إشتغل الإنسان منذ القدم بالتفكير في نفسه والمقارنة بين حياته وحياة الآخرين، فلماذا هو فلاحٌ والآخر طبيبٌ ولماذا هو فقيرٌ والآخر غنيٌ ولماذا … ولماذا…..
وفي خضّم البحث عن جوابٍ، بدأ يفكّر، هل أنّ السبب هو حالة الصراع بين الإرادات المختلفة في داخل نفسه، مثلًا بين اللعب والمذاكرة؟ بين التدخين وعدم التدخين؟ بين البخل والكرم؟ بين الجبن والشجاعة؟ فلماذا لا يختار دائمًا المذاكرة وعدم التدخين والكرم والشجاعة وهكذا؟
وكيف تحقّق الكمال لبعض البشر عبر التاريخ ولم يتحقّق له؟ أليس من الممكن أن يكون البشر كلّهم أنبياءٌ ورسلٌ وملائكةٌ في غاية الكمال والنبل والفضيلة، ولماذا لا يكون هو أحدهم؟
{أسئلةٌ تستحقّ النظر والتفكير}
نعمة الخيارات
يحتاج الإنسان الى الطعام والشراب والهواء والحركة والنوم والقيام والقعود، وتموت بعض خلايا جسمه وتوجد أخرى، كلّ هذه الاختلافات ضرورية لصحة الجسم وعافيته. هذا الجسم قد لا يختلف في حاجاته عن جسم الحيوانات، لكن ما يميّز الإنسان ويكرّمه هي قوته العاقلة المفكرة ونزعته الروحية التي تدعوه الى التكامل.
هذا التركيب العجيب يخلق نوازع متنافسةً لدى الإنسان، منها ما يدفع الى التلذذ بالحياة المادية العاجلة التي يرتاح لها الجسد، ومنها ما يدفع الى التلذذ بالحياة الفكرية التي يرتاح لها العقل ومنها ما يدفع الى التلذذ بالحياة الروحية والأهداف البعيدة المدى. هذا التدافع والتنافس بين النوازع المختلفة تنظمه حرية الاختيار التي يتميز بها الإنسان، وبها يتحقق الاختلاف بين البشر في هواياتهم، وأفكارهم، وعاداتهم، ومستوياتهم.
هذا الاختلاف يوجد مساحةً واسعةً من الخيارات المتاحة للإنسان من أقصى اليمين الى أقصى الشمال، فمن البشر يوجد الفلاح والخباز والنجار والحداد والطبيب والمهندس والعامل والخياط وغيرهم، وكل هذه المهن ضروريةٌ لتكامل المجتمع وسعادته.
تصوّر أنّ مجتمعًا من الأطباء عاش في مدينةٍ دون عمّالِ بناءِ او طباخين او مهندسين والعكس صحيح! قد يكون من مصلحة الفرد أن يكون طبيبًا مثلًا، ولكن ليس من مصلحة المجتمع البشري أن يكون الجميع أطباء، وقد يكون من سعادة الفرد أن يكون غنيًا، ولكن ليس من مصلحة المجتمع أن يكون الجميع أغنياء (لن تتأسس الشركات ولا المؤسسات ولن يقبل أحدٌ الوظيفة، إذا كان الجميع أغنياء، فكلّهم سيؤسسون شركات ويكونوا رؤساء شركاتهم، لكن لن يعمل فيها أحد!)، وهكذا تتوقف حياة المجتمع.
هكذا، فإنّ وجود عامل النظافة مثلًا، ضرورةُ للمجتمع إذ لا يؤدي وظيفته الآخرون. وإذا لم يوجد المجتمع المتكامل المتنوع، فلن يتكامل الفرد ولن يشعر بالسعادة.
إذن الحياة لا تستقيم إلا بسعة الخيارات المتاحة. وهذا ما نجده في تكوين الطبيعة، فالأرض تحوي الذهب والفضة والخشب والماء والهواء والنبات والحيوان، صحيحٌ أنّ الذهب ثمينٌ لكنّه لا يغني عن الهواء. هناك أيضًا، قطعٌ خصبة من الأرض يزرعها الإنسان حسب طبيعتها، فبعضها تتميز بالطماطم الرامسي وأخرى تتميز بتمر الخلاص وأخرى تتميز برز البنجابي وأخرى تتميز بالبن الهرري وهكذا.
وهناك عيون ماءٍ بعضها عذبٌ فراتٌ وبعضها ملحٌ أجاجٌ. وهناك مناطق باردةٌ وأخرى حارة، وهكذا… هذا التنوع الطبيعي في تكوين الطبيعة يضفي على الطبيعة جمالها وتكاملها، كما أنّ التنوع الطوعي نتيجة خيارات الإنسان يضفي على المجتمع البشري جماله وتكامله.
مساحة الاختيار
صحيحٌ أن ّ المجتمع يحتاج الى وجود الاختلاف، لكنّ الفرد مسؤولٌ عن نفسه بالدرجة الأولى، فلماذا لا يختار هو كفردٍ ما يؤدي الى تكامله وتميّزه بغض النظر عن الآخرين؟ أي لماذا تضعف إرادة البعض أحيانًا فينهار أمام نزوةٍ عابرةٍ ولذّةٍ مشتعلةٍ فينتكس في مسيرته، بينما يقف الآخر كالجبل الشامخ لا تهزه المغريات بل تجده في كدحٍ متواصلٍ نحو الفضيلة والتكامل؟
هذا ما بحثه علماء السلوك، حيث بيّنوا أنّ الوراثة والبيئة لهما أعظم الأثر في حياة الإنسان وخياراته، وقد وثّقوا هذه الدراسات بأمثلة عديدةٍ، منها في غاية الطهر والفضيلة ومنها في منتهى الخزي والرذيلة.
فهناك نفوسٌ انتقلت وراثيًا من الأصلاب الطاهرة الى الأرحام المطهرة جيلًا بعد جيل، فجيناتها لم تتعرض الى مؤثرات سلبيةٍ تخدش فطرتها ونوازعها السامية، بل عاشت الطمأنينة وهي في بطون أمهاتها، ثم وُلِدت في بقاعٍ طاهرةٍ وحظت بالتربية في بيوتٍ أَذِنَ اللهُ ان تُرفَعَ ويُذكَرَ فيها أسمه.
هذه النفوس وُلِدَت وعاشت طاهرةً في بيوت السمو والفضيلة، واتسمت بالصدق والأمانة طيلة حياتها، ورفضت حياة الخزي والرذيلة، بل آمنت بما جاء به إبراهيم الخليل عليه السلام فعاشت في سموٍ روحي ومناجاةٍ خالصةٍ وأخلاق فاضلةٍ حتى بلغت أسمى درجات الكمال فأرسلت لها السماء الروحَ الأمينَ بأفضل نداءٍ وأعظمِ رسالةٍ. ثم أُسرٍي بها في عامٍ آخر وعَرَجَت حتى بَلَغَت قَابَ قَوسَين او أَدنَى من العَلِي الأًعلَى، فلا بَشَرٌ ولا مَلَكٌ، بل هو غاية القرب المعنوي.
وهناك نفوسٌ حملتها أصلابٌ غير طاهرة وانتقلت منها الى أرحامٍ لوثتها علاقاتٌ غير شرعية، ثم تربت في حجور العار والرذيلة، فانتكست فطرتها وران عليها ما كسبت، فأصبحت الرذيلة من طبعها والخيانة من عادتها، وملأ حبّ الدنيا قلبها فتنافست على فضول الحطام حتى أستحكم الشرّفي مفاصل حياتها.
وبين النفوس الطاهرة المطمئنة وتلك النفوس الفاجرة، عددٌ كبيرٌ من النفوس اللّوامة التي تدعو الى الخير والنفوس الأمّارة التي تدعو الى السوء، (كلّ نفسٍ بما كَسَبَت رَهِينة).
الفائزون في السباق
هذه الحياة ماراثون يتسابق فيه البشر، مفتوحٌ لهم جميعًا فلا حِكر ولا جَبر، يتنافس فيها المتنافسون لبلوغ الدرجات العليا والسعادة الدنيوية والأخروية. لكنّ الطريق شائكٌ وفيه كثيرٌ من المغريات، فمنهم من يحبون العاجلة ويذرون الآجلة، ومنهم من تهون عليه نفسه فيبيعها بالأرذل الأدنى، ومنهم من يصبر حتى يفوز (إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون).
هذا التنوع نتيجةٌ طبع الإنسان وخلقته، فحرية الاختيار ميّزته وجعلته أكرم مخلوقٍ، أستحقّ سجود الملائكة، ولو حرمه الله نعمة الاختيار وجبله على الكمال لأختلّ نظام الحياة، ولم يكن هناك شريعةٌ، بل لما أستحقّ الثواب والعقاب. ولو لم تكن للفرد حرية الاختيار، لأصبح المجتمع نسخةً واحدةً ولغاب تكامل المجتمع وسعادته، ولأصبح الفرد آلةً ميكانيكيةً يفتقد طعم السعادة وحلاوتها.
فحرية الاختيار تحقّق التنوع الذي هو ضرورةٌ لسعادة المجتمع وتكامله، وهذا المجتمع المتنوع المتكامل السعيد ضروري لسعادة الفرد وتكامله. وحين يتوفر المجتمع المتنوع المتكامل السعيد، وتكون أسباب السعادة متاحةً للفرد وحرية الاختيار لديه، فهذه أفضل حالةٍ يمكن أن يحقّق فيها الفرد تكامله وسعادته، فليس بالإمكان أفضل مما كان.
وحيث أنّ أسبابَ السعادة والشقاء متاحةٌ، يتفاوت البشر في هذا الماراثون، فمنهم السابق ومنهم اللاحق ومنهم من يقف في أوّل الطريق ومنهم من يخرج عن حلبة السابق ومنهم من ينتكس الى الوراء.
هذا الاختلاف نتيجة حرية الاختيار وتوفر الأسباب، يفشل فيه بعض الأفراد، ويفوز فيه آخرون، لكنّه يدفع الى التنافس الذي يرتقي بالمجتمع البشري لإعمار الأرض وتكامل المجتمع. وخيرُ دليلٍ على ذلك الواقع المعاش، فقد تمكّن الإنسان أن يعمر الأرض وأن يطوّر الحضارة والعلوم والتقنية رغم الانحرافات التي عاشتها البشرية عبر التاريخ، والحمد لله ربّ العالمين.
مقالة جميلة تحمل فكر إنساني ومشاعر كاتب يحمل قلباً ملؤه الايمان والفضيلة وحب الخير للجميع. الكاتب وفق في طرح موضوع حرية الاختيار في مشروع عمارة الحياة الدنوية بوسائل ومهام مختلفة وان الجميع سواسية في العطاء كل حسب تخصصه ومهاراته وابداعاته نحو الهدف الاسمى عمارة الارض ومن عليها باستقلال خبراته وإمكانيته. كذلك وفق في التسلسل الجميل وادعو الجميع الى الاستفادة بقراءته وبالخصوص الجيل القادم لتخطى الصعاب والتحديات بروح العلم والتقوى والعمل الجماعي والبصيرة.
بوركت د. ابو محمد . كما تعودنا من قلمك الرصين بتسليط الضوء على زوايا عميقة في فلسفة الخيارات بالحياة و هنا أوردتم فن انتقاء الخيار المهني في الحياة للانسان بعبارات بسيطة و مبسطة . بالنسبة لي ارى انه طرح ناضج و اسلوب مشوق و محفز للقراءة حتى الاخير و يجعل القارئ المتمعن امام مكاشفة مع الذات و سباق مع تهذيب النفس لبلوغ مرامه الاسمى لا سيما من هم في مقتبل العمر .
ما اجمل مقالاتك و جميل فكرك وطرحك دكتورنا العزيز
افكارك تصل الى الجميع وما يخرج من القلب يصل الى القلب
سلمت وسلم قلمك وفكرك ورحم الله اما انجبتك وابا رباك. تحيات اخي العزيز ابو محمد
بسم الله ما شاء الله.. أجدت وأبدعت.. كعادتك دائماً.. مبدع ومتألق.. وفقكك الله ورعاك وحفظك وجعلك ذخراً لنا.
الفائزون في السباق هم السبَّاقون لقراءة مثل هذه الأطروحات …
سلم فكرك وقلمك ودمت دائما بخير ..
لك الف شكر دكتورنا العزيز ايها المحمدي الاصيل . دائما متميز بارك الله فيك ابا محمد
تقبل مني كل الود والتقدير والاحترام
بارك الله جهودك
مقال يستحق التقدير والتمعن بين سطوره، فعلاً الحياة جهادية ولاختلاف سنة كونية الترقي إلى اعلى مراتبها مسؤولية الفرد بامكانه الارتقاء والعكس.
تسلم آناملك دكتور
الشكر لكم على وقتكم الثمين و اضافاتكم الرائعة. انا مدين لكم فانتم من تستحقون الشكر. بارك الله فيكم.
حقا كما تفضلت دكتور عبد الجليل أن هذه الحياة ماراثون يتسابق فيه البشر، وأبدعت حين قسمت الاصناف الى ثلاثة .. ١. الجنوح المادي حيث تنزل بالإنسان إلى الأرض ٢. العقل حيث يجوب به في فضاء الفكر والقسم الثالث الروح حيث تتسامى الى العلى …وكما قال الشاعر ” النفس كالطفل أن تتركه .. شب على حب الرضاع وأن تفطمه ينفطم .. . بارك الله في أناملك دكتورنا العزيز