تمهيد[1]
يتناول المقال بعض الافتراضات الأساسيّة حول اللُّغة التي وضعها العالم اللغوي المشهور نعوم تشومسكي (Noam Chomsky) ومن يتبنى فكره اللُّغوي، خاصة مفهوم “استقلاليّة اللُّغة”، كفرضيّة أساسيّة في الفكر اللغوي الحديث، وكيف يتم التعامل معها في وجود “أنظمة تواصل” عند الكائنات الأخرى (غير البشر) التي تبدو “لُغويّة” لكن حقيقتها ليست كذلك، مما يؤكّد صحة فرضيّة “فرادة اللغة”، أي تفرّد الإنسان باللُّغة. كما يتناول، بشكل موجز، تفسير تشومسكي لاكتساب اللُّغة مِن قِبَل الأطفال، بكفاءة عاليّة وسهولة فائقة[2]، كدليل على أنّ اللُّغة، أو تحديدًا المعرفة اللُّغويّة، هي نتاج البنيَة الداخليّة للمخ البشري ذاته.
المنهج الفلسفي لتشومسكي
يتبع البروفيسور نعوم تشومسكي في مقاربته للُّغة “المنهج العقلاني” أو “العقلانية” (rationalism) والتي ترى، كما يشرح الدكتور تمام المنيزل (2021م)، “أنَّ العقل البشري يمتلك أفكارًا ومعارف سابقة عن الأحاسيس والتجربة، وأنّ اللّغة جزء لا يتجزِأ من المعرفة الفطريّة في الحقل اللّساني، مما يتطلب الاهتمام بها أثناء الدراسة والتّحليل اللّغويين، ممّا جعل اللّسانيات التّوليدية تحلّل اللّغة عن طريق صياغة الفرضيات، التي تمكّن من تفسير القضايا الممكن ملاحظتها، مع دراسة العلاقات القائمة بينها، بالاعتماد على المنهج الاستنباطي؛ لأنّ اللّغة فعل عقلاني تتجلّى ملامحه في كون الإنسان يعبر عن الأشياء برموز لُغويّة؛ إذ يرى الأشياء من خلال الحديث عنها”[3]. هذا المنهج يتعارض مع مقاربة المنهج التجريبي (empiricist approach) الذي يتبعه منتقدوا تشومسكي في هذه مسألة.
متطلبات النظرية اللُّغويّة
على صعيد التنظير العام، يذهب تشومسكي إلى وجود ثلاثة مستويات من الكفاية التي يجب أن تفي بها أيُّ نظرية لُغويَّة، وهي:
المستوى الأول: كفاية الملاحظة (Observational Adequacy)
تكون النظرية كافية من حيث الملاحظة إذا كان بإمكانها التنبؤ بالقواعد النحوية في عينات اللُّغة، أي في البيانات اللُّغَوية الأولية لخطاب الكبار الذي يسمعه الطفل، أو ما تسمى بـ المدخلات إلى جهاز الاكتساب اللغوي.
المستوى الثاني: الكفاية الوصفية (Descriptive Adequacy)
تحقق النظرية كفاية وصفية إذا كانت تتعامل بشكل صحيح مع الكفاءة اللغوية (competence) للمتحدث الأصلي (native speaker)، أي الناتج النحوي المتولد (generated grammar) من جهاز الاكتساب اللُّغوي.
المستوى الثالث: الكفاية التفسيرية (Explanatory Adequacy)
النظرية مناسبة تفسيريًّا إذا استطاعت أن توفر سببًا مبدئيًّا إلى السؤال: “لماذا تأخذ الكفاءة اللُّغوية الشكل الذي نلاحظه؟ أي ما إذا كان يمكنها تفسير الترابط بين الكفاءة اللغوية الظاهرة (observable)، والبيانات اللغوية الأولية غير الظاهرة (unobservable) داخل دماغ صاحب اللُّغة نفسه (المتحدث الأصلي).
افتراضات تشومسكي حول اللُّغة
1- طببعة اللغة ونشأتها
يمتلك الباحث أو القارئ لتشومسكي شعورٌ بأن اللُّغة عنده شيء خاص جدًّا لدرجة أنّه يراها معجزة (miracle). والجدير بالذكر أنّه لا يساوي اللغة بـ “الكلام” أو “التواصل”، فعلى سبيل المثال، في ورقة بحثية له مع آخرين (2017م) بعنوان “اللغة والدماغ والمخ” (Language, mind and brain) يتم توصيف للُّغة على أنها “آلية معرفية حسابية محددة بيولوجيًّا تنتج مجموعة غير محدودة من التعبيرات المنظمة هرميًّا”. ويضيفون أن “نتائج دراسات تصوير الدماغ الحديثة تتوافق مع وجهة النظر هذه للُّغة باعتبارها آلية معرفية مستقلة، مما يؤدي إلى رؤية تنظيمها العصبي، حيث تتضمن اللُّغة تفاعلات ديناميكية للجوانب النحوية والدلالية المتمثلة في الشبكات العصبية التي تربط القشرة الجبهية السفلية والصدغية العلوية وظيفيًّا وبنيويًّا (National Human Behavior 10:713-722).
ومن اللافت بقوة للانتباه عدم اهتمامه بأي محاولة لشرح كيفية ظهور اللُّغة بمصطلحات تطورية (evolutionary terms)، أو عن طريق ربطها بأنظمة التواصل عند الحيوانات (animal communication systems) باعتبارها مقدمة محتملة لها (potential precursor) في مرحلة ما سابقة[4]. ويبدو من بعض أقواله أن اللُّغة يجب أن تكون قد ظهرت إلى الوجود كنوع من “الطفرة العشوائية” (random leap)[5].
2- استقلالية اللُّغة
من الأمور الأساسية في نظرية تشومسكي في اكتساب اللُّغة هو جزمه، إلى درجة العقيدة، بأن اللُّغة يجب أن تُفهم على أنها مستقلة عن العناصر الأخرى للقدرة أو النشاط البشري (Independence of Language). هناك العديد من الأدلة والقرائن المؤيدة لاستقلال اللُّغة، والتي يعتقد تشومسكي وتلاميذه أنها توفر أساسًا قويًّا لفهم اللُّغة دون الرجوع إلى الوظائف المعرفيّة (cognitive functions) الأخرى[6]، أو على الأقل، ككفاءة، هي وظيفة خاصة من بين هذه الوظائف.
من قرائن استقلاليّة اللغة الطبيعة الفريدة للمعرفة اللُّغويّة، يتصور تشومسكي اللُّغة بأنها تحتوي على بعض المبادئ الثابتة التي تسود جميع اللغات. لا تنطبق هذه المبادئ بالضرورة على جميع جوانب التفكير البشري؛ وليس من الواضح كيف يمكن لهذه المبادئ أو ما تعرف بـ “القواعد الكونية” (Universal Grammar) أن تعمل في مناطق أخرى من العقل غير اللُّغة. إضافة إلى أنّ ثَمة درجة من التعزيز المتبادل بين القرائن المؤيدة لاستقلال اللُّغة وتلك التي تشير إلى وجود بعض عناصر اللُّغة الفطريّة أو الجوهريّة للبشر.
“اكتساب اللُّغة” هو أيضًا رافد للقرائن على استقلالية اللُّغة. على سبيل المثال، لا يبدو أن المبادئ العامة لِلُّغة قابلة للتعلم بالطريقة نفسها التي يتعلم بها الأطفال أشياء أخرى، بما في ذلك تعلم المهارات المعرفية الأخرى. يبدو أن تعلم اللُّغة يحدث بطريقة فريدة تمامًا. وكما يعتقد تشومسكي وأتباعه، فإن تفرد كيفية تعلم اللُّغة يوضِّح تفرُّد الوظيفة، ما يشير إلى منطقة خاصة (ربما منفصلة) من العقل تركّز على اللُّغة فقط: وهو ما يسمى بـ “ملكة اللُّغة” (Language Faculty)، وإن كان هذا الرأي يتعارض مع النظريّات المعرفيّة الحديثة التي تفترض أن العقل هو نظام واحد وموحد.
يرى تشومسكي أنه من المفيد أن نفكر أنَّ “ملكة اللُّغة”، وملكة الأرقام”، وغيرهما من الملكات، “أعضاء عقليّة” (mental organs)، مماثلة للقلب أو للجهاز البصري أو لنظام التنسيق والتخطيط الحركي. هذا، رغم أن التنظير التشومسكي لا يملك الإجابة عن سؤال لماذا لا يمكن تمييز مجموعة من العمليات التي تبدو قائمة بذاتها ومتميزة نوعيًّا بذات الطريقة التي يتم بها عادة تمييز عضوًا ما في جسم الإنسان؟
سبب آخر للتفكير في اللُّغة في هذه المصطلحات يتعلق بـ “عالميّة اللُّغة” (universality of language) على حد تعبير تشومسكي: هذا “العضو اللُّغوي” (language organ)، أو “ملكة اللُّغة” حسب تسميته، مُلكيّة بشرية مشتركة، تختلف قليلاً عبر أقوام الإنسان .وهذا ما يهتم به التشومسكيُّون واللغويُّون النظريُّون (Theoretical Linguists) واقعًا عند دراستهم لِلُّغة، حيث أنهم لا يهتمون بأي لغة معينة (كاللُّغة الفرنسية أو العربية أو الإنجليزية، على سبيل المثال)، ولكن بـ “ظاهرة اللُّغة” (عند التنظيريّن)، أو “ملكة اللُّغة” (عند التشومسكيين)، في عموم الجنس البشري. ومن نافلة القول، هي تشمل بالضرورة كلَّ لغة يتكلمها قوم من البشر[7].
3- فرادة اللغة (وتفرد البشر بها)
فرادة اللُّغة تعني تميزها عن باقي أنظمة التواصل بين الكائنات وتفضيلها عليها بسمات وخصائص ذاتيّة بنيويّة في اللُّغة نفسها إضافة إلى قدرات الإنسان العقلية والإدراكية. يرى تشومسكي أن اللغة ميزة إنسانية (Language Uniquely Human)، أي ملكة يختص بها البشر دون غيرهم من الكائنات الحيّة[8]. لكن، المخالفون لفرضيّة التفرد البشري للُّغة يؤكّدون أنهّ بعد مراقبة الحيوانات تبيّن أنّها، وإن في سياقات معمليّة معينة، كانت قادرة على تعلّم أنظمة اتصال أكثر تعقيدًا مما هي عليه في “بيئتها” (الطبيعيّة)، ممّا يوحي أن هذا التواصل أو هذه الأنظمة تشكل إمَّا لغات أو مقدمات حقيقية لِلُّغة.
لكن يرد تشومسكي بشكل عام بالسؤال عما إذا كانت اللُّغات المستخدمة في هذه التجارب شبيهة تمامًا بالإنسان حسب “المبنى التشومسكي” لِلُّغة البشرية في كلِّ مكان. لذلك، قد يكون من الممكن تعلّمها عبر كليّات أخرى غير اللُّغة الموجودة تحت تصرف الحيوان. حتى في حالة الإنسان، قد تكون بعض جوانب اللُّغة قابلة للتعلم أيضًا عبر بعض الوسائل الأخرى غير “ملكة اللُّغة”[9].
4- الإبداعيّة و الإنتاجيّة
إذا كانت اللغة هي الخاصية التي يتفرد بها البشر دون غيرهم من الكائنات فإن الإبداعيّة (Creativity) والإنتاجيّة (Productivity) تجعل من اللّغة الإنسانيّة متميزة أكثر عن نسق الاتصالات الحيوانية. يستعمل البشر، حسب تشومسكي، في أحاديثهم اليوميّة كلمات وألفاظ كثيرة ومتنوعة، من دون وعي منهم أنهم ينتجون عددا لا حصر له من الجمل والعبارات الجديدة والأصيلة، ما يدلّ بطريقة ما على أنّ اللُّغة الإنسانيّة تتسم بنوع من الطاقة اللا-محدودة والمنتجة التي تسمح بالابتكار المتجدد والمستمر والإبداع اللا-نهائي للجمل، والتراكيب اللُّغوية، وهو أمرٌ تختص به اللُّغة الإنسانية.
فاستعمال اللُّغة أساسًا هو “عمل إبداعي”، وقد زاد هذه النظرة عُمقا ارتباطها بالرؤيّة الفلسفية بأنّ الإنسان يختلف عن الحيوان في أنّ له عقلا، وأنّ أهم خصائص هذا العقل هو إنتاج اللغة (ديكارت)، فباعتبار اللُّغة وسيلة إبداع يستطيع الإنسان بواسطتها خلق ما لا حصر له من الجمل والمفردات رغم محدوديتهما، وهذا يتوافق مع رؤيّة فيلهلم همبولدت (اللُّغويّة) بأنّ اللغة نظام من القواعد التوليديّة، وطاقة انتاجيّة، حيث أنها (اللُّغة) في جوهرها “عملية خلق” تُمكّن المتكلمين من إنتاج ما لا حدود له من المنطوقات والعبارات بوسائل محدودة[10].
إنّ الخاصية الإبداعيّة، إذًا، كما تستخلص خديجة مانع (2020م)، “تبرهن على تفرد العقل الإنساني أولًا، وتُظهر كفاءة المتكلم، ولذلك فالإبداعية هي تمظهر واضح للكفاءة اللغوية التي يمتلكها الإنسان وهي تعبير عن حرية الإرادة الإنسانية وتميز الإنسان داخل المنظومة الكونية التي يحيا فيها، حسب تشومسكي، أي يمكن للّغة أن تمدنا بدعامة هامة في فهم السلوك البشري والبحث في مشاكل الطبيعة البشريّة”[11].
5- “اللا-نهائيَّة”
في تناوله الخصائص الأساسية للُّغة، يفرّق تشومسكي بين نظامين للُّغة: (I-Language) اختصارًا إلى (Internal Language) ، اللغة الداخلية، و (E-Language) اختصارًا إلى (External Language)، اللغة الخارجية[12]، وما يهمنا هنا هو أنّه في حديثه عن نظام “لغة-I”، يقول: هناك خاصيتان نعتبرهما غير قابلتين للنقاش، ويجب على كلّ نظريّة تريد أن تفسر سمات القدرة اللُّغويّة البشريّة أن تفترضهما:
(أ) اللا-نهائية المتميزة (Discrete Infinity)
(ب) النقل (الإزاحة) (Displacement)
عن طريق الخاصية الأولى يمكن دمج الوحدات المعجمية (الكلمات) لإنشاء كائنات نحويّة (جُمل، و عبارات) ذات طول غير محدود، وذلك عن طريق التطبيق المتكرر للإجراء العَوْدي (recursion)، أو قابلية تكرار القاعدة (اللُّغويّة)؛ وهما من القواعد الكليّة التي تفسر انتاجيّة اللُّغة التي نلاحظها، كما في:
مريم أكلت التفاحة…
إنك تعتقد أن مريم أكلت التفاحة…
قال أخوك أنك تعتقد أن مريم أكلت التفاحة…
قال أخوك حين سألناه أنك تعتقد أن مريم أكلت التفاحة…
قال أخوك حين سألناه أنك تعتقد أن مريم أكلت التفاحة التي كانت في الثلاجة.
وهكذا…
تأخذنا خاصيّة “اللا-نهائيّة المتميزة” إلى الملاحظة التقليدية المتمثلة في أنه «لا توجد جملة أطول»، تمامًا مثل لا يوجد «عدد أكبر» في الرياضيّات. وصف غاليليو، كما يذكر تشومسكي في عدة أماكن، هذه الخاصيّة معترفًا بأن اللغة تسمح بإيصال “أفكار الشخص الأكثر سريّة إلى أي شخص آخر – دون أي صعوبة – أكبر من التجميعات المختلفة لأربعة وعشرين حرفًا صغيرًا على الورق”، وهذا “أعظم الاختراعات البشريّة”، حسب وصفه[13].
6- اكتساب اللُّغة
(أ) الصندوق الأسود
اكتساب اللُّغة، وفقًا لمفهوم تشومسكي، هو في الأساس مشكلة الصندوق الأسود (black box problem)، أي أننا نحاول فهم نظام نعرف فيه المدخلات (input) ونعرف المخرجات (output)، لكن ليس لدينا فهم دقيق للنظام (system) أو المعالج (processor) الذي تتم فيهما أو بهما معالجة المدخلات لتصبح مخرجات.
يذهب تشومسكي إلى أن وجود بعض المعرفة بخصائص القواعد النحويّة المكتسبة والقيود المفروضة على البيانات المتاحة، يساعد على صياغة فرضيات تجريبية معقولة جدًا وقوية إلى حد ما فيما يتعلق بالهيكل الداخلي لجهاز اكتساب اللُّغة الذي يبني القواعد النحوية المفترضة من البيانات المعطاة[14].
(ب) جهاز خاص لاكتساب اللُّغة
عند دراسة تعلم طفل لغة ما، يقوم العلماء بتحليل البيانات اللغوية الأساسية التي يمكن للطفل الوصول إليها (على سبيل المثال، الكلمات في الكلام الذي يتم التحدث بها له وحوله)، كما يمكنهم تحليل الكلام الذي يتحدث بها هذا الطفل العينة. لكن لا يمكنهم معاينة كيف يصبح ما يسمعه هو ما يتكلمه، وسؤال الكيفية هذه تحتاج تفسيرًا. تتبع مفهوم “جهاز الاكتساب اللُّغوي” (language acquisition device)، اختصارًا (LAD)، هو إحدى طرق تصور “الصندوق الأسود” الذي تتم فيه العمليّة غير المرئيّة .وهنا جوهر المشكلة، والتي تعرف بـ “مشكلة أفلاطون” (Plato Problem)، والتي هي في صميم أفكار تشومسكي لاكتساب اللُّغة، وكذلك هنا يحضر المستوى الثالث (التفسيري) في كفاءة النظرية. بمعنى، ماذا لو خرج شيء من جهاز الاكتساب اللغوي لم يدخل فيه في الواقع؟ ماذا لو كانت المخرجات لا تتطابق مع المدخلات؟، وبعبارات تشومسكي نفسه: “كيف نصل إلى مثل هذه المعرفة الغنية والمحددة، أو مثل هذه الأنظمة المعقدة من الإيمان والفهم، في حين أن الأدلة المتاحة لنا هزيلة للغاية؟” الجواب الذي قدمه عن سؤاله هو أن الكثير من معرفتنا اللغوية يجب أن تأتي من البنية الداخلية للعقل نفسه، وهنا يطرح تشومسكي مفهوم “فقر الحافز” (Poverty of the Stimulus)، مدللًا على أن الناتج (الغني) لا يمكن أن يكون (متوّلدًا) من المدخل “الفقير”، ويعني به الكلام الركيك وغير الفصيح الذي يسمعه الطفل من الكبار، خاصة الموجه له.
بعيدًا عن السجال الذي دار بين الرافضين لهذا الوصف[15]، الذي ثبت خطأه بالبحث الميداني والتجريبي، وبين تشومسكي غير المقتنع من حيث المبدأ والمنهج[16]، يمكن مقاربة مسألة الخلاف توفيقيًّا، بالقول، مثلًا، بعدم إختفاء أي شيء في “جهاز تعلم اللُّغة”، لكنَّ استخدام البشر للخبرة اللُّغويّة التي يكتسبونها يُظهر قدرة متفوقة أكثر مما يُعتقد. لذا، يمكن أن تنشأ وتتطور كفاءة لُغويّة أفضل من بيانات أوليّة (قد تبدو) أقل كفاءة، إمّا لأن بعض البنى الأساسيّة موجودة في اللُّغة أو لأن بُنى استقباليّة أساسيّة للُّغة موجودة في الدماغ البشري[17].
_________________
الهوامش
* أكاديمي وباحث لغوي من المملكة العربية السعودية
[1] أشكر الصديق العزيز الأستاذ سمير آل ربح لتدقيق المقال في نسخته الأولية وتصحيح الأخطاء اللغوية، أمّا ما ظلّ منها فهو مسؤوليتي وحدي، خاصة وأني حذفت وأضفت وعدلت بعد مراجعته. [2] كيف يتعلم الإنسان التحدث والكتابة والتفكير بـ “لغة الأم” سؤال مهم جدًا بحد ذاته، ومقاربته ترتبط بالتصور عن ماهية اللُّغة بشكل عام، أو بالمقاربات الخاصة لها التي قد تخلق تصورات مغايرة. والحديث عن تعلم اللُّغة الأم (mother/native language) أو اللُّغة الأولى (first language) أصعب بكثير من الحديث عن تعلم لغة ثانية (second language) التي تكتسب بطريقة منهجيّة ومقصودة. في المقابل، تعلم لغة الأم ليس مخططًا له وليس متعمدًا. لذا هي عمليّة شغلت علماء اللُّغة والمتخصصين فترة طويلة، ولا تزال، وأكثر وجهات النظر تأثيرًا في قضيّة اللُّغة ومسألة اكتسابها (تعلمها) هي ما طرحه تشومسكي. لذا من المناسب جدًا فهم الخلفية الفلسفية والتنظيرية للافتراضات المركزيّة التي وضعها هذا العالم حول اللُّغة لفهم تأثيرها على كيفيّة تصوره لاكتساب اللُّغة. [3] “الاتجاه العقلاني وأثره في دراسة اللّغة”، مجلة الباحث، مجلد، 13، عدد، 1، ص1-27. [4] هذه وجهة نظر يجب ألا تمر مرور الكرام؛ فإلى جانب حقيقة أن بعض الحيوانات لديها أنظمة اتصال تبدو متطورة بدرجة كافية بحيث تستدعي اعتبارها مقدمة لِلُّغة، فإن فقر البيانات الجيدة حول كيفية ظهور اللُّغة ليس بالضرورة سببًا لتصورها على أنها غامضة في الأساس. [5] لا يتفق كثير من اللُّغويّين على نظرية “الطفرة للُّغة”. على سبيل المثال، يجادل مايكل كورباليس في كتابه “حقيقة اللُّغة” (منشورات مطبعة شيكاغو، 2017م) بأن اللُّغة ليست نتاج “انفجار كبير” قبل 60 ألف سنة، بل هي نتيجة لعملية تطور بطيئة لها جذور في عناصر اللغة النحوية التي وجدت في وقت أبعد في تاريخنا التطوري. [6] الوظائف المعرفيّة هي الوظائف الدماغيّة الضروريّة لإدارك وادماج ومعالجة المعلومات. هناك من يقسمها إلى ثلاث وظائف أساسيّة وهي: الوظائف الآليّة، الوظائف التنفيذيّة، ووظائف الذاكرة، وهي منظمة في وحدات حيث تعمل في شكل شبكة. [7] يبدو هناك عدم رغبة عند علماء اللغة بعدم الإشارة إلى “عضو اللُّغة”، أو على الأقل، الإعداد لطرحه كمصطلح للتدوال بشكل واسع، هو أنّ أماكن أعضاء جسم الإنسان، كالقب والكلي وغير ذلك، معروفة، لكن ليس لديهم مثل هذا التموقع المكاني الواضح لـ “عضو اللغة”. [8] في أوائل تأسيسه لنظريتة في انتقاده لعالم النفس السلوكي سكينر (Skinner) ، وطرحه لمفهوميّ جهاز اكتساب اللغة (LAD) والملكة اللُّغويّة (LF) قال تشومسكي أن اللُّغة قدرة أو موهبة يولد بها الإنسان، فسّرها البعض أنها من عند الربّ (God given)، لكن بطيف علماني. [9] من الواضح تمامًا، أنّ بعض الأسئلة المثيرة للاهتمام تدور حول أن أي أنظمة اتصال أخرى (غير لُغة البشر) ليست لغات لأنها لا تحتوي على ميزة معينة. أنظر: د. الخثير داودي، “فرادة اللغة البشریة عند اللّسانیین الأمریكیین”، مجلة إشكالات في اللغة والأدب مجلد8، عدد5، السنة 2019م، ص 446-460. إنَّ هذا الادِّعاء بأن اللُّغة تختلف نوعيًّا عن التواصل، مبتنى على المفهوم الخاص للُّغة عند تشومسكي ورفاقه، وأنها لم تنشأ من أنواع أنظمة اتصال تستخدمها الحيوانات، خاصة القرود والحيتان. انظر: “علم اللُّغة”، الدكتور علي عبد الواحد وافي، ص80- 96، ففيه تفصيل لهذه المسألة. [10] انظر: خديجة مانع، “الخاصية الإبداعيّة في فلسفة نعوم تشومسكي اللغوية”، مجلة العلوم الاجتماعية، 2020م، ص 15-34. [11] خديجة مانع، مصدر سابق، ص 34. [12] الفرق بين اللُّغتين بتبسيط شديد، هو أنَّ اللُّغة الداخليّة هي كما ينظر إليها ويدركها الفرد وليست التي تنتقل وتتشارك في الخارج (المجتمع والعالم)، بينما اللُّغة الخارجيّة هي التي يتم تداولها ومشاركتها في العالم أو المجتمع وليس كما يراها الفرد ويفهمها. ربما هذا التفريق هو على حساب التفصيل العلمي الدقيق الضروري للنظامين كما يراه تشومسكي، لذلك لا بد من القول أن “لغة-I” لغة داخليّة بمعنى كونها جزءًا من التكوين العقلي الفردي للمتحدث. [13] Chomsky, Noam, Ángel J. Gallego and Dennis Ott. 2019. “Generative Grammar and the Faculty of Language: Insights, Questions, and Challenges”. Catalan ، Journal of Linguistics. Special Issue, 229-261. [14] هذا التنظير مفيد للدفاع عن أكثر آراء تشومسكي طموحًا، وهو: أنّ “عضو اللُّغة” هو “مَلَكة اللُّغة”، بمعنى أنّ فكرة الحالة الأوليَّة للملكة، تعبير آخر عن الجينات(genes) ، هي “القواعد الكونيّة” (universal grammar). هذه الملكة اللُّغويّة، عند تشومسكي، تكمن في البنية الماديّة للدماغ البشري. [15] في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي (العشرين) وجد المتخصصون في “لُغة الطفل” (Child Language) أن المدخل اللُّغوي من الوالدين وغيرهما من الكبار لا يمكن وصفه بـ “الفقير”. وفي ذات الوقت انتقد اللغويُّون الاجتماعيُّون إهمال البُعد الاجتماعي للغة ووظيفتها الاجتماعيّة، وأضاف ديل هايمز (Dell Hymes) الكفاءة التواصليّة (Communicative Competence) إلى الكفاءة اللُّغويّة (Linguistic Competence) لكن نظريّة تشومسكي تقوم على أنّ اللُّغة بنيَة معرفيّة (فطريّة)، وهي، كما بين الفيلسوف ميشيل فوكو في نقده لمقاربات تشرمسكي، تتجاهل أن اللُّغة شكل من أشكال التواصل. [16] سبق أن ذُكر في فقرة المنهج الفلسفي لتشومسكي أعلاه التعارض بين عقلانيته وتجريبيّة منقديه. [17] انظر: “اللُّغة في دماغنا” (Language in Our Brain)، أنجيلا فريديريشي (Angela Friederici) المنشور عام 2017م، معهد ماساسوتش للتقنيّة (MIT).
موضوع رائع حدًا ومناقشة ثرية استمتعنا بها كثيرًا سيدنا الدكتور أبا علوي. فسبحان الله الذي أنعم على الانسان بإعطائه ملكة اللغة وجعلها توليدية تتطور كلنا احتاج الانسان الى ذلك.
مقال رائع ومثري ويكشف عن أسرار اللغة الدفينة وتفردها واستقلاليتها، وينم عن جهد كبير قام به سعادة الدكتور أحمد الذي عوّدنا عل مثل هذه المقالات النوعية، فشكراً جزيلاً له