{طباخته ما ضاقته}
قول له معنى ظاهر مباشر يعني الشخص الذي صَنعَ شيئًا ما ولم ينتابه منه شيئًا، فهو مثلٌ اسلوبه بسيط يعبر عن امتعاض واستياء يعتلجُ في نفس من عمل وجد واجتهد لإنجاز شيء وخرج منه كما يُقال “بلوشي”.
وكلمة “ضاقته” تعني ذاقته إذ أُبدِل حرف الذال بالضاد كما هو جارٍ في اللهجة المحلية. ونلاحظ هنا إن صيغة المثل جاءت مؤنثة مما يعني إن النساء فيما مضى من الزمن كُنَ المسئولات عرفًا عن الطبخ وإعداد الطعام في بيوتهن.
الأم تطبخ الطعام للعائلة وتقدم انواع الأطباق على المائدة لكنها لا تأكل منه شيئًا، وإن أكلت فلا تأكل منه إلا النزر اليسير فهي تريد أن يستمتع عيالها ومن حولها بأكل وتذوق ما طبخته. وهذا المشهد إن لم نكن نراه اليوم بكثرة لتوفر النعمة وانبساط الخير إلا أنه كان واقعًا في السنين العجاف فيما مضى من الزمان ومنها تلك التي عُرِفت بسنة البطاقة خلال الحرب العالمية الثانية والتي صعُب فيها استيراد الاطعمة وغيرها بسبب معارك اساطيل الحرب في اعالي البحار.
والواقع إن التموين الغذائي وأنواع الطعام والمأكولات التي ننعم بها اليوم كان شحيحًا حتى منتصف الستينات من القرن المنصرم. فما كانت هذه الفواكه والخضروات والمخبوزات والأجبان بأشكالها واللحوم بأنواعها والأسماك بصنوفها متوفرة بهذه الكثرة التي هي بأيدينا الآن إذا استثنينا الخضروات الموسمية المحلية والأسماك الساحلية. وفي حينها كان السمك يُعدُ طعام الفقراء أما اللحم والدجاج فهو للأغنياء والذين كانوا بطبيعة الحال قلةً لا تُذكر.
وإذا كانت الأم تتنازل عن حصتها مما طبخت لأولادها وعيالها طوعًا واختيارا، فهناك من تؤخذ منه حصته من غير رضاه ودون اختياره. وهذا المثل الجميل في معناه يعبر عن تطبيقات كثيرة في واقع معاش حياة الناس واحوالهم، فكلمة طبَخَ لا تقتصر على طبخْ الطَّعامَ وإنضاجه بالحرارة ليكون جاهزًا للأكل، ولكنه يتسع ليشمل تدبير الأمور وإعداد الخطط والعمل في الإنتاج المادي والفكري.
فكم من بَّنَّاءٍ عمل في تشييد مساكن تشبه القصور ولم يتمكن من جمع ما يكفي لبناء مسكنًا متواضع لعياله، وكم من فلاحٍ حرث الأرض وزرعها ولم يستفد مما حصده سوى عرقه، وكم من موظفٍ جد واجتهد لينجز عمله بإتقان على أحسن وجه وقامت عليه اركان دائرته ليُسرَق منه تعبًهُ وإخلاصه ويوضع في الظل فلا ينتابه من حُسنِ ادائه إلا “الريش، “وكم من مؤلف سهر وتعب في اعداد كتاب ثم سرقت دور النشر ثمرة انتاجه. كل هذه الحالات والحقائق ينطبق عليها مغزى مثلنا “طباخته ما ضاقته”. وربما ناسب أو قارب هذا المثل في معناه ما قاله شوقي:
أحرام على بلابـله الدوح …. حلال للطير من كل جنس؟
وليس من الصعب استنتاج إن من تسرق جهودهم هم الذين تُستضعف شخصياتهم ومكانتهم وقيمتهم أما لقصور ذاتي، أو قلة وعي، أو انكفاء على الذات، أو انعدام طموح، أو فقد القدرة على التحدي والمواجهة بسبب الخوف من مزاحمة رؤساء يخشون كيدهم، أو التهيب من مقارعة زملاء لهم اعتادوا على الجرأة وتمرسوا في اللقافة أو الارتباك في ظروف الجو العام الذي لم يهيئ نفسه للتكيف معه، أو الافتقار إلى دبلوماسية تساعده في التعامل مع الآخرين أو عدم إلمامه بأساسيات الإدارة أو تأثره بظاهرة التهميش التي يتعمدها الأبعدون، أو الإحباط الذي يخلقه فيه الأقربون، وهذا من اسوأ ما يمكن أن يكون، مع ملاحظة إن اكثر من يتم استغلالهم هم الفنيون والمخلصون في عملهم لأنهم يركزون على تفاصيل عملهم ولا يهتمون أو لا يركزون على إبراز أنفسهِم.
هناك الكثير ممن يسرقُ جهدَ غيرِه ولا يُعطي صاحب الحق حقه، مُخالفًا القول المأثور “أعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه“. هذا النوع من بخس الحقوق قد يتم باستخدام اليد العليا أو بالمراوغة أو بتوظيف طرق ملتوية وغير مباشرة واستغلال ضوابط في القانون تجعل المسروق خارج الحماية، كأن يؤسس احدهم شركة لكنه يكتبها باسم شخص آخر أو شريك لأسباب تنظيمية وبعد أن يشتد عود الشركة يُنكِرُه شريكه الذي كُتٍبت الشركة باسمه فيكون قد “خرج من المولد بلا حمص” بعد أن اتم طبخ تكوين الشركة لكنه لم يستفد منها.
وهناك من يأتي بصاحبه الى مكتب عقار بقصد الاستفادة بجزء من مبلغ السمسرة ويقوم بترتيب الأمور الا انه يُخرج من قيمة الدلالة لأن المكتب استغل عدم وضوحه فهو مع صاحبه عامل خير ومع مكتب العقار صاحب فائدة.
في اجتماعات العمل قد تكون عند احدهم افكار جيدة لكنه لا يستطيع طرحها بطريقة مناسبة فيتلقفها أحدهم ويصيغها بأسلوب متماسك ومفهوم فتكون له فائدة السبق بعرضها ويكسب تقدير المديرين. يُذكر إن كاتب أرشيف عمل بأحد الأقسام لمدة ثلاثين عامًا لم ينل ترقية لها شأن وكان من حسن تنظيمه وإخلاصه وخبرته ومخزون ذاكرته وتفهمه لبواطن الأمور جعل هذا القسم أفضل قسم في الإدارة لترقي كل رئيس يأتي لإدارة القسم لمدة معينة، إلا كاتب الأرشيف فبقي في مكانه دون ترقية، فكما يُقال “باب النجار مُخلع“.
إن سرقة الأفكار أو كلمات الآخرين وتمريرها دون اعطاء صاحبها حقة واعتماده كمصدر تعتبر عمل من أعمال الاحتيال أو سرقات أدبية. قال تعالى في سورة الشعراء “وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ” أي لا تنقصوا الناس شيئًا من حقوقهم، فالبخس في سياق الآية يعني النقص في الوزن والكيل والبيع والشراء، وينسحب مفهومه ايضًا ليشمل محاولة التقليل من قيمة الإنسان وشخصه، أو سلب حقوقه المادية أو المعنوية.
ماذا تصنع إذن؟ عليك دائمًا أن تعرف حقوقك، ما لك وما عليك، وازرع الثقة في نفسك. سوق لنفسك بلباقة واستخدم استراتيجيات تناسبك. دع الآخرين يعرفون من أنت ليقدروا قيمتك. شاركهم خبراتك ولا تبخل عليهم بمعرفتك. كن ذكيًا اجتماعيًا وقدم لمن معك خدماتك. هذه الاستراتيجيات وغيرها ستساعد في فتح افاق للتعرف على اشخاص خارج دائرتك المباشرة الضيقة وممن قد تكون لهم كلمة في ترقيتك وتقدمك.
جميل ورائع… تسلم
احسنت مهندسنا ابو حسن ،،، اسلوبك رائع و مقالك جمع ببساطة اطراف الموضوع فاصبح من السهل الممتنع ،،، الى الامام و بالتوفيق
حق علينا ان نشكر ابو حسن على طرح جميل يخص فيه حقوق الإنسان من خلال مثل شعبي وهذا في حد ذاته إبداع جميل…..فكم من جهود ضاعت وحقوق لم تحفظ وحتى بعض الاحلام تاهت…..الاسباب تعددت كما اسردها حبيبنا ابو حسن ولكن السبب الأول هو المجتمع وافراده………تسلم ابو حسن الله يعطيك العافيه اتحفتنا ياجميل