الطريق الى نبع الوجود (2)
رحلة الحائرين إلى الله
قراءة في كتاب “وجود الله بين العلم و المنهج العلمي”
الكاتب : علي ديلان
نعرض الآن هذه المبادىء المعرفية بحسب التصنيف المبتكر الذي جاء به الكاتب ، الـ”ديلان”:
المبدأ الأول: مبدأ التحليل الذاتي
و هو المبدأ الذي يقوم العقل فيه بوظيفة المستكشف لجملة من الأفكار – البديهيات الأولية – التي تشكل بنيته الرئيسية و التي يسميها الكاتب بالأصول الإدراكية. و هنا يقوم الذهن بوظيفة التحليل المضموني – المعنوي – لهذه الأصول و يمارس في ذلك نوعا من النشاط الذهني الإستكشافي حيث يقوم الذهن بتحليل بعض مصادر المعرفة و حدودها. و هذا النشاط الذهني الإستكشافي يختلف عن النشاط الذهني الإستدلالي ، فهذ الأخير يحتاج إلى الأول و يمثل مرحلة لاحقة في النشاط الذهني و يمارسه الذهن من أجل إكتساب قناعة موضوعية معينة (ص 18). و من خلال التحليل المضموني الذاتي يكتشف الذهن التكوينات الأساس لجملة من المعارف الأولية التي تحمل قيمتها التصديقية المعرفية في ذاتها المضموني و يصدق بها الإنسان حلما يتصورها. و من جملة هذه المعارف أن الكل أكبر من الجزء ” فعندما ندرك مفهوم ( الكل) و مفهوم ( الجزء) و ندقق في المفهوم الأول سنجد ان ذات مفهوم الكل يستبطن الأجزاء في داخله و هذا بذاته كفيل في إدراك قيمتها التصديقية بالرغم من أن الذهن لم يوظف دوره الإستدلالي. ” (ص 18)
و قد يتساءل البعض عن المصدر المعرفي الذي إعتمده الذهن في دوره الإستكشافي لهذه المعارف عن طريق التحليل المضموني الذاتي فيجيب الـ”ديلان” عن مثل هذا التساؤل الذي يرمي إلى نفي أولية هذه المعارف في الفكر بأن هذه المعارف لها مناشىء تكوينية وإن كان إثبات ذلك يأتي في مرحلة متأخرة عن الطريقة التحليلية. (ص19).
المبدأ الثاني: الوجدان الفطري
و يقصد بهذا المبدأ جملة من القضايا التي يجدها الإنسان داخلة في تكوينه الفطري كقوى الشهوة و التعقل و التفكر و نحو ذلك. و تستمد هذه القضايا قيمتها المعرفية و المنطقية لأنها جزء من تصميم الإنسان الفطري.
و يعتبر الوعي أحد هذه القوى المرتبطة بشكل وثيق بالمبدأ الفطري ، و مقصود – الـ”ديلان” – من الوعي هو جميع الحالات النفسية و الغعاليات الداخلية للذهن ، بحيث تفرض هذه الحالات نفسها على الإنسان بصورة قهرية. فمهما حاول الإنسان إقصاء الوعي أو تأثيره في كشف الواقع فإنه سوف يقع في شراك توظيفه (ص24). و ممن يدخل في دائرة هذا المبدأ الأساس التكويني للقناعة ، فمتى ما انكشف للإنسان درجة من الصدق في قضية ما فإن الإنسان لا يملك أن يختار القبول أو الرفض. و بالتالي فإن هذا الأساس التكويني للقناعة لا يقبل التشكيك في موضوعيتها لا بموضوعية مقتضاياتها أو آثارها (ص 25). يرى الـ”ديلان” ان التصميم التكويني لفطرة الإنسان تقبل بشكل تلقائي الأصول الإدراكية و تنفر أيما نفور من مخالفتها. فبمقتضى هذا التصميم التكويني للفطرة الإنسانية ، فإن الإنسان ينفر من فكرة إجتماع النقيضين ، ويقول في هذا الصدد ” و ليس ( إستحالة إجتماع النقيضين ) من نوع الأفكار و الإدراكات أو من ضمن الوجدانيات المكتسبة التي تتأتى لنا بفعل التربية و التعليم و المؤثرات الخارجية ، بل هو من قبيل قوى التعقل و الشهوة و الغضب و الميولات العميقة في وجودنا مثل الميل نحو الغيب … فهناك تصميم فطري لا يستوعب تكوينا ” إجتماع النقيضين” ” (ص 26). و لكن ما هو المعيار الذي يمكننا من التمييز بين ما يدخل في دائرة الإدراكات الفطرية و بين ما لا يدخل فيها؟ ، ويشير الـ”ديلان” إلى جملة من الضوابط التي تساعد في هذا التمييز بين فطرية الإدراكات أو عدم فطريتها:
الأول: إن عدم قدرة الذهن على تصور الموضوع لقضية ما ينبه على فطريتها. فالذهن لا يمكن له أن يتصور إجتماع الوجود و العدم في وقت واحد فهذا مؤشر قوي على فطرية هذه القضية. و يؤسس الـ”ديلان” على فطرية النفور من فكرة إجتماع النقيضين رفضه التام لما أفادته بعض التفسيرات للبعض معطيات فيزياء الكم من أن الإلكترون يمكن أن يكون في مكانين في آن واحد حيث يلزم من التسليم بهذه النتيجة نفي بديهية عدم إجتماع النقيضين في آن واحد. و الذين يتبنون هذه التفسيرات الملتزمة بروح الوضعية العلموية يقولون لنا أن على الذهن البشري أن يتشكل وفق مقتضيات التجربة العلمية بحيث تكون الأدلة التجريبية هي الأساس في تصحيح عامة الإعتقادات الذهنية بما فيها البديهيات الأولية. و هنا يؤكد الـ”ديلان” على أن المعيار التجريبي لا يصلح ميزانا لنفي الإعتقادات البديهية (ص 16-17).
الثاني: إن عدم إمكانية تصور نقيضها يؤيد فطريتها. إذ لا يمكن للذهن أن يتصور مثلا أن الكل أصغر من الجزء و هذا يؤكد فطرية القضية القائله أن ( الجزء أصغر من الكل ). وهنا يذكر الـ”ديلان” أشكالا يورده بنفسه على هذه النقطة و هو ” أن عدم التصور قد ينشأ من عدم جهوزية الفطرة مثلا، أو قد يتأسس بسبب إلفة الذهن نتيجة تكرار الحادثة في كل يوم أو في كل ساعة مرات عديدة بحيث لا يجد الذهن بدا سوى عدم إمكان التصور كما يذكر في الفيزياء الحديثة أن الأجسام ليس لها لون ، مع أن الذهن لا يتمكن من تصور جسما لا لون له أو ما تذكره الفلسفة التقليدية من أن الأجسام المادية تقبل التجزئة و الإنشطار إلى أبد الدهر ما دام كل جسم يمتلك الأبعاد الثلاثة ، و غاية ما هنالك أن الذهن لا يمكنه تصور و استيعاب ذلك.” (ص40). و يجيب الـ”ديلان” على هذا الإشكال في أن عدم إمكان التصور ليس المقصود منه كل ما لم يتمكن الذهن من تصوره ، فالذهن لا يتمكن من تصور بعض القضايا لوجود موانع خارجية أو بسبب مرضا إدراكيا أو بسبب عدم فهم الموضوع (ص41) بل المقصود من عدم التصور هو ” التصور الذي يلزم منه الإعتقاد و الحكم في قضية كلية دون أن تحتكرها بعض الظروف و الأحوال ، فمثلا عدم إمكان تصور دائرية المثلث يحصل إعتقاد لنا بأن هذا التصور يكون غير قابل للتحقق بنحو عام و كلي فيتأتى الحكم مطلقا ومن دون قيد فيقال: (المثلث لا يكون دائريا ابدا)” (ص42).
الثالث: إن وجود هذه المعارف بتمامها في النوع البشري على إختلافهم لهو دليل على فطريتها.
المبدأ الثالث: مبدأ القناعة
ومقصوده من هذا المبدأ أن الإنسان إذا واجه قضية ما و أعتقد بصحتها بدرجة تصديقية عالية أو بإحتمال راجح معقول فإن الإنسان حينئذ لا يمكن له التخلي عن هذا الإعتقاد. و القناعة تحمل قيمتها المطلقة في ذاتها فلا يصح السؤال عن قيمتها أو إثباتها ، و في هذا يقول الـ”ديلان” ” إن القناعة لا يسأل عن ثبوتها لأنها – في نفسها – تمثل درجة الإذعان ذاته في الذهن الذي يكون – من الجهة – أشبه بالنور الذي يضيء لغيره و يكشف لنا عما حولنا من أشياء بينما هو لا يحتاج إلى نور آخر لكي يكشف عنه ، وهكذا القناعة فإنها تكشف عن غيرها و لكنها عين الإقتناع و الإذعان” (ص 33).
و يبتكر “الـ”ديلان”” عبارة ( القابلية للقناعة الموضوعية ) و يقصد بها جميع الآراء التي يلتزم بها شخص ما و لو من خلال مبرهنات ضعيفة ، وهو يعتقد أن قناعته موضوعية. فالرأي الصائب لا يرتبط مع القناعة الموضوعية في علاقة تطابقية حتى يلزم منه خروج الرأي الخاطىء من القناعة الموضوعية. فالقابلية للقناعة الموضوعية تشمل الرأي الصائب و الخاطىء و لكن ضمن الحدود المسموح بها (ص82). فلو إعتقد شخصا خلافا للنظرية النسبية بأن الأبعاد هي ثلاثة و ليست أربعة فليس لنا الحق في تشكيك في هذه القناعة ما دامت تحمل مبرراتها الموضوعية لهذا الشخص المقتنع بها. و قد يؤدي تعدد القناعات إلى نوع من الفوضى في إدعاء القناعات الموضوعية ما دامت ضمن منطقة المسموح به. للشخص أن يعتقد ما يشاء و لكن الوسط العلمي يستطيع أن يميز بين مختلف القناعات من خلال توظيف منهجيته العلمية التجريبية – الإستقرائية و هذا يحد من فوضى القناعات (ص 83). و مما يحد من فوضوية القناعات أن تكون بعض من هذه القناعات إنتقائية تخضع للمزاج الشخصي و لا تمتلك المبررات العقلية الكافية فإنها حينئذ تواجه عزلة و لايبقى لها مع مرور الوقت تأثير. و قد تواجه قناعات موضوعية متطابقة مع الواقع نفس مصير القناعات الإنتقائية لأن الآخرين لم يقتنعوا بها و بذلك يطويها النسيان و ربما تنتهي بأصحابها إلى العزلة و ربما تسبب ذلك بإنعكاسات نفسية سلبية عليهم (ص84). فما هي دائرة الإختلاف الغير مسموح به من وجهة نظر الـ”ديلان” ؟ و يجيب عنه بأنها تلك الأفكار المرفوضة بشريا و التي لا تدخل ضمن المعقول (ص 84) و قد يتـأتى رفضها أو إخراجها من دائرة المسموح به لأنها تعارض بعض الحقائق المكتشفة في زمان معين و قد تدخل في زمان آخر في دائرة المسموح به لتغير بعض االحقائق (ص87). و قد يقودنا ذلك إلى ما يسميه الـ”ديلان” النسبية المعيارية (ص88).
و مع أنها (هذه الآراء) مرفوضة “بشريا” فإنها مع ذلك تحرك العقل و تحركه نحو التحقيق و المناقشة ، ويذكر جملة من الأسباب التي تحملنا على الإعتناء بها رغم عدم معقوليتها. من هذه الأسباب الدفاع عن الآراء الصحيحة يتطلب مجابهتها ، و الإعتناء بمثل هذه الآراء يمنع إنتشار الخرافة المعرفية حيث أن بعض السطحيين قد يصدقون بمثل هذه الآراء. و قد تدخل مثل هذه المعتقدات في حقل إختصاصي ضيق يخالف تماما الواقع و يتطلب ذلك فحصها و ردها ، فمثلا عندما تمسك بعض الفلاسفة الغربيين بعدم وجود اليقين الإستقرائي في الذهن وهذا مخالف للواقع فالناس على يقين تام بأن النار تحرق أو أن مدينة بغداد موجودة ، و إنكار مثل هذا اليقين يعني أنه فاقد لقيمته المنطقية (ص86). وقد يفهم من التوافقات البشرية هي تلك المحددات التي يتم بها قبول الآراء أو رفضها وهي تختص بزمان دون زمان آخر وذلك يتبع الحقائق المكتشفة في زمان معين. فمعيارية الرفض البشري للآراء و التي نقرر على ضوءها الخروج من مساحة الإختلاف المسموح به ، بحسب هذا الفهم، إنما يحددها حيثيات التطور العلمي ، فلكل زمان إذن معياره الخاص (ص87). و لكن ما يقصده الـ”ديلان” من معيارية الرفض البشري هو ذلك المعيار الذي يتعلق بمنطقة الإختلاف الغير مسموح به على الإطلاق و التي لا تتحدد بزمان خاص. و هذا الرفض البشري أو مقلوبة التوافق البشري هو التوافق العام الذي يقر به الأسوياء من الناس الذين يشتركون في سلامة عقولهم .و لا يشترط في هذا التوافق البشري/العام إلا سلامة القوة العاقلة دون الحاجة إلى ضم عناصر أخرى تضيق من مفهوم البشرية في عبارة “التوافق البشري” كأن نشترط في البشرية أصحاب الضمير الحي الذين لديهم الحس الإنساني السليم او أصحاب النباهة و الحذاقة. البشر هنا هم جميع البشر باستثناء الذين لديهم مشكل في قواهم الإدراكية كالمجنون أو المصاب ببعض الأمراض الذهنية (ص 99). فلو أن شخصا أنكر الواقع الخارجي فإن مثل هذا الإنكار يكون من المرفوضات البشرية على إمتداد خط الزمن لأن جميع الناس الأسوياء يدركون حقيقة الواقع الخارجي و سنأتي على هذا (مبدأ الواقع) الذي هو المبدأ الرابع من هذه المبادىء المعرفية. و يميز “الـ”ديلان”” هنا بين نوعين من المرفوضات ، فهناك المرفوض بشريا و هو ذلك الإنكار الذي يحصل من البشر “الأسوياء” جميعا. و الآخر هو المرفوض من نخبة من العلماء و الذي يدخل في دائرة الإختلاف المسموح به و هذا النوع هو الذي يعطي النسبية المعيارية. وهناك الكثير من الأفكار التي تقبل القناعة الموضوعية كالإعتقاد بقانون نيوتن في الجاذبية أو نظرية اينشتاين النسبية فالإعتقاد بإحدهما يتبع كم و نوع المعلومات التي نحصل عليها (88).
فمن أين يستمد التوافق البشري قيمته الموضوعية؟ و يذكر “الـ”ديلان”” أساسين ، أولاهما الأساس النفسي ، و هذا الأساس له تأثير كبير على سلوك الإنسان و حركته الفكرية و هو نابع من صميم المشاعر الكامنة في أعماق الإنسان. و كثيرا من الأفكار نضجت و تطورت بفعل الدوافع النفسية. فكثير من الإكتشافات العظيمة كانت بدافع حب الإستطلاع أو بدافع خدمة الإنسانية أو بدافع الخوف من ضرر محتمل. لا أحد ينكر ما تمتلكه الدوافع النفسية من أثرها الكبير على مجرى التاريخ و التطور العلمي (ص90). في هذا الأساس يستمد التوافق البشري قيمته من إستحواذ القلق على ذهن الباحث “الموضوعي” و وضعه تحت الضغط النفسي بسبب إعتقاداته الشاذه التي تتجاهل التوافق البشري العظيم (ص91). و لكن كيف يترتب على هذا القلق الذي ينتاب الشاذ من الأراء أن يستمد التوافق البشري مبرراته الموضوعية؟ فهذه الحالات النفسية لا تملك في ذاتها صلاحية إعطاء أو سلب المعرفة قيمتها. و يتفق “الـ”ديلان”” تماما على أن الحالات النفسية لا تمتلك مثل هذه الصلاحية و لكن هذه الحالات النفسية تربك الباحث و تقلقه و تدعوه إلى عدم التسرع عندما يخالف توافقات مستحكمة في الذهن البشري ” و يمكن القول بشكل عام: إن التوافق يتناسب طرديا مع قلق المخالفة فإذا كان التوافق في مدرسة علمية خاصة فإن المخالفة لأصولها المهمة من قبل أفراد ينتمون إليها أقل تاثيرا مما لو إتسع التوافق لأكثر من ذلك ، بل قد يتهم المخالف بالجهل عن فهم الأصول العامة لتلك المدارس فكيف إذا كان هذا التوافق ليس منحصرا في مدرسة علمية ما أو دين معين أو فلسفة خاصة و إنما هو يتخطى جميع المستويات إلى الحد الذي إستحكم على الذهنية البشرية مع إفتراضنا أن اشاذ لم يكن إلا باحثا موضوعيا سويا غير مخادع و لا مريض بأحد الأمراض النفسية أو الذهنية” (ص92). و لا ينكر “الـ”ديلان”” أن قلق المخالفة يمنع صدور ما يتعارض مع هذه التوافقات البشرية لكنها بلا شك تحدث إرباكا في ذهن الباحث الموضوعي نتيجة لأن المخالف يتناقض مع عموم البشر مما يجعله عرضة لإستهجانهم و سخريتهم. و يشكك “الـ”ديلان”” في صحة ما نسب إلى الفلسفة الماركسية في إنكارهم لإستحالة إجتماع النقيضين ، فعند مراجعة نصوصهم نجد أنهم لا يفسرون كلمة “التناقض” تفسيرا منطقيا. و لقد تعرض من أنكر العلاقة الشببية بين الأشياء إلى السخرية و الإزدراء (ص93). و ما دام القلق أو الخوف هو السبب الذي يمنع الباحث من مخالفة البشرية فيما تلتزم به من أصول إدراكية و مبادىء معرفية فمن الممكن إزالة الأسباب الحيوية المؤدية إلى حالة الخوف أو القلق. فهل ترتفع إشكالية التردد أو الخوف في مخالفة الإتفاق العام بإزالة الأسباب الحيوية فيتمكن الباحث الموضوعي من مواجهة البشرية بآراء تتناقض مع المبادىء المعرفية و الأصول الإدراكية؟ و إذا تتبعنا التغير البيلوجي الذي يصاب به الإنسان في حالة الخوف أو القلق نجد أن هرمون الأدرنالين الذي تفرزه الغدة الكظرية هو المسؤول عن مثل حالات الخوف أو القلق و كذا جميع الآثار المرتبطة بهما من سرعة ضربات القلب و الإرتعاش و نحوهما وهذا ما يدعوه ” الـ”ديلان”” بيولوجية القلق. فهل عند تناول أدوية معينة لتخفيض نسبة الادرنالين يكون الباحث “الموضوعي” مهيئا أكثر لتحدي البشرية في الإعلان عما يخالف ما أجمعوا عليه دون أن يخشى على نفسه السخرية أو الإستهجان. إن السيطرة على هرمون الأدرينالين يخرج الإنسان من دائرة الأسوياء ، فعندما يتطلب الأمر أن يكون الإنسان قلقا أو خائفا ثم لا يجد نفسه منفعلة بالخوف أو القلق لتغير طبيعي في مستوى الأدرنالين فإن ذلك يعد أمرا مرضيا. و مع ذلك فإن ربط القلق أو الخوف بهذا الهرمون تعود بنا إلى مشكلة النسبية و عدم الموضوعية ” حيث يكون القلق الموضوعي مرهونا بكمية خروج المادة الهرمونية و مقدار تأثيرها ، و لم تكن هذه الكمية أو ذلك المقدار هو المعيار الفاصل للقلق الذاتي من القلق الموضوعي،…”(ص95-96). إن القلق هنا ليس قلقا ذاتيا حتى يلعب هرمون الأدرنالين دوره في تقليله أو القضاء عليه بل هو قلق يتعلق بنفس الشذوذ و الإنحراف عن الإتفاق العام و هو قد لا يستدعي وجود تلك المادة الهرمونية (ص96).
أما الأساس الثاني الذي يستمد منه التوافق البشري قيمته هو الأساس العلمي. و يقصد به “الأثر الذي يترتب عند وجود التوافق البشري العام …إلى الحد الذي يوجب مخالفتها سخرية المجتمع منه مما يعكس طابعا نفسيا مزعجا” (ص96). الأصول الإدراكية و المبادىء المعرفية تشكل أساس التواصل بين البشر جميعا و مخالفتها توجب قطيعة معرفية حيث لا يمكن الوصل مع الذي ينكر هذه الأصول الأولى للفكر الإنساني.
المبدأ الرابع: مبدأ الواقع
و هذا المبدأ أيضا لا يمكن إثباته فهناك واقعا والإنكار لأصل الواقعية أو التشكيك بها فذلك يستوجب شللا في حركة العقل و التفكير. لأن حركية العقل ، كما يبين الـ”ديلان” ، ترتبط بثبوت واقعية ما و إنكارها إنما يعطل المحفز الغائي أو العلة الغائية للفكر.
هذه تمام المبادىء الأربعة التي تشكل الأصول الفكرية للإنسانية جمعاء. و لكن ماذا لو وجدت كائنات مدركة تشاطرنا الحياة في هذا الكون الفسيح و تختلف معنا في هذه الأصول الفكرية ؟
إنتظر الطريق الى نبع الوجود (3)