عندما نتحدث عن القطيف التاريخية فنحن نتحدث عن منطقة شاسعة تمتد من الشمال من حدود البصرة (في العراق حاليا) الى عمان في الجنوب ومن الاحساء في الغرب الى جزر الخليج في الشرق (البحرين تاروت دارين وغيرها) اي المنطقة الشرقية بأكملها من المملكة العربية السعودية.
هذه المنطقة الشاسعة من الأرض وموقعها الاستراتيجي الواقعة بين مراكز الحضارات القديمة جعلها تتبوأ وتلعب أدوارا حيوية في تاريخ الحضارات القديمة، فمن الشمال تقع حضارات بلاد الهلال الخصيب متمثلة بحضارة ما بين النهرين (حضارة بلاد الرافدين) وحضارة بلاد الشام وسواحل البحر المتوسط (حضارة الفينيقيين واليونانيين) ومن الجنوب ممالك وحضارات شبة الجزيرة العربية ومن الشرق حضارة بلاد فارس ومن خلفها حضارات بلاد الهند والسند والحضارات الاسيوية الاخرى. فهي حضارة قديمة يعود تاريخها لأكثر من 3500 عاما قبل الميلاد.
وفي هذا الجزء من سلسة المقالات التي توثق تاريخ حملات التنقيب عن الاثار في القطيف التاريخية سنتطرق الى الاعمال التنقيبية والمكتشفة بدا من مستوطنة ثاج التاريخية:
موقع ثاج
أوفدت إدارة الآثار والمتاحف في عام 1982م فريقاً من باحثي الاثار وذلك لمعاينة موقع ثاج ووصف اثارة ودراسة طوبوغرافيته نتج عنه نشر وكتابته تقرير لتوثيقه.
واما في عام 1983م فقد كان اول مواسم التنقيب لموقع ثاج والذي وصف المربعات التي تتمركز في وسط المستوطنة الأثرية والمادة الأثرية الضخمة التي اكتشفت والتي تتمثل بأواني الفخار المتنوعة، وقطع العملة التي يقارب عددها المائة قطعة، والمشغولات الخشبية كالأمشاط،
والمجسمات الفخارية المتنوعة، ووصف للعمارة المكتشفة في ضوء ما كشفت عنه المربعات المنقبة.
وبناء على الدراسة الأولية للمادة الأثرية المكتشفة تبين أن استيطان الموقع يعود لنهاية فترة الممالك العربية القديمة، ويستمر خلال فترة الممالك العربية المتوسطة والمتأخرة، أي من 500 قبل الميلاد حتى 400م وتمخض عن كتابة ونشر تقرير لنتائج ذلك العمل. كذلك قام دانيال بوتس والذي كان ضمن أعضاء الفريق الآثاري المنجز للعمل المذكور بنشر نتائج هذا العمل في مقال في عام 1984م أورد فيه وصفاً مجملاً وما تصوره هو بالنسبة للفترات الاستيطانية التي تعاقبت على هذه المستوطنة.
وفي نفس العام 1984م قام عوض الزهراني، أحد موظفي إدارة الآثار والمتاحف السعودية، بإجراء مسح لموقع ثاج حيث حفرت بعض الخنادق الاختبارية بهدف الحصول على معلومات جديدة ومادة أثرية لتشكل مادة بحث لرسالته الماجستير والتي كان يُعدها عن مستوطنة موقع ثاج. تمكن من وراء ذلك العمل أن يحصل على مادة أثرية متنوعة اشتملت على قطع العملة المتنوعة، والمجسمات الفخارية الآدمية والحيوانية، ومجموعات من الأواني الفخارية، وتفاصيل عن عمارة الوحدات السكنية، بالإضافة إلى تحديد لسور المستوطنة وعمقه وطريقة تشييده.
اما الموسم التنقيبي الثاني لموقع ثاج فقد بدا في عام 1984م والذي تركز حول برج مربع يعتقد أنه أحد أبراج السّور الأثري للمستوطنة. تشر بخصوصة تقريرا ويحتوي على كمية من المادة الفخارية التي تؤرخ بمجملها للفترة الهلينستية، ومواد أثرية أخرى.
وفي عام 1998م قام فريق من وكالة الاثار والمتاحف السعودية بحفر أحد المقابر الركامية في موقع ثاج أطلق عليه اسم “تل الزائر”، ونشر عنه تقريراً، أفاد بوجود تابوت فيه جثة فتاة وجد معها معثورات ذهبية وفضية ومئات الخرز من مختلف الأصناف حيث يعد القبر من أغنى القبور فيما احتواه من مادة أثرية أغلبها مصنوع من الذهب، والبعض الاخر مصنوع من معادن أخرى بالإضافة إلى أدوات الزينة لصاحبة القبر التي يُظن انها فتاة صغيرة لم تتجاوز الثانية عشر من عمرها.
و في العام الذي تلاه, 1999م قام فريق من الوكالة بأجراء حفريات في موقع تل الزائر في ثاج استكمالا لما بُدأ فيه من عمل في العام الذي سبقه والاستمرار بكشف الاجزاء الأخرى من هذا الموقع “موقع ثاج او تل الزائر” حيث أجريت حفريات في تل آخر يبعد عن تل الزائر بـ 250م إلى الشمال، وتم اكتشاف التل “ت3 و ت4”. هذه المربعات تقع إلى الجهة الشرقية من المربعات المكتشفة عام 1998م. ونتج عن حفر المربع ت4 اكتشاف عدد من الكسر الفخارية، وقطع من الدمى الفخارية، والمباخر، وعظام حيوانات مهترئة مع طبقة رماد منتشرة داخل المربع، وكمية من المباخر، وتم الوصول إلى الأرضية الصخرية البكر عند عمق 4.40م.
ويشتمل الفخار أيضاً على المزجج والغير مزجج. أما حفرية المربع ت3 فنتج عنها تجميع بعض الكسر الفخارية، وكسر العظام الحيوانية. وعند عمق 2.80م توقف العمل.
وأُنجزت حفريات أخرى في تل قريب من تل الزائر يقع على خط الطول 36.52.833 شمالاً وخط العرض 48.43.318 شرقاً. حيث كشفت الحفريات في هذا التل عن مادة أثرية، فعُثر على بعض المدافن الحجرية التي يظهر على البعض منها آثار الحرق، وكثير من الكسر الفخارية المختلفة، وبعض كسر العظام المتناثرة.
كما أجريت حفريات في الدوائر الحجرية التي تقع على خط الطول 26.51.838 شمالاً وخط العرض 48.44.060 شرقاً والذي يبلغ قطرها 21 متراً. واتضح بعد الحفريات أن هذه الدائرة تُمثل مدفناً منبوشاً، حيث عُثر أثناء غربلة الأتربة على ضرس واحد لإنسان، وعُثر أيضا على عدد من الكسر الفخارية خارج المدفن تمثل إناءين أحدهما به مادة الجص واضحة على سطحه من الداخل، كما نُقب مجس في الحرم الدائري بعرض متر واحد؛ وعُثر على أربع قطع عملة. وقد بلغت أعداد الكسر الفخارية المكتشفة 4312 قطعة.
استمر العمل في موقع ثاج في عام 2001م في موقعي “ت1” و “ت2” وكذلك موقع الدوائر الحجرية الذي يبعد عن هجرة ثاج بكيلو مترتين إلى الجنوب الشرقي، حيث تم اختيار الدائرة رقم 2 ليتم اكتشافها بالكامل وذلك لمعرفة ما إذا كانت تحتوي على مدافن جانبية أو إنشاءات معمارية أخرى. قُسم فريق العمل إلى فريقين، فريق قام بتتبع الدرب القديم من الاحساء والمسمى بدرب الجرهاء بدءاً من منطقة عريعرة إلى منطقة النعيرية مروراً بثاج القديمة، كما قام الفريق بحصر بعض الآثار الثابتة والمنقولة الواقعة على هذا الطريق.
بالإضافة الى ذلك، قام فريق آخر بالأعمال التنقيبية والاستكشافية في المناطق التي سبق ذكرها حيث بدأ العمل في التل رقم 1، أسفر عن اكتشاف عدد كبير من الكسر الفخارية، وعظام حيوانية لجمل كامل، وكسر من الدمى الفخارية والآدمية والحيوانية، وبعض المباخر الفخارية بعد فتح مربعين مساحة كل منهما 5 × 5م حيث توقف الحفر عند عمق 2.70م. كما أسفر التنقيب في التل رقم 2 عن بعض الكسر الفخارية المتنوعة، وكمية من العظام البشرية على عمق 4.87م ومن ثم توقف الحفر.
اما الدائرة رقم 2 التي يبلغ قطرها 15م فقد تم تنقيبها بعد اسقاط مربع أبعاده 5 × 5م وسط الدائرة والذي أسفر عن اكتشاف مدفن يعتقد انه سبق وأن سرق استدلالاً من إزالة أحد أغطيته، كما وجد عدد من الكسر الفخارية. بالإضافة الى ذلك، تم اكتشاف بعض الأصداف البحرية، والخرز، وقطع من عظام الأسماك، وزر ذهبي صغير، وقطعتان نحاسيتان متأكسدتين.
اما درب الجرهاء فقد بدا مسحه من هجرة ثاج بالقرب من جبل البتيل الجنوبي حيث وجد عدد من تلال المدافن قليلة الارتفاع، ثم بئر رضى التي وجد حولها الكثير من الكسر الفخارية وما يقارب من العشرين تلاً من تلال المدافن.
ولقد عثر على هضبة في منطقة أحزوم أبو شداد رسومات صخرية، وحقل مدافن تلاليه و الكثير من الرسوم والمخربشات في جبل قدام، وتل ركامي له حرم شبه مستطيل، وآخر له حرم دائري. كما تم تحديد بئر عراج، وبئر أخرى بالقرب منها مدفونة بالرمل، وعُثر حولهما على كسر فخارية وبعض الوسوم والمخربشات على تل صغير يقع بالقرب منهما.
واما على جبل ديران فقد وجد حقل من المدافن التلالية، وحقل آخر يقع غرب جبل ديران فوق الأرض الصخرية المنبسطة، ويشتمل على أنواع من تلال المدافن. كذلك، عُثر على الهضبة المطلة على فيضة أم العكرش على بعض التلال الركامية والتلال الركامية ذات الحرم الحجري الدائري الصغير ووجد حول بئر مارغوان رابية توجد عليها مدافن تلال ركامية وتجمع حجري طويل، وتل ركامي بحرم دائري صغير؛ وبعض الوسوم الصخرية على تل حجري صغير، وأخرى على تل حجري آخر، وثالثة على تل حجري ثالث.
واما الى الشمال من مدينة ثاج حيث توجد قلبان الثميلة عُثر على مبنى أثري، وكسر فخارية، وأدوات طحن الحبوب، وخرزة واحدة صفراء صغيرة. ووجد تل ركامي بحرم حجري كبير على رابية في منطقة الردايف تطل على سبخة أم الجمال من الجهة الغربية، كما وجد تل آخر على الحرم الدائري. وعُثر على بعض التلال الركامية الأخرى، وصفّ من الحجارة المجمعة لهدف ما، وتل وحقل تلال ركامية منها واحد بحرم دائري، وآخر بذيل متعرج بحجارة كبيرة وضعت بالتكتيف.
وكنتيجة لهذا العمل الاستكشافي والتنقيبي فان الدراسات الميدانية التي تمت بخصوص مستوطنة ثاج تبين لنا أنها مستوطنة من أهم مراكز العمران في الأزمنة السابقة قبل ظهور الإسلام لعدد من الأسباب؛ ربما ان من أهمها غناء البيئة المحيطة بها بالمياه الموسمية والجوفية، ووفرة المراعي لقطعان الماشية، وتمركز المستوطنة في قلب صحراء عبورها أمر لا بد منه لمن يريد شرقي الجزيرة العربية من وسطها أو من يريد وسطها من شرقيها.
فمن المسلم به أن تجارة الخليج العربي سواء مع الهضبة الإيرانية أو ما جاورها من بلدان أو شبه القارة الهندية كانت تفرغ في مواني الخليج العربي كالدفي في منطقة الجبيل ثم تُنقل براً في اتجاهات متعددة وجزء منها يمر بثاج في طريقه نحو بلدان الشمال.
من هذه المكتشفات, تبين ضخامة الدور الذي لعبته المستوطنة بين سكان الزمن الذي عاصرته مما وجد فيها من مادة أثرية كقطع العملة التي يعود بعضها إلى مصادر يونانية، وبعضها إلى مصادر رومانية، وبعضها إلى ممالك جنوب الجزيرة العربية، وبعضها إلى ممالك شرقي الجزيرة العربية؛ وكذلك المجسمات الفخارية التي أثبتت الدراسات التي سوف نأتي على ذكرها أنها ذات أصول مختلفة، فمنها ما هو متأثر بما كان يوجد في بلاد الرافدين وشمال غربي الجزيرة العربية، وكذلك المجامر المكعبة التي أثبتت دراستها ودراسة زخارفها اتصال ثاج ببلدان مختلفة داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها.
وما جرى على قطع العملة والمجسمات الفخارية والمجامر يجري على ما وجد في المستوطنة من نقوش منقوشة على قطع الحجارة التي جمعت بين خطوط كانت تستخدم من شمالي الجزيرة العربية الى جنوبيها. ويضاف إلى ما مرّ من تنوع المادة الفخارية واحتوائها على ما هو مستورد من بلاد نائية كاليونان.
والمادة الاثارية المكتشفة في مستوطنة ثاج تعتبر ذات أهمية حيث ان المستوطنة بكاملها ربما بقيت سليمة مغطاة بالرمال والاتربة الصلصالية التي جرفتها السيول وذرتها الرياح وأفرزتها أنقاض المباني الطينية حيث ولا تزال جدران الوحدات السكنية والمباني العامة بيّنة من على سطح الموقع، ومنها يتبين الجهد الضخم الذي بذل في تشييدها؛ فتنوع الحجارة، وتهذيبها، وحجمها، دلالة واضحة على القوة الاقتصادية لساكنيها.
بل لم يقتصر الأمر على قوة التشييد، فالمدينة محاطة بسور ضخم يبلغ عرضه متران ونصف المتر. فمن المشاهدات على أرض الطبيعة فإن المستوطنة كانت عاصمة لكيان سياسي قوي، يستمد قوته من نشاطها الاقتصادي، ومن الحماية التي توفرها للقوافل التجارية، ومن سيطرتها على طرق المواصلات وان المادة الأثرية التي المكتشفه من الأعمال الميدانية تشتمل على مادة آثارية متنوعة تنوعاً كبيراً يمكنه المساهمة في بناء تاريخ الموقع، ومن ثم المنطقة الشرقية خلال العصور القديمة.
ملاحظة: يجب التنويه ان معظم مصادر المقالة مستقاة من المصادر التي تم جمعها على يد الأستاذ الدكتور عبد العزيز بن سعود بن جارالله الغزي أستاذ كلية السياحة والآثار قسم الآثار في جامعة الملك سعود التي جمعها في وثيقة واحدة باسم ” المصادر الإثارية لدراسة التاريخ القديم للمنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية” والتي وثقها ونشرها في عدة مقالات في جريدة الرياض في عام 1996م وتم إعادة صياغتها للفائدة مع ارفاق المصدر الرئيسي.
المصادر:
• http://dhahranhistory.blogspot.com/2012/11/blog-post_5787.html
• https://www.qatifscience.com/?p=22802
• https://www.qatifscience.com/?p=22857
• https://www.qatifscience.com/?p=22877
• https://www.latimes.com/archives/la-xpm-1992-02-05-mn-1192-story.html
• https://www.pbs.org/wgbh/nova/ubar/zarins</strong