثاني، ولم يذاكر للامتحانات، أنّبه ضميره في الشهر الثاني لكن أقلّ من الشهر الأوّل، ثم تكرّرت الحالة فلم يذاكر ولم يهتم بواجباته، ضعف تأنيب الضمير، وغفل عن الدراسة تدريجيًا حتى أصبحت الدراسة أضعف اهتماماته وتدنّى بذلك مستواه، (ما جعل الله لرجلٍ من قلبين في جوفه).
الحياة الاجتماعية:
ناصر موظفٌ متزوجٌ، لديه ولدان في المدرسة. قرّر ناصر بداية العام استئجار استراحة مع أصدقائه. بدأ ناصر بزيارة الاستراحة يومين في الأسبوع ثم ثلاثة أيام ثم أصبحت زيارته للاستراحة يوميًا بعد صلاة المغرب الى منتصف الليل. ناصر يعمل طيلة النهار ثم يتناول وجبة الغداء متأخرًا في المنزل، وينام قليلًا ليخرج الى الاستراحة بعد صلاة المغرب، يسهر بعدها الى منتصف الليل ثم يعود للنوم ليجلس صباح اليوم التالي، ويعيد الكرّة يومًا بعد آخر. هكذا إنشغل ناصر عن متابعة دروس ولديه، وبدأت تجفّ العلاقة العاطفية بينه وبين زوجته تدريجيًا.
اشتكت زوجته اليه مرارًا، فأنّبه ضميره في اوّل شهر وفكّر في الانسحاب من الاستراحة، لكنّ إصرار أصدقائه عليه دفعه لمواصلة نفس الوتيرة. هكذا ضعف تأنيب ضميره وغفل عن أسرته، رغم شكوى زوجته وشكوى المدرسة من تردي نتائج عياله.
الحياة الاقتصادية:
عبد العزيز رجل أعمالٍ ناجح، استثمر ثروته في انشاء مصنع زجاج واستحوذ على 20% من سوق الزجاج في منطقته. حقّق المصنع أرباحًا عالية فقرّر عبد العزيز أن يوظف مديرًا ماهرًا يعينه على إدارة المصنع وتسويق المنتجات.
بدأ المدير في العمل، فقرّر عبد العزيز أن يقضي شهر اجازته في الخارج. رجع عبد العزيز من السفر وزار مصنعه لكن ليس بنفس الحماس السابق، فالمدير قد تولّى إدارة العمل. اكتفى عبد العزيز بزيارةٍ أسبوعية الى المصنع، ثم اصبحت زيارةً شهرية. إنشغل عبد العزيز في حياته الاجتماعية فلم يتابع حالة السوق وشكوى العملاء وتطوّر المنافسين.
تردّت نتائج مصنعه فأنّبه ضميره في العام الأوّل، حاول التغيير، لكنّه وجد أنّ هذا يتطلّب منه جهدًا أكبر وقضاء وقتٍ أطول في عمله، وهو قد إعتاد السفر الى الخارج، وقضاء وقتٍ ممتع مع الأصدقاء كلّ مساء. غفل عبد العزيز عن عمله، فاشتدت المنافسة وتراكمت عليه الديون، فاضطّر الى بيع المصنع لسداد ديونه.
الحياة الإدارية:
سالم مديرٌ في شركة، ويعمل تحت ادارته خمسة رؤساء أقسام، في كلّ قسم يعمل عشرين موظف. ذات يوم، تسلّم سالم عرضًا مغريًا للعمل في شركةٍ أخرى سال له لعابه، فقرّر أن يترك عمله ليلتحق بالشركة الأخرى في وظيفة مدير عام حيث يعمل لديه ستة مدراء، وهم مدير عقود ومدير تشغيل مدير مشتريات ومدير تسويق ومدير شؤون بشرية ومدير مالية.
بعد عدة شهور، سافر سالم مع مدير العقود ومدير التسويق، الى احدى الدول التي يتم بيع المنتجات الى مصانعها. تميّز مدير العقود مع مدير التسويق بعلاقةٍ وثيقة بينهما وبقدرةٍ فائقةٍ على الاقناع. ذات يوم وبعد رجوعهم من السفر، اجتمع مدير العقود مع سالم وعرض عليه صفقةً بملايين الدولارات، عمل عليها مع مدير التسويق، وسيتم بموجبها بيع المنتج بسعرٍ أعلى من سعر السوق بعشرة دولارات للحبة الواحدة.
رحّب سالم بهذه الصفقة واعتبرها انجازًا رائعًا. عندها، بادر مدير العقود وعرض على سالم أن يتم تقاضي عمولةً من قيمة الصفقة لا تتعدى خمس دولارات للحبة الواحدة (بمجموعٍ قدره مائة ألف دولار)، يتم تقسيمها بين سالم ومدير العقود ومدير التسويق، وأخبره أنه بالإمكان أن تتم تسويتها خارج الأوراق الرسمية بحيث لا يستطيع المدقّق الداخلي والخارجي كشفها. امتنع سالم واعتبر ذلك تعارض مصالح وتصرفًا غير أخلاقي.
ذات يوم، تلقّى سالم مكالمةً هاتفيةً من ابن عمه وكان يعمل مورّدًا لمواد خام الى الشركة ودعاه الى تناول وجبة عشاء وأخبره انّه سيدعو مدير المشتريات ومدير العقود معه، في أحد المطاعم المشهورة. أثناء تناول طعام العشاء، عرض ابن عمه أن يبيع الشركة المواد الخام بسعرٍ يزيد عن السعر السابق بمائة دولار للطن، وأنّه على استعداد أن يدفع عمولة أتعابٍ قدرها خمسين دولا ر للطن (مجموع العمولة مائتي ألف دولار) من حسابه الخاص، على ان تتم الصفقة قبل نهاية العام، وذكر أنّه قد دفع في السابق عمولاتٍ الى مدير العقود ومدير المشتريات في صفقاتٍ سابقة.
سهر سالم تلك الليلة، وهو يفكّر في العمولة وكيف أنها ستمكّنه من سداد ديونه المترتبة عليه سابقًا. في صباح اليوم التالي، دعا سالم مدير العقود ومدير المشتريات، وطلب منهم اكمال الصفقة مع ابن عمه وبنفس الطريقة التي تعاملوا بها سابقًا، على أن يكون له 50% من قيمة العمولة. لقد غفل سالم عن أخلاقه وبدأ خطوته الأولى وليست الأخيرة في قضم المال الحرام.
لا داعي لذكر أمثلةٍ أخرى، فالقارئ الكريم ذكيٌ وفطنٌ ويستطيع أن يذكّر كثيرًا من مواضع الغفلة. لكن ما هو مرض الغفلة؟
مرض الغفلة:
النفس جوهرةٌ مكنونةٌ جاءت من عالم الملكوت لتحلّ في هذا البدن المادي، تعلّقت روحها بعالم الجمال والجلال فهي تسعى منذ نعومة أظفارها الى التكامل والفضيلة، غير أنّ البدن المادي بغرائزه وميوله يثقل كاهلها ويقيدها ويحبسها في عالم الأرض المادي. هذه النفس لها عين البصيرة التي ترى من وراء السحب وتحلّق في عالم السماء. لقد وضعت لها السماء شريعةً تلبي غرائزها وتحفظ كرامتها وتحول دون سقوطها في وحل الرذيلة.
حين تكدح النفس نحو كمالها، تتلقى العون والتوفيق والتسديد والتأييد من السماء وتصبح أكثر بصيرةً وأكثر هدايةً الى الصراط المستقيم.
لكن إذا استولى عليها حب الدنيا وأخلدت الى الأرض ولذائذها وتعدّت الحدود التي رسمتها السماء وخالفت شريعتها، تلبدّت على عين بصيرتها غيوم الغفلة شيئًا فشيئًا حتى تكون حجابًا أسودًا لا ترى النفس من خلاله نور الهداية فيغلب عليها العمى، عندها تحرم التوفيق والتسديد والهداية وتضل طريقها (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).
النفس الإنسانية لها بصيرةٌ تدير بها افكارها وعواطفها وجوارحها. هذه البصيرة تبدأ فطريةً بسيطةً تهتم بتلبية حوائج الانسان المادية والعاطفية فيلتقم ثدي أمه وينام في حضنها ثم يكبر تدريجيًا ويبدأ في تملك ألعابه وحاجاته ثم تتنوع اهتماماته باللعب مع أقرانه ببراءة الأطفال ثم يبدأ تدريجيًا في اهتمامات فكريةٍ واجتماعيةٍ وعاطفية. هذه البصيرة تتأثر بتربية الوالدين والمدرسة والمجتمع الصغير والكبير وهي التي تحدّد اهتمام الإنسان وميوله وسيرته ومستقبله.
مرض الغفلة يصيب البصيرة فيضعفها تدريجيًا حتى يصيبها العمى فلا ترى الحقيقة، عندها لا تفقه القلوب ولا تبصر العيون ولا تسمع الآذان (لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يبصرون بها، ولهم آذانٌ لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون). هكذا بعد أن تعمى البصيرة التي تكشف الحقيقة، تتخبط النفس الإنسانية فتدير أفكارها وعواطفها وجوارحها لخدمة هواها ونزغها.
الغفلة الاجتماعية:
قد يظن البعض أنّ الغفلة مرضٌ يصيب الأفراد فقط، لكنّ الحقيقة أنّ الغفلة تصيب المجتمعات أيضًا. فمن المجتمعات من يتميز بالبصيرة الجمعية التي تحفظ للمجتمع كرامته وفضيلته وسموه عن الرذيلة، فتراه متميزًا بأخلاقه الفاضلة وأمانته وعمله المخلص حتى يشتهر بين المجتمعات بأن المجتمع الفلاني يتميز بالأمانة والإخلاص والعمل الجاد والسيرة الحسنة. ومن المجتمعات والأمم من أعمت بصيرته العصبية والغرور فأعتقد أنّه شعب الله المختار فتعدّى الحدود وارتكب أبشع المفاسد والجرائم عبر التاريخ دون وازعٍ من ضمير.
علاج مرض الغفلة:
تركّز الشركات على ذكر الرؤية والرسالة والقيم وتنصبها على جدران مكاتبها حتى لا يغفل الموظفون عن ذلك، فهم على علاقة دائمةٍ بهدف الشركة ورؤيتها ورسالتها.
هكذا تحتاج النفس الانسانية الى تذكرٍ دائمٍ لرؤيتها ورسالتها وقيمها، فهي في سفرٍ دائمٍ، جاءت من السماء وستعود اليها. وفي هذا السفر الطويل تحتاج النفس الى التسديد والتأييد والهداية حتى تؤدي رسالتها، فتقيم الحضارة التي تحفظ القيم الإنسانية وتعمر الأرض بالخير والبركة لكلّ البشرية.
هذه المسيرة الفردية والاجتماعية تحتاج الى بصيرةٍ لا تغفل أبدًا، فهي واعيةٌ حذرةٌ، لا تبيع نفسها رخيصةً في هذه الدنيا الفانية ولا تدفعها الطبيعة المادية ونوازعها الى تعدي الحدود التي رسمتها الشريعة. هذه النفس تعيش الذكر والطمأنينة ضمن برنامجٍ عبادي في مواسم متعددة يوميًا وسنويًا لتهذيب سلوكها وضمان استقامتها.
إنّ البصيرةَ الحقّةَ لا يصيبها مرضُ الغفلةِ الخطير، فهي لا تقبل ثمنًا سِوى لقاء ربّها في جنانِ الخُلد، والحمدُ للهِ ربّ العالمين.
ملاحظة: الأسماء المذكورة ليست حقيقية.
امثله جميله والانثي نفس الافعال؟
بارك الله في أناملك يا دكتور عبد الجليل على هذا الموضوع الذي ابتلى به كثير منا ونسأل الله التخلص من الغفلة .. ورجاء ان تخصص موضوعا لوضع نقاط واضحة وخطوات لعلاج الغفلة فكما ذكرت أن الشركات لها رؤية ورسالة وقيم كذلك بيّنت يادكتور ان النفس الانسانية تهفو الى تذكرٍ دائمٍ لرؤيتها ورسالتها وقيمها، وعليه يتحتم وضع مسودة لهذه النقاط الثلاث ليتضح التشخيص والعلاج .. الف شكر لك
الف شكر لك عزيزي الاخ علي المطر.
نتيجة الغفلة قد تكون احد هذين::
الأول: ان يغفل الانسان فيأتيه تنبيه و قد يكون هذا التنبيه ابتلاء وضراء تعرفه ضعفه و حاجته فيعود الى رشده. و هكذا تكون الضراء نعمة تصحح مسيرة الانسان.
الثاني: حين تتكرر الغفلة و يزيد الانحراف و يقسو القلب قد يستدرج الانسان بالنعم و السراء و هذا هو الاملاء و الامهال فينسى الغافل نفسه و تكون عاقبته الغفلة الدائمة و العياذ بالله.