{الطويلة ما ارقاها والقصيرة كلها سِّلَّة}
هكذا يُقال المثل في اللهجة الدارجة المحلية. ويُقصدُ بالطويلةِ النخلة التي يحتاج حصاد ثمرها من الرطب إلى مهارة خاصة وقوة بدنية وجرأة لارتقاء أماكن عالية.
يقول شوقي واصفًا النخلة:
أَرى شَجَراً في السَماءِ اِحتَجَب… وَشَقَّ العَنانَ بِمَرأى عَجَب
مَآذِنُ قامَت هُنا أَو هُناكَ… ظَواهِرُها دَرَجٌ مِن شَذَب
وارقاها كلمة دارجة والفعل ارتَقى، وتعني أرتفِع وأصعد إلى أعلاها، والاسم منها رَقّاء، والرَّقَّاءُ: الصَّعَّادُ على الجبال وغيرها من الأشياء العالية. يُقال: ارتقى فلانٌ مُرْتَقًى صَعبًا، ويقول ابن الرومي:
كم مِنْ عَلاّءٍ قدْ علاهُ لَوِ ارْتَقَى… مَرْقَاتَهُ أَحَدٌ سِوَاهُ تَطَوَّحَا
في هذا البيت من الشعر يبين إبن الرومي إن الصعودَ إلى المعالي سمةٌ يختصُ بها المتميزون. وتَطَوَّحَ، فعل معناه جاءَ وذَهَبَ في الهواءِ، وتَطوَّحَ تطوُّحًا، فهو مُتطوِّح، والمفعول مُتطوَّح فيه؛ وتَطَوَّحَ في البلاد ونحوِها: رَمَى بنفْسِهِ فيها وذَهَبَ هاهنا وهاهنا؛ وتطوَّحَ السِّكِّيرُ: تمايل وترنَّح؛ وتطوَّح في النَّهر: سقَط فيه. وهذه المفردة قريبة في معناها من طاح في يَطُوح، طُحْ، طَوْحًا وطَيْحًا، فهو طائِح، والمفعول مَطُوحٌ فيه.
أما مُفردة القصيرة، في هذا المثل، فتعني النخلة القصيرة أو الفسيلة التي يكون فيها شوكٌ كثير يعيق جنيً ثمارها فيصعب على من أتاها حصاده.
يُطلق على الشوك في اللغة القطيفية الدارجة “سِّلَّة”، سواءً أكان ذلك شوك شجرٍ أو نبتاتٍ أو ورود، كما تطلق على شوك الصغار من السمك وعظامه المذببة الرأس.
ومفرد “سِّلَّة”: سِلاية كما تنطق في اللغة الدارجة، وتعني شوكة. جاء في قاموس المعاني السُّلاَّءُ: شوكُ النخلة واحدتُهُ سُلاَّءةٌ. ويُعرِف قاموس المعاني السِّلَّة: نبات شائكٌ ينبت في الصحراء من الفصيلة الصليبية، وربما قُصِد بهذا نبات الحيج وهي نبتة محلية مليئة بالأشواك تطبخ جدورها ليستخرجُ منه شراب الحيج الذي يستخدم في علاج أبو صفار أو داء الصفار.
وربما سحبنا على معنى القصيرة “القصير” من الشجر، مثل شجرة الليمون الذي لا يحتاج حصادها إلى مهارة كتلك التي يحتاجها ارتقاء النخيل، لكنه يحتاج إلى صبر وتأني لوجود أشواك حادة تبطن أغصانها.
تنمو الأشواك على أشجار الحمضيات لحمايتها من الحيوانات الجائعة التي تريد قضم الأوراق والفاكهة الرقيقة. لهذا السبب، نجد أن العديد من اشجار الحمضيات اليافعة المنتجة لمنتوجًا طيبًا بها أشواك تسبب صعوبة للمزارع حين حصادها. أما الأصناف الخالية من الأشواك فتفتقر النكهة المفضلة وتكون أقل إنتاجية، فكأن كل ما زادت قيمته وعظمت فائدته يصعب الاستحواذ عليه ، {صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ إِنَّهُۥ خَبِيرُۢ بِمَا تَفۡعَلُونَ} (النمل-88). يقول أبن الوردي:
إنـما الوردُ منَ الشَّوكِ وما… يَنـبُتُ النَّرجسُ إلا من بَصَلْ
يعتبر شجر الليمون القطيفي ثاني الثمار، بعد رطب النخل، التي تنتجها مزارع القطيف بغزارة وهو ذو جودةٍ عالية لوفرة مائه وذوقه المتميز ورائحته العطرة، ولا ينافسه أي نوع مستورد من الليمون. وكان عصيره ولازال يستخدم كنوعٍ من العلاج لمغص البطن واحتقان الحلق والكحة. وجذير بالذكر إن نفس النوع من الليمون، كما الرطب، تنتجه مزارع الأحساء والبحرين، فلا بد أن يكون استخدام هذا المثل شائعٌ ايضًا في هذين المُجتمًّعين.
ومضرب هذا المثل إن هناك من لا يتبنى الخيار المتاح المناسب لإمكانياته كشراء سيارة أو بيت يناسب امكانياته المادية، أو الالتحاق بفرع من فروع العلوم يناسب قدراته العقلية، أو ممارسة نشاط رياضي يناسب امكانياته البدنية، أو اختياره لشريكٍ يوائم وضعه العلمي أو الاقتصادي أو العمري، أو يشدد في انتقاء اصحاب واصدقاء يميلون لتوجهه الفكري، أو إنه يستحي من إعطاء القليل فلا يعطي شيئًا البتة، فلا يكون بقادر أن يبلغ ما يطمح إليه ولا هو بقابل لما هو ممكن أن يتيسر ويتوفر له مما قد يسبب له خسارة وضياع فرص بسبب اصرارٍ ليس في محله وعدم السعي لنيل ما يريد بموائمة امكانياته مع متطلباته.
وجه التشبيه في هذا المثل إن من يصعبُ عليه أو يستصعب تسلُّقَ الشَّجرةِ الطَّويلة ونَيْلُ ثمارها، ويستنكف من أو يتحاشى التعاملَ مع قصارِ الشجرِ التي تمتلأُ بالأشواك ليحصل على ما فيها من ثمر، ويقفُ عاجزًا مكتوف اليدين كمن لا يقدم على ارتقاء النخلة لطولها ولا يجني ثمار الشجار القصار لوجود الشوك فيها.
وهذا المَثلٌ استلهمَ معناه من بيئة المجتمع الزراعية التي تحظى بالنخيلِ كأهم منتج زراعي اقتصادي ساهمَ في ازدهارها على طولِ سنيي دهور مضت، فالصورة التشبيهية للمثل تتماثل مع الطبيعة التي يعيشونها وبالتالي يصبحُ المثلُ ابسط فهمًا وأقوى معنى، ولربما قال أبو القاسم الشابي لو كان بيننا:
وَمَنْ يتهيب صُعُودَ “الطِوال”… يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر
وَمَنْ لَمْ “يُكابده شَوْكُ القِصار”… تَبَخَّـرَ في جَوِّهَـا وَانْدَثَـر
كما إن هذا المثل يتصدى للمثالية التي يتوخاها من يطلق عليهم “أصحاب الكمال” وهم الذين يرفضون قبول أي شيء لا يمثل الكمال بالنسبة لهم. هناك من يعيش في وهم المثالية المفرطة، ويجعلها تسيطر على مسار حياته فيرسم لنفسه ولغيره توقعات غير متوافقة مع الواقع، وغير منسجمة مع الامكانيات المتاحة، الأمر الذي يجعله في حالة من المشاعر السلبية، حين تتبين عدم قدرته وقدرة من حوله بتحقيق تطلعاته ورغباته.
يقول فولتير: “لا تجعل الكمال عدو الخير”، لكن من يرتأون في أنفسهم المثالية المطلقة يُلزِمون أنفسهم بمعايير عالية قد يُستحال تطبيقها لتحقيق غاياتهم. هناك من يعتقد أن ما يملكه أو يفعله أو يلبسه أو يأكله ليس بالدرجة الكافية التي تُليق بمستواه وتحقق طموحه ورضاه. السعي إلى الكمال مطلوب وحريٌ بنا أن نسعى إليه، لكن المطلوب أكثر هي المرونة التي نُسيّر بها عجلة حياتنا.
أحيانًا نسمعُ من يقول، ولو همسًا، “هذا يطلبُ المستحيلَ” وهناك من يردد شعار “لا شيء مستحيل”، لكن هذه الطريقة من التفكير غير واقعية، وليست قابلة للتطبيق على الدوام.
علينا أن نعي ما نحتاج إليه وأن نتفهم الطرق والوسائل التي تمكننا من الحصول عليه، ولو اضطررنا لتغير تموضعنا ومواقفنا وتغيير اتجاهنا ولو بالاستدارة إلى الخلف 180 ْدرجة مادام ذلك في إطار القانون والنظام والعرف العام.
“سددوا وقاربوا” و “إذا اردت أن تُطاع فسل ما يُستطاع”، و “ما لا يدرك كله لا يترك جله” كلها قواعد تدعوا إلى توخي الوسطية والاعتدال في اتخاذ القرار. يقول الإمام علي عليه السلام “لا تستح من إعطاء القليل فإن الحرمان أقل منه”، فإذا تعذر الحصول على الشيء بالكامل فعلينا أخذ ما يمكننا أخذه منه.
“فما كلَ ما يتمنى المرؤ يُدركه”، لكن، علينا السعي نحو الكمال في الإنجاز لنحصل عل الأفضل دائمًا، وفي نفس الوقت علينا أن نراقب الضغوط والمخاوف والقلق التي قد يسببها لنا الوضع الذي نكون فيه ونعمل على التحكم فيها والسيطرة عليها.
جميل يا بو حسين فانت تنقلنا الى عالم جميل سيفد اولادنا واحفادنا معناه وجماله فالف شكر والى المزيد من الطرح لهذا التراث الشبه منقرض 🌹🌹🌹🌹🌹
جميل ربط المقصود من المثل الشعبي بالمعاني القريبه او البعيده للمثل حسب مستخدم هذا المثلث حيث يعطي ابعاد جميله مترابطه في المعنى وتتضح المقوله بأن الامثال هي نتاج حكمه وخبره اجتماعيه تتداولها الاجيال لاختصارها كثير من الكلام والافاضه…..سلمت ابو حسن ودائما مبدع….لك مني كل المحبه والتقدير.
احسنت أبو حسن فالطويلة ما ارقاها والصغيرة كلها سلة.. ويبدو ان وجهة الطالب هو الحصول على ثمرة معينة من النوع ذاته حين توجه إلى النخلة لغرض خرافها، فمطلبه هو الرطب لاغيره ولكنه حين عجز عن ارتقاء النخلة الطويلة فقد توجه بعدها إلى النخلة الصغيرة (وهي الفسيلة) إلا أن معوقات نيل الرطب من الفسيلة رغم قصرها جعلت المطلب اشد صعوبة فكثرة سلة (أي شوك) الفسيلة معروف أنه اكثر نسبيا من شوك النخلة ومتقارب من بعضه وهو يحف العذوق من كل جانب فيصبح مد اليد إلى عذوق الفسيلة وإن كان قريب منه فهو ليس بسهل المنال لكثرة الشوك في الفسيلة الذي يتحول الى الخوص فيما بعد ماجعله يعبر عن حيرته بقوله الطويلة ما ارقاها والصغيرة كلها سلة.