أطلق الإنسان إسم العصر الحجري على حقبة من الزمن عاشها قبل أن يكتشف المعادن. وفي العصر الحجري إستخدم الإنسان الحجر لتدبير شؤونه الحياتية، فصنع الأواني من الأحجار وأخذ من كهوف الجبال مسكنا له. وبعد فترة من الزمن طويلة إستطاع الإنسان في وادي الرافدين من إستخدام مادة الصلصال لأول مرة. وبعد فترة أخرى طويلة من الزمن إستطاع الإنسان التعرف على الطبيعة وعناصرها – واستعمل بعض المواد كخام مادة النحاس والحديد والبرونز، وأطلق بعض الباحثين على بعض الحقب الزمنية التي عاشها الإنسان إسم عصر النحاس وعصر الحديد وعصر البرونز. وهكذا يحلو للإنسان تسمية الحقب الزمنية حسب نشاطات الإنسان في تلك الحقب. ويذهب البعض إلى أن الخامات هي التي قادت مسيرة التاريخ وأنه من المستحيل بناء أي حضارة بدون اللجوء إلى معالجة المواد الخام.
وفي عصرنا الحاضر نسمع أسماء كثيرة تطلق على عصرنا الحاضر، وذلك لأن عصرنا عصر الإنفتاح على مجالات متنوعة من العلوم فيسميه البعض بعصر الحاسوب والبعض الآخر بعصر الأقمار الصناعية أو عصر غزو الفضاء أو عصر البولي إيثيلين وهناك أسماء أخرى كثيرة كعصر الثورات الصناعية وعصر النانو، وعصر السيليكون وعصر المواد المهندسة وعصر المعالجة البارعة للمواد. ومما لا شك فيه أن الإنسان لا يستطيع غزو الفضاء ولا بناء الحاسوب ولا الأقمار الصناعية ولا يستطيع تطوير أي مجال بدون تصنيع المواد اللازمة لذلك. وقد برع الإنسان في تصنيع العديد من المواد وطور الكثير منها في عصرنا، فصنع الفولاذ لبناء ناطحات السحاب وطور صنع النحاس كموصلات للكهرباء. كما صنع رقائق السليكون وأنواع كثيرة من البلاستيك والمذيبات. وقد سجل الإنسان في هذا العصر آلاف الإختراعات في مجال تطوير وتصنيع العناصر والمركبات.
لقد بدأت الثورة الصناعية في أوروبا في بداية القرن العشرين ببناء الهياكل الحديدية الضخمة لتشييد المصانع والبنايات وإنتهت هذه الثورة في وقتنا الحاضر بتصميم العديد من المواد لخليط من المعادن تتميز بخفتها وصلابتها.
لقد تعلم الإنسان وخاصة المهندسين ومن خلال التجارب الماضية طرق عديدة لتقييم وصنع وتطوير المواد وزيادة مواصفاتها وفعالياتها. فقد إستطاع الإنسان في هذا العصر من التفنن في صناعة الزجاج وجعله صلبا كالجدار، كما استطاع أن يصنع صفائح معدنية قوية وخفيفة لأجنحة الطائرات. وإستطاع صنع صمامات بلاستيكية للقلب وللحاسوب ومواد جديدة لصناعة المركبات الفضائية. ومن خلال عمل هندسي متقن إستطاع الإنسان أن يصمم أجهزة قياس وضبط تعنى بتفاصيل دقيقة جدا مكنته من دراسة أي منتج في المختبر وتطوير أدائه، مما أدى إلى نقلة نوعية في طرق تصنيع المواد من عناصر مختلفة. وقد حقق الإنسان جراء ذلك كثيرا من متطلباته وأحلامه وكانت النتائج مذهلة وسنتطرق لأهم مفاصلها:
- تصنيع المحركات النفاثة: يعتبر جوف المحركات النفاثة أخطر وأصعب بيئة على الأرض حيث تصل الحرارة إلى 2000 درجة مئوية. لذا كان لزاما للمواد التي تصنع منها المحركات النفاثة وخاصة ريش مراوح المحركات أن تكون قوية وتتحمل الحرارة العالية والضغط الناتج من مرور الغازات على مراوح المحرك والذي يجعلها تدور آلاف المرات في الدقيقة. وأن تكون هذه الريش خفيفة لزيادة الأداء. وتعتبر صناعة المواد المستخدمة في المحركات النفاثة واحدة من أهم إنجازات هندسة المواد في عصرنا الحاضر.
- موصلات الكهرباء: يعتبر النحاس موصل جيد للكهرباء لكنه ضعيف، لكن إذا ما تم خلطه بكميات معينة من الفضة يصبح قويا. إن إستخدام مادة غير النحاس أو خلط النحاس بكمية غير مناسبة من الفضة قد يؤدي إلى كوارث لا يحمد عقباها من إنقطاع للكهرباء وعطب لأجهزة الاتصالات.
- دوائر التوصيل البلاستيكية: ولأن المواد المختلفة لها خواص مختلفة والبعض منها أفضل من الآخر في بعض التطبيقات، فقد توصل الإنسان لإستخدام دوائر التوصيل البلاستيكية لأن لها قدرة على التخزين أكبر ولأنها أخف ولا تتأثر بالمجال المغناطيسي.
- السيراميك: ولما إكتشف الإنسان أن السيراميك يتحمل الحرارة العالية، قام المهندسين في إدخاله لصناعة محركات الإحتراق الداخلي بدلا من المعادن الأخرى.
- عنصر الكربون: يتمتع عنصر الكربون بخاصية عدم التمدد بالحرارة فتم إدخاله مع عناصر أخرى لتصنيع مركبات جديدة تم إستخدامها في صنع هياكل السيارات وبناء السفن والساعات وقواعد الهوائيات.
- إضافة القصدير إلى النحاس: إن إضافة القصدير الى النحاس بكميات متوازنة يكون خليط البرونز القوي والذي يستخدم في صناعة كراسي المحركات والسناد وعلب التروس والدواليب المسننة المستخدمة في مجالات كثيرة من الصناعة.
- إضافة مادة اللدائن الطينية: لقد توصل الإنسان بعد تجارب كثيرة إلى أن إضافة اللدائن الطينية للمواد الأخرى ينتج مواد قوية ومرنة ساعدت في صنع أجهزة حديثة ومهمة كأنابيب الرئة الصناعية وما تحتاجه الجراحة التقويمية.
- المواد الذكية: وهي المواد التي تتذكر وضعها وتعود لشكلها الأول عندما تتفاعل مع التغيرات في ظل ظروف معينة فتغير شكلها طواعية. ويدخل في صناعة المواد الذكية خليط من العناصر لتقويتها أو لتضعيفها وذلك على حسب الحاجة كإستخدامها لصناعة عدسات النظارات والغلايات وأسلاك العضلات الصناعية.
- البلورات الشفافة: إستطاع الإنسان من تنقية السيليكون للحصول على بلورات شفافة وذلك بقطعه لشرائح رقيقة وذلك لإستخدامها في صناعة أشباه الموصلات والمعالجات المجهرية.
وهناك الكثير من المواد التي تم تصنيعها في ظل الحروب وخاصة الحرب العالمية الثانية لأن رغبة الإنسان في صناعة الأسلحة وتطويرها حتم عليه تطوير الخامات. فقد تم تصنيع المطاط الصناعي وخليط السيليكون ومادة النايلون والتيتانيوم والتفلون كمواد لتقوية وتطوير الماكنة العسكرية. إلا أنه وبعد أن وضعت الحرب أوزارها نقل المهندسين هذه التقنيات للإستفادة منها في المجالات الأخرى وخاصة الطب. فتم صناعة الكلى الصناعية والعدسات اللاصقة وخيوط الجراحة ومواد الجراحة الترقيعية والمبيدات الحشرية.
واستطاع الإنسان مؤخرا من صناعة الفايبرجلاس بشكل صلب وخفيف مكن المهندسين من إستخدامه لصناعة هياكل السيارات والقوارب الصغيرة. كما تم إستخدام السيراميك لصناعة الجسم الخارجي للمركبات الفضائية لأنها الأفضل لمقاومة الحرارة.
كما أن تقدم التقنية الجديدة والقيام بالتصوير الذري والجزيئي للمواد ساهم في المساعدة على إختيار الأفضل من المركبات للقيام بأي مهمة مطلوبة.
إن تطوير المواد وتطويعها أصبحت سمة من سمات هذا العصر وأن قدرة المهندسين لتحويل المعادن لمواد تلبي حاجيات الإنسان في ظل ثورة عارمة من النظريات والأفكار الجديدة لإنجاز عظيم. وقد ساعد هذا الإنجاز على تنامي قدرة الإنسان على تحويل النظريات العلمية إلى تطبيق والذي بات يطرق أبواب تصميم الذرات والتركيب الجزيئي للمواد. إن تحريك الإلكترونات من مداراتها في ذرات المواد وتحويلها إلى مواد أخرى أو جديدة أصبح الجبهة العلمية الجديدة للمستقبل. وأن تواجد القدرات التحليلية والحسابية المتطورة تدعمها تقنيات مجهرية متطورة من الرصد والمتابعة مكنت المهندسين من التحكم الغير مسبوق بالمواد في تاريخ الإنسان، وهذا يبشر بإنجازات كبيرة في المستقبل القريب قد تنقلنا إلى عصر جديد ربما يطلق عليه عصر الأحلام.
المراجع:
- جوهر الحضارة – ستيفن ساس – 1999م.
- المواد الذكية ـ ويت جبس ـ 1996م.