يقع منجم بيركلي للنحاس في مدينة بيوت بولاية مونتانا الأمريكية بالقرب من الحدود الكندية. ومنذ عام 1885 ميلادية بدأ الناس يحفرون أنفاقا تحت الأرض هنا وهناك بحثا عن الذهب والفضة لكنهم لم يعثروا على مبتغاهم إذ كانت المنطقة غنية بالنحاس الرخيص وليس بالذهب والفضة، مما أجبر معظم الباحثين عن الذهب على بيع مناجمهم الصغيرة لشركة أناكوندا للنحاس عام 1955م. وبدأت شركة أناكوندا بإنتاج النحاس بطريقة المنجم المفتوح لإستخراج الأحجار من المنجم بعد أن إشترت أيضا البيوت والمدارس الواقعة في منطقتي ميدرفيل وماكوين لتتمكن من عمل حفرة عملاقة يسهل من خلالها نقل الصخور وفصل النحاس. واستمر العمل في المنجم لمدة 27 سنة متواصلة قبل أن تقرر شركة آركو التي اشترت المنجم من شركة أناكوندا عام 1977م الى إغلاق المنجم عام 1982م إغلاقا نهائيا لإنتهاء معظم المخزون وإرتفاع تكلفة الإنتاج.
ومنذ عام 1955م وحتى عام 1982م تم نقل اكثر من 700 مليون طن من تربة المنجم بواسطة الشاحنات وتم استخلاص 320 مليون طن من معدن النحاس. ونجم عن هذا النشاط حفرة مساحتها 2.7 مليون متر مربع بطول يساوي 2133 متر وعرض 1706 متر وعمق 544 متر. وأثناء العمل كانت الشركة المشغلة تضخ المياه من الحفرة الى خارجها والتي تتجمع بسبب الأمطار أو التسربات من طبقات المياه الأرضية المحيطة بالمنجم حتى لا تعيق حركة النقل المستمرة ليلا ونهارا.
هذا الكم الهائل من النحاس الذي تم استخراجه من منجم بيركلي تم استخدامه في صنع الأسلاك الكهربائية التي تضيء معظم المدن الأمريكية في وقتنا الحاضر كما تم استخدامها أيضا في صناعة الكثير من الأجهزة كالراديو والتلفزيون والتلفون والسيارات والكومبيوترات وغيرها.
وعندما تقرر إغلاق المنجم عام 1982م توقفت الشركة المشغلة من ضخ الماء من الحفرة، والآن وبعد أكثر من 33 سنة يوجد لدينا حفرة عملاقة مملوءة بـ 42 بليون جالون من الماء الحمضي مختلط بمعادن ثقيلة وعدد غير معروف من أشكال الحياة المجهرية الخطرة.
وضع المنجم بعد التعدين:
بإستطاعة أي سائح شراء تذكرة بدولارين فقط لزيارة المنجم والذي أصبح بحيرة ويمشي بعد المدخل في نفق قصير ليقف فوق مرتفع خشبي يطل على البحيرة التي تسطع عليها الشمس فتنعكس ألوان الماء الملونة فتارة تراها حمراء وأحيانا صفراء أو مائلة للأخضر.
ويطلق أهالي مدينة بيوت على منطقة المنجم بمنطقة الموت والبعض يسميها بحيرة الموت او بحيرة السموم والجميع على حق، إذ لا يمكن لأي نوع من أنواع الحياة العاشبة او اللاحمة أن يعيش في هذه البحيرة ولا حتى على أطرافها، فلا يوجد بها أي نوع من الأسماك ولا يمكن للطيور أن تقترب من سواحلها ولا يوجد نبات ينمو بالقرب منها، حتى الحشرات لا تجدها تتطاير قريبا منها. هذا ما جنته شهية الربح والجشع وعدم الإهتمام بالبيئة، والنتيجة وبعد سنين من التعدين تتحول منطقة عذراء على كوكب هذه الأرض الوادعة الى منطقة جرداء ملوثة مثيرة للإشمئزاز ، إنه الإغتصاب لأرض جميلة في وضح النهار وأمام الملأ. الماء يتدفق الى باطن حفرة المنجم من طبقات الأرض ومن الأمطار بمعدل 22 سنتيمتر شهريا. والأوكسجين المذاب في الماء المتدفق يتفاعل مع المعادن المتبقية بعد إستخلاص النحاس وتنتج أحماض خطرة جدا مما يؤدي الى زيادة حموضة الماء ليصل الى مستويات عالية تفوق حموضة الخل. استمرار هذا الوضع بهذه الكيفية يهدد سلامة البيئة المحيطة بالمنجم ومياه الشرب تحت الأرض وفوقها.
ناقوس الخطر:
المياة السامة ترتفع في حفرة المنجم مع الوقت وتهدد المياه الجوفية ومياه الأنهار والبحيرات القريبة، وقد وصل الماء في الحفرة عام 2009م الى إرتفاع 1610 متر فوق سطح البحر مقتربا الى الحد الحرج والخطير وهو إرتفاع 1648 متر فوق سطح البحر، عند هذا الإرتفاع يتسرب ماء بحيرة المنجم الملوث ويختلط بمياه نهر كلارك فورك الذي يعتبر أهم مخزون ماء في الولاية. واكتشف العلماء وجود مئات الأنواع من الأحياء الدقيقة والطحالب الغريبة تعيش في هذا الماء الملوث والتي قد تهدد حياة الناس والمخلوقات الأخرى في المنطقة. وفي عام 1995م ولشدة البرد حط سرب من الوز المهاجر على بحيرة المنجم ليستريح ويتقي برودة العاصفة الثلجية ، لكن ما إن إنتهت العاصفة بعد أيام إلا ومئات من طيور الوز المهاجر وجدت ميتة على مقربة من سواحل البحيرة.
الموقف يستدعي الإهتمام من الجميع:
بعد رؤية طحالب خضراء لزجة وغريبة تطفو على سطح ماء بحيرة المنجم تم إقامة مختبر قريب من البحيرة تابع لجامعة مونتانا للتقنية وبعد الدراسة والبحث تم إكتشاف 142 مكون حي يعيش في البحيرة وأكثر من 80 مركب كيميائي جديد غير معروف. كما سارعت حكومة الولاية بإنشاء محطة لمعالجة الماء الملوث عام 2003م للتقليل من التدفق الذي يرفع منسوب الماء في البحيرة الى الإرتفاع الحرج وذلك بضخ الماء خارج البحيرة ومعالجته بواقع 3000 الى 5000 جالون في الدقيقة على مدار الساعة بإستخدام الليمون لخفض الحموضة، وعزل المعادن من الماء على شكل قوالب طينية بعد خفض الحموضة. وتم إنشاء مواقع الكترونية من قبل المهتمين والمتطوعين لمراقبة منسوب المياه في البحيرة ومتابعة جدية الجهات المسؤولة للقيام بواجبها لوقف إتساع رقعة المشاكل البيئية. كما تم إنشاء برنامج مراقبة على مدار الساعة لعدم السماح للطيور بأن تبقى لساعات طويلة قرب البحيرة السامة حفاظا على حياتها. وما زالت الأبحاث قائمة للتعرف على الفطريات والبكتيريا التي تتكيف على العيش مع الظروف القاسية داخل حفرة المنجم والتي تبين أنها تتصارع فيما بينها على البقاء لشحة الموارد، مما أدى الى إنتاج مركبات شديدة السمية ومخيفة. ولأن الماء ملوث بمعادن ذائبة وثقيلة وذات تركيز عالي من المنجنيز والحديد والزنك والزرنيخ والنحاس وحمض الكبريت والكاديميوم وغيرها يصبح لون الماء أخضر ليموني يعلوه لون الماء الأحمر القاني على السطح.
مناجم النحاس وحقول النفط:
المشاكل التي خلفها إنتاج النحاس من منجم بيركلي تضج مضاجع الإمريكيين وخاصة المجتمعات التي تعيش بالقرب من هذا المنجم، وبالرغم من كل الإحتياطات والمشاريع والأبحاث، إلا أن العلاج يحتاج الى زمن طويل وجهود جبارة لتقليل الأضرار البيئية والصحية على الإنسان هناك. وعندنا في الشرق الأوسط ستنضب حقول النفط عاجلا أم آجلا وسنواجه مشاكل شبيهة الى حد ما من المشاكل التي خلفها منجم بيركلي للنحاس وعلينا أن نواجهها شئنا أم أبينا. عندما تستخرج الملايين من براميل النفط وبلايين الأمتار المكعبة من الغاز من باطن الأرض يتم ضخ كميات هائلة من المياه في هذه الحقول ، لذا عندما ينضب النفط من هذه الحقول فنحن أمام حزمة من المشاكل أهمها: المياه التي تم حقنها في الآبار ستكون حتما ملوثة بالبترول – بقايا النفط والتسريبات النفطية في الصحاري والبحار ستصل حتما الى المياه الجوفية الصالحة للشرب – سيتم ترك مئات من الآبار المفتوحة أو شبه المفتوحة في البوادي والمناطق المغمورة بالمياه– مئات من أنابيب الحديد المغروسة في البحر وفي الصحراء وعلى أعماق كبيرة ومتفاوتة – مئات الكيلومترات من الأنابيب المتهالكة ممتدة في قاع البحر وفي الصحاري. فهل نحن مستعدون للتعامل مع ما ينتظرنا من مشاكل جراء إستخراج ثرواتنا؟؟؟
ما شاء الله اخونا العزيز أبو علي…جهد طيب وموضوع علمي تاريخي بيئي شيق