الحياة سجلٌ خالدٌ لأفكارٍ وقراراتٍ إتخذها الإنسان فأصبحت أحداثًا شكّلت حياته ورسمت مستقبله، بعض هذه الأفكار والقرارات صائبة مثلت خطوةً رائدةً في حياته وبعضها مع الأسف ربما كان خاطئًا فسبّب نكسة وحسرةً تكبدها بقية عمره.
لذلك فإنّ النجاح في هذه الحياة هو نتيجة قراراتٍ صائبةٍ إتخذها الإنسان في مفاصل استراتيجية راكمت أثرًا ايجابيًا على حياته، وبالمثل، الفشل هو نتيجة قراراتٍ خاطئةٍ راكمت أثرًا سلبيًا على حياته.
فإذا كانت الأفكار والقرارات ذات أثرٍ استراتيجي على مستقبل الإنسان وسعادته، أليس من الأجدر أن يبذل جهدًا استثنائيًا ليضمن جودتها وصحتها؟ الجواب، نعم، ولكن كيف؟
يحتاج الإنسان الى ميزانٍ يزن فيه أفكاره وقراراته ليتجنب الأخطاء ويراكم الإنجازات عبر حياته. إنه ميزانٌ يزن الأفكار والقرارات، فإن كانت صائبة أعطى وزنًا موجبًا وإن كانت خاطئة أعطى وزنًا سالبًا. وكلما كانت القرارات أصوب كان الوزن أثقل وكلما كانت القرارات أكثر خطأً كان الوزن أشد سلبًا. هكذا يستطيع الإنسان أن يزن أفكاره وقراراته قبل أن ينفذها وتنعكس سلبًا على حياته.
هل يوجد هذا الميزان؟ وكيف نستخدمه في حياتنا اليومية وفي قراراتنا الاستراتيجية؟
الحدث التاريخي:
يمرّ أيّ حدثٍ تاريخي عبر سلسلة مراحل منذ انبثاق فكرته الى تنفيذه على ساحة الحياة. وهذه المراحل هي:
- التفكير،
- الإرادة،
- القرار،
- التنفيذ.
مرحلة التفكير:
موهبةٌ عظمى تميّز الإنسان عن بقية المخلوقات التي قد يكون لها حظٌ بسيطٌ من التفكير لا يقارن بما لدى الإنسان. فالإنسان كائنٌ حرٌ مختارٌ وهبه الله العقل الذي يفكّر به، وهذا التفكير كما يرى دانيال كانمان على نوعين: سريعٌ وبطيءٌ. فالتفكير السريع هو ذلك التفكير اللحظي الحدسي الذي يعتمد على حصيلتنا الحياتية منذ نعومة أظفارنا، فبه نقرّر نوع طعامنا وطريقة مشينا وبه نهرب من النار والحيوانات المفترسة دون تفكير بل يكاد أن يكون لا شعوريٍا، بينما التفكير البطيء هو ذلك التفكير العميق الاستنتاجي الذي يعتمد الدليل والبرهان للوصول الى النتيجة المطلوبة.
ونحن نختلف مع كانمان في التفكير السريع، فما يحدث في حال الخطر او في الأمور الاعتيادية هو أنّ الشخص يتجنب مرحلة التفكير والإرادة وينتقل فجأةً الى مرحلة القرار والتنفيذ فلا يمكن أن نعتبره تفكيرًا سريعًا. فالتفكير كما نراه هو ما يسميه كاهنمان بالتفكير البطيء وهو الذي ينتقل به العقل من المعلوم ليكتشف المجهول.
فالمعلوم قد يكون الظروف المحيطة والفرص والتحديات والإمكانيات، بينما قد يكون المجهول المطلوب اكتشافه من خلال عملية التفكير هو: ماهو الهدف الذي يمكن تحقيقه؟ وكيف؟
والتفكير على مستويات فمنه البديهي الذي لا يحتاج الى مقدمات لإثباته، ومنه النظري الذي يحتاج الى الكثير من المقدمات والعلوم الأساسية والخبرات العملية والاطلاع على الظروف والحيثيات وربما إحتاج الى استخدام تقنياتٍ و برامج حديثة.
أما أين يتم هذا التفكير، هل هو في الدماغ أم أنّ الدماغ جهاز استقبال وإرسال فقط؟ سندع هذا لمن يهمه الأمر لمتابعة هذا الموضوع الذي إختلف فيه المتخصصون.
مرحلة الإرادة:
حين يستعرض الإنسان فكريًا الخيارات المتاحة التي يمكن ان تلبي طموحه، تقفز الى الذهن أحلامٌ وصورٌ جميلة عن هذا المستقبل المنشود، فتولّد في نفس الإنسان رغبةً عارمةً وعاطفة جياشة وإرادةً حازمةً لاتخاذ القرار الذي يحقق هذه الأحلام والصور الذهنية الجميلة التي تلبي طموحه. هذه الإرادة تبقى مشتعلة حتى يصنع القرار وقد تستمر بنفس الزخم لتضمن تنفيذه على أرض الواقع. وكلما كانت الأفكار واضحة والمستقبل حاشدًا بالصور الجميلة كلما كانت الإرادة قويةَ وحازمةً.
لكن ماهي الإرادة؟ أين تكون، هل هي في الدماغ؟ أم أنّ لكل عضوٍ في جسم الإنسان إرادةٌ خاصةٌ به؟ أم أنّ الإرادة كما هو التفكير، توجد في العالم اللامادي وتستخدم الدماغ وأعضاء الجسم للتعبير عن مكنونها؟ نترك هذا للمتخصصين للغور في أسبار هذا الموضوع الشيّق.
مرحلة صناعة القرار:
هو العزم والتصميم على البدء في تنفيذ الخيار الذي تمّ التفكير فيه وانعقدت الإرادة على اختياره، فهو ما يحقق المطلوب. فصناعة القرار هي أوّل خطوةٍ تنقل الإنسان من عالم التفكير والإرادة الى عالم التنفيذ. وقد يكون القرار ايجابًا بالتصميم على فعلٍ ما، وقد يكون سلبًا بالعزمِ على ترك فعلٍ ما.
المشكلة أنّ البعض يستعجل في قراراته قبل أن يكمل عملية التفكير السابقة، والبعض قد يؤخر القرار نتيجة تردده وخوفه من المجهول، إذ أنَ القرار ينقل الإنسان من دائرة الراحة المعتادة الى دائرةٍ جديدة قد تكشف مجاهيل لم يتعود الفرد عليها.
لذلك فإن صناعة القرار تعتبر من أهم صفات القادة والإداريين الناجحين في الحياة. والتأجيل في صناعة القرار قد يكون مفيدًا أحيانًا، نتيجة عدم إكتمال عملية التفكير او نقص المعلومات أو إختلاف الفريق على اختيار القرار الأصوب.
مرحلة التنفيذ:
الخطوات العملية التي تحقق الإرادة وتنفذ القرار على أرض الواقع، فهي خطة عملية توضح بالتفصيل كيفية تحقيق الهدف، مراعية الظروف والتحديات ومختارةً أنسب واقرب السبل الممكنة للوصول الى الهدف المطلوب. إنّ كثيرًاٌ من الأفراد يصنع القرار وقد يبدأ في التنفيذ لكنه سرعان ما يفقد العزم والتصميم فتتبخر تلك الإرادة، ولا يبقى لها أثرٌ على أرض الواقع. إنّ ما يميز الشركات والمجتمعات والأفراد الناجحين هي تنفيذ الخطط التكتيكية والاستراتيجية على مراحل مرسومة بدقة، وتحميل المسؤوليات لبعض الموظفين كلّ حسب دوره، ومراقبة الأداء للتأكد من جدوى الخطط المرسومة. ومن الممكن جدًا أن تتغير الخطط المرسومة نتيجة تغير الظروف والملابسات المحيطة ولكن ضمن دراسة متكاملة.
وهنا تكمن بعض التفاصيل، فالبعض يرى أن المهم تحقيق الهدف، فالغاية في نظره تبرّر الوسيلة، ومنها إنطلقت الفلسفة البراغماتية التي ترى أن النتيجة العملية هي الحكم على صواب الأفكار وصحتها، فما يحقق المطلوب هو الصواب وإن إخترق بعض القيم والأعراف. بينما نرى نحن أن القيم الإنسانية كالأمانة والعدل والاستقامة قيمُ مطلقة ُتضمن سلامة الحياة الاجتماعية ولذلك لا يمكن الاخلال بها من قبل الأفراد والمجتمعات.
التفكير الذي لا تصحبه إرادة يبقى ناقصًا، والإرادة التي لا تنتهي الى قرارٍ تبقى عاجزة، والقرار الذي ينقصه التنفيذ لايكون حدثُا، بل يبقى سرابًا.
ميزان الحياة:
يحتاج الأفراد والمجتمعات في حياتهم الى ميزانٍ يضمن سعادتهم ويراكم انجازاتهم ويجنبهم الفشل. هذا الميزان لا بدّ أن يلبي حاجة الأفراد والمجتمعات على مستوى التفكير والإرادة وصنع القرار وسلامة التنفيذ. هذا الميزان هو الاعتقاد الحقّ بإطارٍ فكري شاملٍ للكون والحياة يضمن:
- سلامة التفكير الذي ينسجم مع الهدف العام الذي من أجله خلق الإنسان،
- قوة الإرادة التي تستمد قوتها من الايمان الراسخ بهذا الإطار الفكري الشامل وليس فقط من جمال الأحلام المادية،
- القرار الصائب الذي ينظر الى الحياة على مداها الذي يشمل الدنيا والآخرة، ولا يجتزيء الصورة في حدودها الدنيوية فقط،
- سلامة التنفيذ الذي يشمل حفظ القيم الإنسانية على العكس من البراغماتية الغربية التي اختزلت النجاح والسعادة في تحقيق أهدافٍ أنانيةٍ قصيرة الأمد.
(وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ ۚ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ)، والحمد لله ربّ العالمين.
أحسنت
بيض الله وجهك دكتورنا على هذا الطرح الجميل وزادك الله علما ورحم الله أما انجبتك
شكرا لكم اخي عبدالعليم و اخي صادق على قراءتكم الجميلة. بارك الله فيكم.
شكراً لكم على هذا الإختيار الدكتور الفاضل