الطريق الى نبع الوجود (4) – د. جاسم حسن العلوي

الطريق الى نبع الوجود (4)

رحلة الحائرين إلى الله

قراءة في كتاب “وجود الله بين العلم و المنهج العلمي” 

الكاتب : علي ديلان

هل أن هذه القوانين تنتمي إلى فئة الأفكار المخترعة التي تنبعث من الذهن عن إرادة و إختيار أو إلى فئة الأفكار المكتشفة التي لا يجد العقل ذاته إلا أن يقبلها بحسب التصنيف السابق؟  وللإجابة … يقسم  الـ”ديلان” هذه القوانين إلى نوعين: قوانين كلية ثابتة ، مطلقة و تجريدية و تنتمي إلى هذه الفئة الرياضيات التجريدية. و قوانين الفيزياء الرياضية التي مهمتها توصيف السلوك العام للطبيعة التي هي قوانين رغم كثرتها إلا أنها مترابطة فيما بينها. و يعتقد أن كلا النوعين هما مكتشفات للعقل و ليس من مخترعاته و دليله هو أن لهذه القوانين حكومة على العقل بحيث ” لا يجد العقل منفدا يتمكن من خلاله أن يعتقد أو يحتمل خلاف ما هو مقرر في قوانين الرياضيات و الفيزياء ، و هذا كاشف عن أن النسبة بين العقل و القانون الرياضي ليست من نوع الإختراع و الإنتاج على حد القوانين المدنية ، و لو كانت نتاجات عقلية – حقا – لكانت ظواهر ذهنية منبعثة من الإرادة و الإختيار ، و نحن لا نحتمل أن أحدا يرضى بهذه النتيجة ” (ص 114).

فإذا كانت القوانين الرياضية و الفيزيائية تنتمي الى فئة المكتشفات العقلية فما الفرق بينهما؟  و أهم هذه الفوارق هو أن القوانين الرياضية الفيزيائية منتزعة من الواقع الفيزيائي الخارجي ، إذ ليس بإلامكان أن يفكر أحد منعزلا عن حيثيات العالم الفيزيائي ثم يأتي بنظرية تصف سلوك الأجسام في الطبيعة من خلال المعادلات التجريدية (ص 116). و قد اعتقد بعض الفيزيائين خطأ ، كما فعل روجر بينروز ، أن العالم الفيزيائي يمكن إختزاله في التراكيب الرياضية بعيدا عن الملاحظة و التجريب. ولذلك ينقل الـ”ديلان” عنه نصا في هذا السياق مقتبسا ذلك من كتابه الفيزياء و العقل ” أن دوافع أينشتاين لتخصيص ثمان سنوات من حياته لإستنباط النظرية العامة لم تكن مبنية على الملاحظة أو التجريب” (ص116).  و الحقيقة أنه بعد أن يتم إنتزاع هذه القوانين من الواقع الفيزيائي فإنها تمثل تطبيقا للرياضيات التجريدية. و أنه كلما حددنا الواقع الخارجي بدقة كلما قل إحتمال الخطأ في تطبيق القانون الرياضي. و هنا يضرب الـ”ديلان” مثالا على الهندسة الإقليدية ” أن هناك إعتقادا سائدا تلقاه الناس من الهندسة الإقليدية و هو (أن كل مثلث تساوي مجموع زواياه 180) بينما في الهندسة اللاقليدية تكون مجموع الزوايا أكثر من 180 ،فيكون التعميم في الهندسة الإقليدية خاطئا و حينئذ يتوجب أن يقترن بشروط حتى تكون نتيجته صحيحة” (ص118).

و رغم ما تتسم به هذه القوانين الرياضية الفيزيائية من دقة بالغة إلا أنه ليس من المستحيل أن تتغير وفقا لمعطيات فيزيائية لا تتوافق معها. كما أنه يمكن لهذه القوانين أن تتغير فيما لو أخذنا بفرضية الأكوان المتعددة التي من غير المستحيل أن تكون ذات طبيعة فيزيائية مغايرة.

أما الرياضيات التجريدية فإنها تنتزع من البداهة و الوضوح و هي قابلة للتغير لأنها مستمدة من وضوحها و ليست منتزعة من واقع خارجي. و يرى الـ”ديلان” أن مرجعية الرياضيات التجريدية هي المبادىء المعرفية و لذلك هي تمتلك قوة في الوضوح لقربها من هذه المبادىء (ص 116-118).

إن الرياضيات الفيزيائية هي في حقيقتها تطبيقات للرياضيات التجريدية ، الأمر الذي يوحي بأن الواقع الفيزيائي الدقيق هو نتيجة إندكاك الرياضيات التجريدة في صميم وجوده أو يمكن أن يوحي للبعض بأن الرياضيات التجريدية موجودة بنفسها في الواقع الفيزيائي. و الحقيقة إنما يوجد في الخارج هو أحداث ذات إنتظامات على أساس ما تتمتع به المادة من خصائص تكوينية (ص130). إن دقة الإنتظامات في العالم الطبيعي تمكننا من أن نصوغ لها الرياضيات المناسبة بدلا من الحديث عنها بلغة الكلام (ص131).

و إذا كانت الرياضيات التجريدية هي من مكتشفات العقل لا من مخترعاته ، فإين مكان هذا الإكتشاف و إلى أي عالم ينتمي؟ فكما أن القوانين الرياضية – الفيزيائية تنتزع من الواقع المادي ، فمن أي واقعية تنتزع القوانين الرياضية التجريدية؟ أشرنا إلى ان الرياضيات التجريدية تتصف بالثبات و الأبدية كلما إقتربت أكثر من المبادىء المعرفية ، و بالتالي فإنه يبدو من المنطقي أكثر أن تنتزع قوانينها من عالم يتصف أيضا بالثبات و الأبدية. ولذلك ذهب جمع من علماء الفيزياء و هم في ذلك يتوافقون مع الأفلاطونيين في تقسيم العالم إلى عالم متغير و زائل و هو العالم الفيزيائي و عالم ثابت و مطلق و هو عالم المثل غير أن الإختلاف بينهما في كون علماء الفيزياء خلافا للأفلاطونيين لا يؤمنون بواقع متحقق أنطولوجيا بل بواقعية لهذه الرياضيات التجريدية. إلا أن بعض علماء الفيزياء و منهم بول ديفيدس و روجر بينروز وقعوا في حيرة و إرتباك حيال هذا العالم الثابت. فمثلا العدد ثلاثة هو عدد أولي و هو يمثل حقيقة أبدية و ثابتة و هو غير متعلق بوجود العقل الإنساني ، فله حقيقة سابقة على وجود الإنسان ، و لذلك آمن روجر بينروز بالترابط الثلاثي بين عوالم ثلاثة: العالم الأفلاطوني ، العالم العقلي و العالم الفيزيائي على نحو تبادلي و ليس على نحو “إنبثاقي أو منطقي” (ص 120-121). إن هذا الإرتباك في تحديد ماهية الحقيقة الرياضية المجردة و موقعيتها في عالم الوجود يمكن أن نفهمه إذا انطلقنا من تحديد سعة الوجود و قصره على الواقع المادي. و ينقل الـ”ديلان” نصا من كتاب بول ديفيدس عن ريتشارد فايمان قوله ” …العدد الصحيح هو مجموع الأعداد الصحيحة 1+2+3… و هذا أمر معروف للقارىء. إلا أن بإمكانك أن تقول: أين هي ، و ما هي ، و أين تتموضع ، و ما نوع الحقيقة التي فيها؟ و مع ذلك فإنك لم تجدها. عندما نكتشف هذه الأشياء فإنك تشعر أنها كانت صحيحة قبل أن تجدها…المشكلة أين توجد ، هي مشكلة محيرة و تلك أسئلة فلسفية لا أعرف كيف أجيب عليها” (ص122-123). ويقدم الـ”ديلان” جوابا على هذه الحيرة التي وقع فيها علماء الفيزياء حول الموقعية الوجودية للحقيقة الرياضية المجردة مستعينا في جوابه بما أفاده السيد الشهيد محمد باقر الصدر في كتابه (بحوث في علم الأصول). و الخلاصة أنه لا يجب أن نعتقد أن الوجود المادي هو المقياس المصحح لصدق القضايا من كذبها ، و إنما الواقع يشمل الوجود المادي و الميتافيزيقي. كما أنه يمكن أن نوسع من أفق الوجود المادي دون الإعتقاد بشموليته للوجود الماورائي. و هذه الواقعية تشبه الوعاء الذي يتم من خلاله مطابقة القضايا للتعرف على صدقها من كذبها. و نسمي مثل هذه الواقعية التي تعمل كمقياس بـ”مطابق القضية”. فإننا إذا ما أردنا أن نكتشف صدق قضية فيزيائية فإن مطابق القضية (المقياس) في هذه الحالة هو الوجود الخارجي الفيزيائي ، و لكن لا يجب أن يكون مطابق القضية المقياس هو دائما الوجود الخارجي الفيزيائي بل يتسع إلى أكثر من ذلك حسب طبيعة القضية المقيسة إلى واقعها. و لكن ما هو ذلك الوجود المتعلق بمطابق القضية في القضايا التجريدية ، إنه الوجود الذهني “ذلك بأن المقياس هو مظروف لوعاء الواقع و فضاء العقل ، بينما عامة القضايا التجريدية هي وجودات ذهنية يدركها العقل حال الإلتفات إليها بدرجة أنه لا يجد بدا من سطوتها الإيمانية ، و بذلك نكون قد حافظنا على خصوصية كونها مكتشفات عقلية و ليست نماذج مخترعة ، و على أنها وجودات ذهنية ليس لها وجود خارج الذهن” (ص 125).

يعود بنا الـ”ديلان” إلى القانون الطبيعي و الجدل الفلسفي و الديني و العلمي حول هوية القانون الطبيعي المتمثل في ثنائية الطبيعة/القانون ، و مقدرة الإنسان على إكتشافه.  تبنت بعض الإتجاهات الفلسفية و الدينية إلى الحركة في الطبيعة هي فعل الله و عادة ما يؤول هذا الرأي إلى إنكار أصل وجود القوانين. و ذهب البعض إلى القوانين هي من صميم تكوين الطبيعة لكنهم إختلفوا في مصدر هذا التقنين. فقسم آمن بأن الإله هو الذي خلق الطبيعة المقننة و آخر أرجع التقنين في الطبيعة إلى الطبيعة ذاتها. ومن العلماء الذين أرجعوا ما في الطبيعة من قوانين إلى الإله الخالق الفلكي و الرياضي الشهير يوهنز كبلير و إسحاق نيوتن و الفلكي البريطاني جيمس جينز. و ذهب فريق من العلماء إلى أنه لا يمكن العلم بالقوانين الرياضية في الطبيعة و يسعى العلماء لوضع نماذج رياضية تفيد الإنسان عمليا و على نحو إجرائي ، كما يعتقد بذلك ستيفن هوكينغ و ريتشارد فاينمان (ص126-127). و هذه الواقعية المعتمدة على النموذج تتقوم بثلاثة أسس: أولى هذه الأسس هو أن صلتنا بالعالم الحسي هو من خلال الإشارات العصبية و هذا يدفعنا في التعرف على العالم الحسي من خلال صنع نموذج له. و ثانيا أن نجاح النموذج مرتبط بقدرته على تفسير الحدث او الظاهرة الحسية و اخيرا أن نجاح النموذج يدعونا إلى إعطاء نوع من الواقعية أو الحقيقة المطلقة لكل المفاهيم و العناصر التي يتضمنها النموذج (ص127). و بعد أن تتبع الـ”ديلان” عدد من النصوص لهوكينغ تبين له أن هوكينغ “يعتقد بوجود واقع مطلق و قوانين دقيقة هي من صميم ذلك الواقع و جزء لا يتجزأ منه إلا أنه من الصعوبة بمكان الوصول إليها … و انتهى “هوكينغ” إلى إستنتاج مفادة: لا يوجد هناك مفهوم للواقع مستقل عن النظرية التي تصفه) و إنما يتبنى العالم فيما يتبناه (الواقعية المعتمدة على النموذج)” (ص 129).

يجب أن نتنبه إلى أن الواقعية المعتمدة على النموذج في ذاتها لا تنفي الحقيقة المطلقة و إنما تنفي إمكان معرفتها و العلم بها. و غاب عن هؤلاء أن الواقع ليس منحصرا في قوانين و نظريات الفيزياء بل هو يشمل المشاهدات و الأنا الشخصية و الظواهر الوجدانية …الخ. و ليس بمكان أحد أن يشكك في إمكان معرفة هذه الواقعيات و لو بقدر معين. و يسعى العلماء للمطابقة بين النماذج التي يتبنونها و الحقيقة المطلقة ، و بالتالي فإن القوانين الفيزيائية و النظريات العلمية هي محاولة للمطابقة مع الواقع الخارجي و الحقيقة المطلقة فيه ، و من الممكن أن تصيب أو أن تخطئ. فإذا ما إقتنعنا على سبيل المثال بصحة معادلة معينة بنسبة 95% فإن إصابتنا للواقع تكون بنفس تلك الدرجة (ص133). فهل منهج علماء الطبيعة إختراع نماذج بشرية ليس لها صلة بالواقع أم أن منهجهم هو إستنطاق الطبيعة محاولين الإقتراب من الحقيقة الواقعية لها؟ و يكفي أن ندرك أن محاولات العلماء لوضع “نظرية كل شيء” ما هي إلا محاولات “لإستنطاق الطبيعة تهدف إلى معرفة الحقيقة المطلقة و القانون الكلي الكامن في أعماقها. وهنا أقتبس كلاما دقيقا و جميلا للـ”ديلان” يقول فيه “و ليست المسألة مرهونة بما نراه أو تراه السمكة بل هي في الحقيقة إستنطاق الذات الطبيعية ، و أن هذه المعادلات هي كلام الطبيعة التي لغتها هي الرياضيات و كلماتها الأرقام” (ص134).

و كل محاولات العلماء للكشف عن المعادلات المتعلقة مثلا بسرعة الضوء في الفراغ أو في المواد الشفافة ، إنما تستهدف معرفة الحقيقة المطلقة. كما أن قيام العلماء بصنع نماذج بشرية لتتطابق مع المشاهدات الواقعية إنما هي تؤكد القانون الكامن في الطبيعة لأنها متوافقة مع مشاهدات منتظمة و هي تعكس إنتظامات في عمل الطبيعة.  و إلا فما الذي يبرر مثل هذه الإنتظامات في المشاهدات التجريبية غير أنها تتوافق مع إنتظامات قائمة في صميم الطبيعة. كما أن ثبات القانون أو النموذج إنما يؤكد إنسجامه مع القانون الكامن في الطبيعة.

و السؤال الذي يثيره الـ”ديلان” و يرجئ بحثه لاحقا وهو هل القانون الطبيعي رسالة من مقنن يريد أن يكشف بها عن نفسه أو أنها لا تدل على شيء خارجي؟

يعود الـ”ديلان” بعد ذلك مجددا إلى كرواس و يتحدث عن دعوته لتنقية الوعي الجمعي من الأفكار الخاطئة و التي بحسب كراوس جاءتنا “من سوء الفهم و التحيز الناتجين من القابليات المحدودة للعقل البشري” (ص137). و يقدم كراوس هذا المثال عن الفكرة الخاطئة “(إن طاقة اللاشيء إذا كانت تساوي صفرا فكيف جاءت مئات المليارات من المجرات)” (ص137). و مضمون كلام كراوس إن تشكل الوعي الجمعي المبني على سوء الفهم ، بالطبع بالطريقة التي يفكر بها كراوس ، قادنا إلى تقبل هذه الفكرة و هو أن الأشياء لا يمكن أن تأتي من لا شيء ، و لذلك يجب العمل على تصحيح الوعي الجمعي. فما  المقصود من الوعي الجمعي؟ و ما الفرق بينه و بين التوافق البشري؟ و يحيلنا الـ” ديلان” إلى نصا إلى عالم الإجتماع الفرنسي دوركايم يقول فيه عن الوعي الجمعي بأنه “مجموع المعتقدات و المشاعر المشتركة بين معظم الأعضاء الذين ينتمون إلى مجتمع معين و تكون هذه المعتقدات و المشاعر نسقا محددا من ضروب التشابه ، بحيث تصبح لهذا النسق حياته الخاصة” (ص138). و يتخذ الـ”ديلان” من هذا النص ما يفيد في تحديد المعنى من الوعي الجمعي و أساسا كذلك يستند عليه في التفريق بينه و بين التوافق البشري. فمن هذا النص يتضح أن المقصود من الوعي الجمعي هو أن جماعة من الناس يشتركون في بضعة أمور بحيث يؤثر هذا التشابة و الإنسجام في هذه الشراكة على ذهنية الفرد المنتمي لهذه الجماعة. و بالتالي فإن الوعي الجمعي بهذا التحديد لا يتعارض مع المبادىء المعرفية. و لو إفترضنا أن هناك إعتقادا لذا جماعة يتعارض مع هذه المبادىء المعرفية أو مع أحدها فإن هذا الإعتقاد لا يعدو أن يكون إعتقادا شكليا و ليس حقيقيا. فقد تنطلق مثل هذه المعتقدات بدافع من القداسة فيتقبلها الفرد المتدين تقبلا صوريا بإعتبارها أمرا يخرج عن قدرة البشر على الفهم. فمثلا إعتقاد المسيحية بوحدة الثلاثة هو أمر غير ممكن فالثلاثة لا تساوي الواحد مطلقا و مع ذلك يتقبلها المتدين لأنها أمر يخرج عن قدرة البشر على الإستيعاب (ص138). و يوضح الـ”ديلان” الفرق بين الوعي الجمعي و التوافق البشري في أن هذا الأخير يتجاوز الحدود الزمانية و المكانية فيكون شاملا لكل الأجناس البشرية المتقدمة و المتخلفة و في كل زمان يعيشه الإنسان. أما الوعي الجمعي فهو يختص بجماعة معينة تتميز بمشتركات خاصة بحيث تمارس هذه المشتركات هيمنتها على ذهنية الفرد الذي ينتمي إليها (ص139). ومن الممكن أن يتشكل الوعي الجمعي على الخرافة الدينية أو العلمية بلا فرق. كما أن التوافق البشري يرتبط بالأصول التكوينية للإنسان و لا يتأثر بالمعتقدات أو الثقافات التي تشكلها بيئة الإنسان. على العكس من الوعي الجمعي الذي يتأثر بالعوامل الطبيعية و الثقافية و لذلك تختلف الشعوب و الجماعات فيما بينها باختلاف قواسمها المشتركة. و من الممكن للفرد أن يتنصل من هذه المعتقدات التي تشكل وعي الجماعة التي ينتمي اليها لكن لا يمكن بحال لأي أحد أن يتنكر لهذه المبادىء المعرفية التي هي توافق بشري متجاوز للزمان و المكان و إلا سبب التنكر لها إنهيار الأساس المشترك الذي تنبني عليه المعرفة البشرية (ص140-141).

يعود الـ”ديلان” لمناقشة فكرة “الكون من لا شيء” و يتعرض للحظة الأولى في تاريخ العلم التي ظهرت فيها فرضية ” النشوء العدمي للكون”  أو ما يطلق عليها فرضية “الكون ذو الطاقة الصفرية” و هي تعود للفيزيائي الأميركي “إدورد تريون” و يفترض تريون أن المجموع الكلي لطاقة الكون تساوي صفرا. فإذا جمعنا طاقة الجاذبية و طاقة الطرد المركزي و إذا عادلنا الشحنات الموجبة بالسالبة فإننا سنحصل على مجموع يساوي صفرا. و يفترض تريون أن الكون نشأ من العدم و يقول “لقد تخيلت الكون ينشأ من لا شيء مثل النموذج الكمومي و أدركت أن هذا كان ممكنا” (ص142). فالنموذج الكمومي يفترض ذبذبات للطاقة في الفراغ يتولد منها الجسيم و مضاد الجسيم و من هذا التذبذب نشأ الكون. و يدور كتاب كراوس (كون من لاشيء) حول هذه الفكرة الرئيسية ، حيث يعتقد أن الكون نشأ من الفراغ الذي هو ذبذبات كمومية، مجموع طاقة هذه الذبذبات يساوي صفرا ،و ينبه كرواس الى الفرق بين العدم الفلسفي الذي هو العدم المطلق أو اللاوجود و بين الفراغ الفيزيائي ويؤكد على إمكانية خروج الشيء من الفضاء الفارغ بحسب الطرح الكمومي و لا يعترف بخروج الشيء من العدم الفلسفي. إن مبدأ إستحالة خروج شيء من لا شيء هو مبدأ بشري و ليس نتيجة تشكل الوعي الجمعي كما يقول كرواس. و يقال أن مقصود كرواس من الوعي الجمعي هو الوعي الجمعي البشري الذي لا ينحصر في جماعة معينة حيث تشكل وعي البشر جمعيا من خلال عوامل غير موضوعية قد تكون نتيجة إعتياد البشر رؤية أشياء تخرج من أشياء على مستوى فوق كمومي. إذن توظيف كراوس مصطلح “الوعي الجمعي” كان في غير محله لأنه حرف المضمون الدلالي لهذا المصطلح. ثم أن كراوس قد أخطا أيضا في تطبيق مبدأ ( أن الشيء لا يخرج من اللاشيء ) ‘ فإذا كان اللاشيء هو العدم الفلسفي فليس من صلاحية العلم الحديث عن هذا الموضوع. يقول الـ”ديلان” ” إن أكثر ما يعنينا فعلا هو التركيز على أن الشيء إذا قدر له أن يوجد فلا بد أن يوجد من شيء سواء كان هذا الشيء متناهيا في الصغر أو كبيرا. و أما أن الكون كيف وجد؟ – و هو السؤال الذي أرهق العلماء و حير الفلاسفة …و قد ثبت لدينا في هذه النقطة أن الفيزيائين عموما بما فيهم “كراوس” لا يقولون بانبثاق الوجود من العدم الفلسفي ، و الذي تقرر عندنا أنه من المرفوضات البشرية” (ص150).

يفكك الـ”ديلان” عبارات النص السابق الذي عرضناه لـ كراوس و يأتي على عبارة “التحيز وسوء الفهم”. و يربط كراوس هذا التحيز و سوء الفهم بما تلقاه الإنسان من أسلافه الحيوانات. دعونا نستعيد النص كاملا ثم نستعرض ما أورده الـ”ديلان” من ملاحظات ، يقول كراوس ” أن الوعي الجمعي بمبدأ ( أن الشيء لا يخرج من لا شيء ) جاء كنتيجة للتحيز وسوء الفهم الذي تلقاه الإنسان من أسلافه الحيوانات و هي ذات مستوى محدود من التفكير يؤهلها أن تتربص الإفتراس مختبئة خلف الأشجار ، و ليس بالمستوى الذي يفهم من خلاله عمل الموجات الإلكترونية” (ص151). يتضح من النص أن كراوس يؤمن بنظرية التطور و أنه إكتشف أن التحيز و سوء الفهم كانت من الصفات النفسية لأسلاف الإنسان المشتركة ، كما أن هاتين الصفتين مسؤولة عن تشكل الوعي الجمعي الذي هو مرادف للتوافق البشري. و السؤال الذي يطرحه ال”ديلان” كيف جزم كراوس بأن هاتين الصفتين ، أعني التحيز و سوء الفهم ، هي من تداعيات تطور الإنسان؟ ثم يؤكد على أنه لا ينبغي أن نوافق على “أن كل موارد الوعي الجمعي قد حصلنا عليها من التطور الحيوي” (ص151). ثم يضع تساؤله التالي: ” كيف يمكننا الفرز بين إعتقاداتنا التطورية و تلك التي لم تنشأ من عملية التطور …؟”  ………….  قريبا الطريق الى نبع الوجود (5).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *