ثورة في الأفق – حسن المرهون

معالم الثورة

ثورة عارمة، قادمة لا محالة، تحمل مشاعل التغيير، وتنير الدرب لمن أراد المسير. ملامح هذه الثورة، ونور مشاعلها يتألق شيئا فشيئا في الأفق. القليل من الناس من يعلم عن قرب إنفجار هذه الثورة،  وعدد محدود من العلماء والمهندسين من يعرف ماهية هذه الثورة، و أن الإنسان في بضع سنوات قليلة قادمة سيتعامل مع أشياء كثيرة لم تكن موجودة من قبل.

لقد مرت على الإنسان محطات كثيرة غيرت مجرى حياته مثل إكتشافه للعجلة وآلة الإحتراق الداخلي في ثورته الصناعية الأخيرة، وأخيرا إختراعه للحاسوب (الكمبيوتر).

ولقد رأينا رأي عين كيف إستطاع الحاسوب أن يغير حياة الناس رأسا على عقب، فمن لا يخالط الحاسوب في حله وترحاله أصبح في معزل عن العالم، وكأنه يعيش في كوكب آخر. وما الإنقلاب الذي أحدثه الحاسوب في حياة الإنسان إلا كقطرة ماء في بحر لجي متلاطم بالنسبة لمحطتنا وثورتنا القادمةـ إنها ثورة لا قبل للإنسان بها، إنه التغيير الحقيقي القادم بسرعة البرق إذا ما قيس بغيره من التغيرات عبر الحياة البشرية.

الأبحاث العلمية تتطور بسرعة مذهلة، والثورة القادمة تحمل لنا عنوان جديد ملخصه – السيطرة على حركات الذرات ـ أو ما تسمى (بثورة النانو) ، والنانو عبارة عن وحدة طول تساوي واحد من مليار من المتر.

العلماء في مراكز الأبحاث في هذه الساعة يرسمون شعارات الثورة الجديدة في مختبراتهم ويمارسون تجاربهم في ميدان العمل الذي هو حيز صغير جدا لا ُيرى إلا بالمجاهر الخاصة عالية التكبير.

تخيل أن بعض نتائج هذه الأبحاث تمكن الإنسان من القيام بالآتي (وذلك على سبيل المثال لا الحصر):

  • القيام برحلات رخيصة للفضاء الخارجي.
  • إنتاج طاقة هائلة ونظيفة لا تلوث البيئة.
  • صنع مواد صلبة أقوى وأخف بعشرات المرات من الفولاذ.
  • إكتشاف الأورام السرطانية في بداية تكوين خلاياها.
  • صنع إنسان آلي لا يرى بالعين المجردة يسبح داخل جسم الإنسان، يحارب البكتيريا وينظف الأمعاء وباقي الأجهزة في داخل جسم الإنسان.

رجالات الثورة                                                     

بدأت هذه الثورة قبل أكثر من أربعة عقود من الزمن عندما أطلق العلماء نظرية التمكين القائلة بأن ما يمكن وصفه يمكن بنائه. على هذا الأساس فان أي هيكل كيميائي مستقر يمكن وصفه فإنه يمكن بنائه. وقد ترافقت هذه النظرية الكيميائية مع المسلمة الفيزيائية القائلة بإمكانية التحرك والتحكم بمواقع الذرات والجزيئات للمادة.

من خلال هذه النظريات وغيرها تم خلق حدس يدور في خلد عقول العلماء، مفاده أنه بالأمكان صنع إنسان آلي (روبوت) صغير جدا يحرك الذرات لصنع مواد كيميائية جديدة.

وهذا الحدس أصبح نقطة إنطلاق نحو ما يعرف اليوم بهندسة النانو. وهندسة النانو هي علم تم فيه دمج العلوم الطبيعية مع العلوم الهندسية لدراسة وتطوير نظام آلي يتعامل في حساباته بالنانو، لبناء هياكل ذرية.  

ولأن الحاجة ماسة جدا لصنع أدوات صغيرة للقيام بمهام غاية في الدقة ـ بدأت الأبحاث بالتركيز على صناعة جيل من المجاهر يوفر العيون والأصابع للعمل على تحريك الذرات وقد بدأت طلائع هذه المجاهر في خدمة هندسة النانو في بداية عام 1980 م.  وسرعان ما بدأ العلماء يصرحون في المؤتمرات العلمية وبكل ثقة بأن المستقبل حافل بالمفاجئات.

طبيعة الثورة

إن الخواص والمفاهيم للمادة تتلاقى كلما إقتربت أنامل الإنسان للبناء الذري لهذه المادة. فخاصية الطاقة الكامنة للمادة وكتلتها تتلاقى وكأنهما خاصية واحده إذا ما تم التعامل مع جزيئات هذه المادة.

وكذلك فان الخواص الكيميائية والكهربائية والمغناطيسية للمواد تتغير من المتعارف عليه في أحجامها الطبيعية إلى خواص متقاربة جدا عندما يتم التعامل معها في حالتها الذرية. وعندما يتم دراسة وفهم طبيعة المتغيرات الفيزيائية للمواد في حالتها الذرية أو الجزيئية فأنه بالإمكان صنع وتطوير آلات ذات أحجام تقاس بالنانو لتوفير قدرات لتغيير البناء الذري مما يؤدي إلى إيجاد إمكانيات جديدة وتقنيات قد لا نحلم بها.

وقد خطى الإنسان خطوات جريئة في هذا المجال. وفي الوقت الحاضر يتم التركيز من قبل العلماء على ثلاث مجالات من الأبحاث في هندسة النانو – كمرحلة ثانية من مراحل تطور هندسة النانو – وركيزة قوية من ركائز الثورة المرتقبة وهذه المجالات هي:

  • تصميم البروتين
  • التصوير الذري
  • كيمياء البايوميمتيك

وبفعل هذه الأبحاث المتواصلة تم رؤية وتصوير وضع ذرات مفردة بواسطة مجاهر المسح الضوئي المتقدمة لأول مرة في تاريخ حياة الإنسان.

وبفضل الأجيال الجديدة من المجاهر أصبح من الممكن فصل الذرات عن بعضها ومراقبتها. وفي المستقبل القريب سيتمكن العلماء من تحريك الذرات والجزيئات من مواقعها الطبيعية إلى أي مكان يرغب فيه مهندس النانو. وسيصبح التحكم في ترتيب الذرات أمراً قريب المنال. وللقيام بهذا لا بد من إيجاد تقنية عالية الدقة لصنع إنسان آلي غاية في الصغر، يستطيع بذراعه المجهري تحريك الذرات ووضعها في المكان المطلوب بدقة. وهذا الإنسان الآلي بإمكانه بناء الهياكل الذرية وبناء المزيد من الإنسان الآلي (النانو). وإذا أمكن ذلك، أمكن السيطرة على تطور هذا العلم بتكاليف معقولة.

أهازيج الثورة

إن أهازيج الثورة المرتقبة بدأت تنطلق من هنا وهناك، وأن تقنيتها تتطور بشكل مذهل وفي وقت قصير، وأن أي باب من التقدم يحدث يفتح المجال لألف باب آخر. فهي ثورة إزدحام المتغيرات، والوقت لا يسعف الإنسان للتأقلم مع طوفان النتائج عوضا عن إحتوائها.

إنه من غير الممكن التنبؤ بالنتائج في ظل ملايين من الإحتمالات والتوقعات، لملايين من التصاميم، ولملايين من الهياكل الذرية. نعم ستحدث التغيرات بسرعة تفوق الخيال، إذ لم يسبق للإنسان أن واجه هكذا كم من المتغيرات في آن واحد عبر التاريخ.

وإذا ما تمت القدرة على تحريك وتجميع الذرات سيكون بالامكان بناء أشياء جديدة من الطعام والملابس والسيارات والبيوت بتصاميم هي أقرب للخيال منها للواقع المعاصر.

وفي ظل هذه الثورة وبلا أدنى شك، فإنها ستلقي بظلالها على العلوم الأخرى والتقنيات المعروفة في وقتنا الحاضر وستعرضها لهزة من التغيرات والتطوير، وسيكون بالإمكان سبر أغوار كل ماهو مجهول.

العالم المتقدم ومن خلال مراكز الأبحاث في سباق مع الزمن لمعرفة أسرار هذا العلم ومحاولة السيطرة على دعائم الثورة قبل أن تنفجر، وفي نفس الوقت يخطط للإستعداد لإستقبال هذه الثورة بالحوار المفتوح مع قطاعات المجتمع المدني لتقديم فهم واضح لتقنية النانو وماذا سيؤول له الحال في المستقبل.  إن هندسة النانو وتقنياتها هي عصب الثورة الصناعية القادمة والعالم بحاجة إلى أعداد كبيرة من الأخصائيين في هذا المجال، وبالفعل بدأت الدول المتقدمة تقتحم الميدان بإدخال تخصص هندسة النانو ضمن برامجها الدراسية في الجامعات بداية من عام 2002م، أما الغائب عن الميدان والذي لا أهازيج له، هو بالفعل المتخلف عن ركب الحضارة.

 

2 تعليقات

  1. ان الثورة التكنولوجية القادمة ستكون صادمة لمعظم المجتمعات التي لا تواكب التغيرات الجذرية الحاصلة في تقنية النانو فإن لم نهيئ جيلنا القادم لها فانه سيعاني من المواكبة لتلك التطورات السريعة وسيحتاج الى قفزات قوية وسريعة للحاق فقط لكل ما هو جديد .
    الف شكر لك على طرح هذا الموضوع وهذه اللفتة الجادة لدق ناقوس الخطر للاستعداد للمرحلة التكنولوجية القادمة .

  2. ابداع في الطرح بطريقة السهل الممتنع
    أجدت و أفدت بعد ان ابدعت في نقل المعلومة العلمية بطريقة الذكي الحذق العازل بما يطرح زادكم الله توفيقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *