هل لاحظت أنّك في حركة تكامل وتطوّر يومًا بعد آخر. قد لا تلاحظ ذلك، لأنّك قريب جدًا من نفسك،،،
لكن أسأل الآخرين وقد لا تصدّق ما تسمع. فعقلك، وعلاقاتك، وأسرتك، وحكمتك، وخبرتك في الحياة، وأبناؤك وبناتك، وأثرك الذي ترسمه على صفحة التاريخ، كلّها أمثلة بسيطة تتحرّك نحو التكامل.
هذه الحركة التكاملية فطرية خُلِقَ عليها الإنسان وتهيأت لها الأسباب الطبيعية لتأخذ دورها المرسوم لها. ومن هذه الأسباب الطبيعية، سعي الإنسان لإشباع حاجاته للغذاء والماء والتناسل الطبيعي وقدرته على بناء العلاقات الاجتماعية، وحنانه وعطفه ومودته لأسرته وعياله، وتلك النزعة الأصيلة في قلب الإنسان التي تزين له القيم الفاضلة كالعدل والإحسان والأمانة والفضيلة، والتي تبعده عن الرذيلة والظلم والخيانة.
لكن لماذا ينتكس البعض وينحدر فيتعرى عن الفضيلة ويلبس الرذيلة، بل ربما يفتخر ويجاهر بها على رؤوس الأشهاد، فيتردى الى أسفل سافلين؟ وكيف تسمح له الأسباب الطبيعية بالسير عكس الفطرة، ولماذا لا تجبره بالرجوع الى مسار التكامل والتطوّر؟
الكرامة الإنسانية:
الإنسان له كرامةٌ عظمى جعلته مؤهلًا لأداء الدور الكبير في هذا الكون، وهذه الكرامة لها عدة أسباب ومن أهمها العقل المفكر الذي يهتدي به الإنسان ويعرف به الخيارات المختلفة في هذه الحياة ونتائجها،،،
وهذا العقل لا ينفع إن لم تصاحبه حرية الاختيار التي كرّم الله بها الإنسان، فالإنسان كائنٌ مفكرٌ حرٌّ يفكر ويختار، ونتيجة لذلك فهو مسؤولٌ عن نتائج اختياره.
تصوّر أنّ تعيش يومًا واحدًا دون القدرة على الاختيار فحياتك وغذاؤك وعلاقاتك كلها تحدث رغمًا عن أنفك، لا شكّ أن ّ هذه الحياة تخلو من المتعة والجمال، فهي جحيمٌ لا يطاق. وهذه الحياة الجبرية لا تسمح للإنسان بالإبداع والتنافس والطموح وتحقيق ما وصل اليه من التقنية والتطوّر العلمي. أظن أنّ الجميع يتفق أنّ حرية الاختيار نعمةٌ عظمى تستحق الشكر.
الحاجات الطبيعية:
الإنسان يعيش بالعقل وحرية الاختيار في بعض جوانب حياته، ويعيش ليلبي حاجاته الطبيعية في جوانب أخرى غريزية تتسم بالحسية والشعورية والعاطفية وهي تضغط طبيعيًا على الإنسان للاستجابة لها على مستوى جبري في حدها الأدنى كحاجته للطعام والشراب. لكن توجد مساحة واسعة من الحياة يعيش فيها الإنسان حرية الاختيار بين طرفين متناقضين أحيانًا وهما العقل في جانب والغريزة الحسية والأهواء النفسية الأخرى في الجانب الآخر، وهنا يختار الإنسان بين أن يستجيب لعقله او يستجيب لغريزته وأهوائه الحسية الضاغطة.
أحيانًا قد يشتدّ هذا الصراع الى درجته القصوى نتيجة حبّ الإنسان وميله الطبيعي للمحسوس والقريب العاجل، مما يؤدي الى غلبة الغريزة الحسية على العقل وخياراته.
هذه إحدى سلبيات حرية الاختيار، فالأسباب الطبيعية وحفاظًا على نعمة حرية الاختيار، قد تسمح للبعض بالسير عكس الفطرة لفترةٍ قصيرة، لا يلبث بعدها أن يتعرض الى نكسةٍ تودي به وتجعله عبرةً لغيره. ورغم خطر هذه السلبية لحرية الاختيار، لكنها لا تستحق أن نضحي بحسنات وعظمة تأثير حرية الاختيار التي ذكرناها سابقًا. السؤال إذن: ما هو الحلّ وكيف يستطيع الإنسان أن يتغلب على هذه السلبية ويحفظ توازنه في هذه المعركة الفاصلة؟
الهداية السماوية:
رغم عظمة العقل الإنساني لكنّه ثبت علميًا أنّه عرضةٌ للكثير من التحيزات نتيجة نقص المعلومات، وتأثير البيئة المحيطة والضغوط الغريزية والنفسية وغيرها من الأسباب، وها نحن نعيش في القرن الحادي والعشرين أي بعد عشرات الألاف من السنين او أكثر من بداية وجود الإنسان العاقل، ولا زلنا في أوّل الطريق في معرفة دهاليز العقل والنفس البشرية. لقد شهد التاريخ البشري الكثير من الحروب التي خاضها الإنسان وهو يحسب أنّه يحسن صنعًا، لكنّه واقعًا أنتج الويلات والكوارث مما سبّب تأخر البشرية لقرونٍ من الزمن، وهذه أيضًا من سلبيات حرية الاختيار التي يملكها الإنسان، وقد يسأل البعض، أين السماء من كلّ هذا؟
السماء كرّمت الإنسان بالعقل وحرية الاختيار وهما أساس الكرامة الإنسانية فالحلّ ليس بسلب هذه الكرامة وجبر الإنسان وحرمانه من نعمة الاختيار، لأنها إن سلبته هذه النعمة، حرمته من المتعة والجمال ومنعته من القيام بدوره المنوط به على هذا الكون وهو التطوير والبناء والرقي والابداع.
لكنّ السماء أبت إلّا أن ترشد الإنسان وتوضح له الطريق فاختارت أفضل الخلق لأداء هذا الدور الجبّار وهو تبليغ رسالة السماء الى البشر. هذه الرسالة التي فتحت قلب الإنسان على عظمة هذا الخلق وعظمة الخالق وقدمّت منظورًا فكريًا شاملًا للحياة وإطارًا كونيًا عامًا يضع الأمور في موازينها.
فهناك خالقٌ له أعظم الأسماء والصفات الكمالية والجمالية التي تفتح آفاق الإنسان وتأخذ به الى السمو والفضيلة، وقد بلّغ الأنبياء والرسل عنه شريعةً متوازنةً تلبي حاجات الإنسان الحسية والغريزية وتضمن توازنه في نفسه وفي مجتمعه، وتحقق له المتعة والتكامل، وتحفظ له حرية الاختيار في مساحةٍ واسعةٍ من حياته تضمن له الإبداع والتطوّر في تعامله مع الطبيعة ومع أخيه الإنسان.
وقد بلّغ الأنبياء البشر بأنّ هذه الحياة مقدمةٌ لحياةٍ أخرى يتم فيها استلام الشهادات وتكريم الفائزين ومعاقبة المسيئين. هذه الغيبيات عن الخالق واليوم الآخر تمثّل القاعدة الفكرية والأساسية لهذا المنظور الفكري الشامل، بينما تمثل التشريعات النظام الحياتي الذي ينظم حياة البشر ويضمن سعادتهم.
لكن لماذا إنحدر البعض الى مهاوي الرذيلة، ولماذا حدثت سلسلة الكوارث البشرية؟
المشكلة البشرية:
هناك صراع محتدمٌ داخل النفس البشرية، فالنفس تميل طبيعيًا الى الغريزة والمال الذي يحقّق اللذة الحسية السريعة والمتعة النفسية العاجلة التي يلمسها ويعيشها الفرد حاليًا، لكنّها تحبّ ايضًا القيم الفاضلة والتكامل والذي يحتاج الى التوازن في تلبية الغريزة والصبر عن بعض المتع العاجلة لتحقيق الأهداف العظيمة البعيدة المدى.
ورغم أنّ الهداية السماوية شرّعت ما يلبي الغريزة ويضمن التوازن ووعدت بالجنان والسعادة في المدى الطويل، لكنّها حرّمت الجشع والطمع الذي يسلب الآخرين حقوقهم ومنعت من إطلاق عنان الغريزة دون حدود الشريعة.
هذا المنع والتحريم الشرعي ضروريٌ لسعادة المجتمع وسلامة المسيرة البشرية لكنّه على حساب اللذة والمتعة الفردية المطلقة والتي قد يتمكن البعض من تحقيقها.
لذا برزت عبر التاريخ، معارضة للهداية السماوية من قبل البعض، الذي إعتبر هذا المنع والتحريم الشرعي تقييدٌ لحريته وسلبٌ لإرادته، فأطلق لنفسه العنان في تلبية غرائزه ضمن أنانيةٍ ماديةٍ فرديةٍ وضع لها أسسًا فكرية عنونها بأسماء براقةٍ كالرأسمالية وغيرها. هكذا، انقسمت البشرية بين من يمارس حياته ضمن الأطر الفكرية الشاملة والشريعة الحياتية التي تسمو به الى الفضيلة، وبين من يطلق لنفسه العنان فتنحدر به في مهاوي الرذيلة.
الحاضر الغائب:
كيف يمكننا أن نساعد النفس لتحقيق التوازن الضروري بين ضغط الحاجات الحسية والغريزية العاجلة وبين العمل بجدٍ على تحقيق الأهداف السامية البعيدة المدى؟ هذا التوازن تضمنه الهداية السماوية التي تلبي اللذة الفردية بطرقٍ مشروعةٍ دون الإخلال او التعدي على حقوق الآخرين، وهي تلبي حب الذات في التملك والكسب الحلال والإبداع الفكري والتقني والتقدم العلمي وتسجّل ذلك بحروفٍ من نورٍ في شهادةٍ يستلمها الإنسان من ربّه يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون.
هذه القناعة الحاضرة فكريًا، يبدو أنّها تغيب عن أذهان البعض في معمعة الحياة اليومية وضغوط الغريزة والأهواء النفسية. إنّ أشبه شيءٍ بهذه القناعة الحاضرة الواضحة الجلية والتي تغيب مع الأسف عن أذهان البعض وحياتهم في أحيانٍ كثيرةٍ، هو ذلك الموت اليقيني الذي نعيشه يوميًا مع فقد الأحباء والأقرباء والأصدقاء الذين يغادرون هذه الحياة فنعيشه يقينًا في تشييعهم وتحترق قلوبنا لفراقهم، لكنّه لا يلبث أن يختفي عن أذهاننا بعد ساعاتٍ قليلة.
لقد شاء الخالق ألا يعيش الإنسان كدر الموت والفراق زمانًا طويلًا، فمن رحمته تعالى أن يغيب هذا الشعور بعض الوقت ليتمتع الإنسان بحياته المعتادة. لكنّ المطلوب ليس النسيان والإهمال، بل التوازن بين الحضور والغياب، فالموت للعقلاء غائبٌ لا يُنسى وحاضرٌ لا يُخيف، فهو بابٌ يلجون منه الى حياةٍ كريمةٍ عزيزةٍ عند ربٍّ غفورٍ رحيمٍ.
فالموت قد يبدو أنّه يغيب عن بال العقلاء وهم يعملون في هذه الحياة دون يأسٍ او مللٍ او كلل، لكنّه يقينًا لا يغيب عن بالهم، بل هو حاضرٌ يستعدون له باستمرار وهم يعملون للحياة الأخرى، (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا).
هذا الموت الحاضر الغائب ضروريٌ لتبقى قناعتنا الفكرية والتزامنا الشرعي حيٌ متوقدٌ في نفوسنا، فحياةٌ نهايتها الموت لا تستحق من العقلاء أن يلوثوها بالانحراف عن الفضيلة والوقوع في مهاوي الرذيلة.
هذه ليست نظرة تشاؤم، بل نظرة يقينٍ موعودٍ بحياةٍ سعيدةٍ، تستحق أن يعيش العقلاء لذتها وجمالها ويعمرون أرضها وسماءها ضمن الأطر المشروعة التي تحقق رضا الخالق، والحمد لله ربّ العالمين.
مرة بعد اخرى يثبت دكتورنا العزيز إنه سيد القلم و بحر علومه ليست فنية فحسب وإنما انسانية و ذات عمق لا يبحر فيه الا من اجاد فن العلاقات الإنسانية و طبيعة النفس البشرية التي ترتبط بأيمان راسخ بخالق هذا الكون وملكوت السموات والأرض. أنه في هذه السردية شرح بتفصيل الرحمة الربانية والحكمة الإلهية بفلسفة الموت والحياة وان الخالق سبحانه وتعالى وعد عباده الصالحين جنة عرضها السموات والأرض لهؤلاء الذين يرجون رحمته وانه وعد إلهي ولن يخلف الله وعده.
مهندسنا الفاضل واخانا العزيز:
بارك الله فيك و في إضاءتك الكريمة. شرفتنا بمرورك الكريم. الف شكر و تحية.
مقال جميل دكتورنا العزيز
اختصرت المقال الجميل بهذه الكلمات ( فحياةٌ نهايتها الموت لا تستحق من العقلاء أن يلوثوها بالانحراف عن الفضيلة والوقوع في مهاوي الرذيلة. )
الله يرزقنا واياكم والمتابعين حسن الختام يارب
عزييزي أبو محمد
ما شاء الله مقال جميل جدا ، اعجبتني طريقة طرحك للموضوع وتوظيفه لملامسة الكثير من شؤن الإنسان. وطريقة طرحها فيها نموذج من إنسان له خبرة كبيرة في معالجة الأمور وهذا ليس مستغرب على شخصكم الكريم.
الشكر لجميع القراء و المشاركين و لكما اخ عثمان المجدور و اخ محمد الحاجي على هذه الاضاءات الجميلة و مروركم المشكور. انا ممتن لكم و لجميع القراء. الف تحية.
اكثر من رائع دكتور
مقالك لا يمكن تطبيق نظرية الاختبار عليه ..
عند قراءة أوله تشعر انك مجبور لا تقاوم إكماله حتى آخر كلمة .
بورك فكرك و مدادك
السلام عليكم دكتورنا العزيز عبدالجليل الخليفة حفظكم الله
مقال جميل من فكر نير كالعادة. اسمح لي ب تعليق واحد على بعض ماجاء فيه.
ان “الأنتكاس والتعري عن الفضيلة ولبس الرذيلة” سلوك مرفوض يأخذ بالأنسان من السمو الأنساني الذي اراده الله له الى وحل الأنتكاس لما دون ذلك. ولكن ان يصدر ذلك من فرد ما اختار ذلك لنفسه فهو ليس بالأمر المستغرب، وهو غالبا ذو اثر محدود وحتى ان امتد الى ماوراء ذلك، فأنه غالبا لايكون له ذاك الأثر الكبير على المجتمع، لعلم الناس بمصدره.
لذى، فأنا كأنسان، ربما، اختار ان لا اعيره اي اهتمام متذكرا قول الله في كتابه “ياايها الذين امنوا عليكم انفسكم لايضركم من ضل اذا اهتديتم” مع تذكر اهمية ألأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في مكانه.
ان المشكلة تكمن في سلوك البعض ممن لايطلق عليهم هذا الوصف “انتكاس…اتباع الرذيلة…” حيث ان ظاهرهم اقرب من الفضائل بأنواعها. وذلك عندما لايأخذون بالقوانين التي رسمها ديننا الأسلامي الحنيف، ونطق بها الرسول الأعظم ومحيطه القريب منه. كقاعدة الحق واهله وكيف للمسلم ان يعرف الحق بالعمل على معرفته بالبحث والتحري عنه لا ان يكون قراره واخذه لموقف ما ضد اخر قائم على قناعات مسبقة بسبب هذا الشخص او ذاك ومكانة هذا الشخص وقرابته او ’قيمته’ الأجتماعية العرفية في مجتمع ما. ف يمدح ويدافع ويصطف مع هذا و يذم ذاك فينقلب الباطل حق والحق باطل. بهذا يخرج الأنسان من دائرة الفضيلة وهو المتلبس بها ظاهرا الى دائرة اخرى لاتليق به كأنسان يريد الفوز عند ربه الذي امره بالتقوى عندما يتسبب ذلك في انه يشطط بعيدا عن الحق ويتسبب في جعل الحق امر نسبي يعتمد على المتخاصمين فيه، فيقال به على اساس بعيد عن الواقع والعدالة التي تضمن سمو الأنسان وتقدمه وتطبيقه لما اراده الله بأن بتم العمل بما يضمن المصلحة والعدالة للجميع دون ان يكون هناك استثنائات يتم فيها لي ذراع الحق في اتجاه الخطأ.
اننا مهما صفى فكرنا وكثرت تجاربنا نبقى في حاجة الى المباديء التي صدرت من الأمثلة الأسمى للأنسانية ومنابع القيم السامية، تراجمة الوحي، كما في فكر أمير المؤمنين، لما فيه من المعاني الخيرة التي تهدف إلى بناء الإنسان وسعادته بتكوينه تكويناً متوازناً مع نفسه ومتسقاً في علاقته بالآخرين.
شكرا لكم جميعًا على هذه الاضاءات الجميلة التي زادت الموضوع وضوحا و أثرته معنى و تطبيقا. الف شكر لكم. بارك الله فيكم.