[المجالس مدارس] ملامح الشخصية القطيفية في فلكلور الأمثال الشعبية (9) – بقلم علي عبد المحسن الجشي

{المجالس مدارس}

وهذا مثل دارج شائع في المجتمع القطيفي، والمجالس جمع مجلس وهو المكان الذي يجالس الناس بَعْضُهُمْ بعضا بصورة مستمرة راتبة فيتسامرون ويتحدثون ويتناقشون الأمور التي تهمهم وتؤثر في حياتهم، فهم جُلساءُ وجُلاَّس، وهي صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من جالسَ وجلَسَ. ولكل مجلس رئيس تكون فيه كلمته مسموعة ونافذة، ويكرم فيه الضيف والزائر والجار.

لوحة فنية بريشة “التشكيلي ابراهيم الدار” بعنوان “مجالسنا”

وكلمة مجالس لها وزنها وقيمتها واحترامها وأصولها وبروتوكولاتها لأنها مرآة تعكس قيم صاحبها الذي يحمل المجلس إسمه أو اسم عائلته أو حارته ويتجلى فيه مظهره وسمعته وكرمه وعزة نفسه وريادته وفروسيته وقدراته الإدارية كما إن الطابع العام لمجلسه ونظرة الناس إليه يتم تصورها حسب نوعية وفكر وميول وثقافة وسمات جلسائه ورواده.

وليس من الاستغراب تسمية المجالس مدارس لما فيها من منفعة بالغة في نشر المعرفة والوعي والثقافة التي تستقى وتكسب من حكمة وتجارب جلساء ورواد هذه المجالس مع ملاحظة عدم توفر المدارس فيما مضى من الزمان كما هو الحال الآن.

قيل “المرء على دين خليله، وقالوا “قل لي من تصاحب، أقول لك من أنت” ، وفي الحديث “الأرواحُ جنودٌ مجندةٌ فما تعارفَ منها ائتلفَ وما تناكرَ منها اختلفَ” وهذا المبدأ يتوافق مع قانون الجذب الطبيعي الذي يقول “الأشياء المتماثلة تتجاذب، وهو قانون روحاني في جوهره، منطقي في تطبيقه لأن كلّ شخص يميل بطبيعته لمجالسة من يشابههم في الطّباع والفكر والأخلاق ويشترك معهم في الأهداف والاحتياجات.

ويمكن ملاحظة هذا الميول الطبيعي في حياة الحيوانات البرية والبحرية والطّيور والأسماك التي تعيش بطبيعتها مع اجناسها في الأصل والمنشأ فتستأنس ببعضها وتشعر بالأمان في حياتها، ومن هذا التشبيه اشتهر المثل العربي القائل “إنَّ الطيور على أشكالها تَقَع” أو “الطيور على أُلَّافِها تقَعُ” ومن هذا صاغ الشاعر ما يطربه:

وفي السماءِ طيورٌ اسمها البجع… إنَّ الطيور على أشكالها تَقَع

ونلاحظ إن المقاهي يجلس فيها الناس ويتسامرون ويتحدثون لكنها لا تسمى مجالس لأن اصل الحضور فيها لا يستوجب الالتزام بصفة ونوع وجو الجلوس الذي يأخذ وضعه في المجالس العامة.

والمجالس في القطيف سمة من السمات الاجتماعية التي تساعد مجموعات لها نفس التوجهات والتطلعات في الانسجام والاندماج ضمن أعراف المجتمع لتتمكن من التغلب على الصعوبات التي تعترضهم والمشاكل التي تواجههم.

بريشة الفنان التشكيلي ابراهيم سعيد الدار

لهذا، فإننا نرى المجالس والديوانيات منتشرة في المجتمع القطيفي ومتأصلة فيه منذ القدم لتصبح جزء من ثقافته الراسخة وكأن الحياة في هذه الواحة التي كانت هادئة وادعة ببيئتها الزراعية والبحرية الساحلية وبمقوماتها التجارية والصناعية تستدعي ضرورة وجود هذه المجالس كوسيلة فاعلة للقاءات الإنسانية بين افراد المجتمع وفئاته، وواسطة مريحة لمخالطة الآخرين.

ومن هذه المجالس ما يكون في الأحياء لأبناء الحي ومنها ما يكون للعائلة ومنها ما يكون للأصدقاء والأصحاب. وعادة ما تكون هذه المجالس مفتوحة للجميع، وترتادها فئات مختلفة من المجتمع، كلٌ يحضر المجلس أو المجالس التي تناسبه وتوافق ميوله فيرتاح لها ويستأنس بالجلوس فيها.

العلماء، والمشايخ، وذوو الفضلِ يقيمون أو يحضرون إلى هذه المجالس بقصد التثقيف وترسيخ القيم الدينية والاجتماعية والتراثية وما فيه صلاح للمجتمع ومنفعة للناس.

كما أن البعض من هذه المجالس تكون اماكن للترويح عن النفس لما تقدمه من احاديث وقصص وطرائف وفكاهة، وكما قال أبو فراس الحمداني:

تجاهلاً مني، بغير جهل…أروح القلب ببعض الهزل
والمزح، أحياناً، جلا العقل…أمزح فيه، مزح أهل الفضل

بعض المجالس في القطيف تأخذ مسمى حسينيات، وهي تبدأ في تأسيسها كمجلس شخصي وما تلبث الا وأن تصبح مجالس عائلية ثم تتحول الى مجالس عامة يتم وقفها كمجالس للقراءة الحسينية وإلقاء خطب ودروس ومواعظ وتقديم خدمات للناس كالجلوس فيها في الأفراح والأتراح، وبعض الحسينيات ما يكون وقفها ابتداءً كمجالس حسينية أشبه ما تكون بمراكز اجتماعية يتم استخدامها دون مقابل مادي ودون أي شروط وتكون الأولية في استخدامها لمن سبق في طلبها.

فيما مضى كانت اغلب الحسينيات أو المجالس تسمى باسم العائلة أو المحلة التي هي فيها، وفي هذه الأيام اصبحت تُعطى اسماء تاريخية أو اجتماعية بدلًا من اسم العائلة أو الحي. وهناك الكثير من المجالس التي تبقى شخصية للقاءات العامة بين الناس دون أن تتحول إلى حسينيات.

ومن المجالس ما يكون مفتوح لرواده بشكل يومي وبعضها اسبوعي وبعض منها يفتح في ليالي شهر رمضان وهي كثيرة.

هنا لا بد لنا من الإشارة والإشادة بمجلس الشيخ ميرزا حسين البريكي رضوان الله عليه الذي هو مدعاة للفخر والاعتزاز بالنموذج الثقافي القطيفي ومثال واضح لمعنى ومغزى “المجالس مدارس” وصف الأستاذ الأديب حسن علي الزاير مقام هذا المجلس بما يسمى “كرسي جامعي” في التعريفات الحديثة، وكم لهذا التوصيف ما يعني من دلالات. استقطب مجلس الشيخ البريكي حينها جل الشباب المتطلعين لكسب الثقافة والتجديد ومناقشة الأفكار وقد استحوذ على عقولهم وكسب قلوبهم قبل أن يوفر مجلسه لحضورهم فكانوا يئمون شطر مجلسه بشغف وارتياح.

الحقيقة إن الشيخ البريكي قد أهل جيلًا من الشباب المثقف الواعي في الأربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم ليكونوا في موازاة اساطين الثقافة والفكر العربي، ليترأس الشاعر والأديب الأستاذ عبد الله الجشي في العام 1945 تحرير “مجلة الغري” وهي المجلة الأدبية الشهرية المرموقة حيث احتضن حينها الشاعرين العراقيين نازك الملائكة وبدر شاكر السياب في بداية توجههما، وكان أول من تبنى النشر لهما”، ولتقول الأستاذة الدكتورة المصرية عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) حينها عن القطيف:

“كم تألمت وأنا أصغي إلى حديث أهل القطيف عن معاركنا النقدية، ومذاهبنا الفنية؟! كم خجلت وأنا أرى في أيديهم كتبنا ومجلاتنا، نحن الذين لا نشعر بهم أو نلقي إليهم بالا”.

في تأبينه، نعت المرحوم السيد علي السيد باقر العوامي، أبو كامل، الشيخ البريكي “بأستاذ الجيل” وقال في شأنه “الشيخ ميرزا حسين -الأخ الاصغر للشيخ محمد صالح- فهو أستاذي الخاص الذي درست على يديه -أنا والأستاذ الصديق محمد سعيد المسلم- قواعد اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة -معاني وبيان- ومنطق وفقه وأصول كما درسنا على يديه شيء من الأدب والتاريخ وكان أفضل خطيب في عصرة بل هو الذي طور الخطابة وأخرجها من أسلوبها التقليدي القديم إلى أسلوب متطور حديث”.

الشيخ ميرزا البريكي

توفي الشيخ ميرزا البريكي في سنة 1395 هجرية “الموافق 1975 ميلادية” ، ورثاه المرحوم الاستاذ محمد سعيد الجشي (أبو رياض) بقصيدة جاء فيها:

جددت اُسلوب الخطابة فاكتست حللاً يشعّ بها البيان الفاخرُ
إن تشرح التاريخ تنشر اُمة وإذا شرحت الفقه أنت القادرُ
ولطالما فتَّحت عقلاً مغلقاً كم أهتدي غِرّ بهديك حائرُ

في هذه الايام اصبحت المجالس العامة الاجتماعية تسمى ديوانيات. وإطلاق اسم الديوانيات على المجالس في القطيف ربما تم استنساخه من الكويتيين الذين ينعتون مجالسهم بالديوانيات التي نشأت عندهم.

والقصد على أية حال هو المجلس الذي يكرم فيه الضيف والجار ويقدم خدمة التواصل الإجتماعي ، ويبث المعرفة وهو الذي يرسخ الثقافة وينشر الوعي ويعزز القيم ويوسع المدارك،،،

ولقد كانت الحاجة إليه فيما مضى أكثر الحاحًا، والرغبة فيها أكثر شغفًا قبل أن تتوفر وسائل التواصل الاجتماعي وتنتشر المقاهي بهذا الكم والتنوع والرفاهة، وقبل أن تتغير اساليب الناس في الحياة، وتتبدل أولوياتهم، ربما لنقول إنها اصبحت أكثر ميلًا الى المادة وإلى العولمة.

المهندس علي عبد المحسن الجشي

تعليق واحد

  1. علي حسن المسعود

    فعلا المجالس مدارس وقد لا ينجح فيها كل من اتاها…نسمع قديما ان فلان طرد من مجلس فلان…وهنا الطامه لانها تكون كشهادة ضده لقوة المجالس وقرارات اصحابها اي انها تعتبر من ضوابط المجتمع للافراد….والوصف فعلا جميل من المهندس ابو حسن……الله يعطيك العافيه اخينا العزيز .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *