سنتطرق في هذا الجزء الى بعض الخلفية التاريخية وبعض الجذور المعرفية لمفهوم الأرباح أوّلًا وهي:
- تاريخ الكنيسة وصراعها مع علماء الفلك والطبيعة ومع حركة الإصلاح اللوثرية،
- ردة الفعل العنيفة داخل المجتمع الأوروبي،
- مذاهب المعرفة (المذهب العقلي والمذهب التجريبي)،
- المنهج التجريبي الموضوعي والمنهج الذاتي في العلوم الإنسانية،
- النظريات الاجتماعية والنفسية،
[وسنكمل الخلفية التاريخية في الأجزاء التي تليها].
الكنيسة الكاثوليكية
لقد فرضت الكنيسة هيبتها في اوروبا خلال العصور الوسطى (قبل القرن الثالث عشر الميلادي)، حيث كان القساوسة يقرأون الانجيل باللغة اللاتينية ويتحدثون باسم الدين. وقد تبنت الكنيسة مقولات ونظريات عن الكون والطبيعة اعتبرتها من صميم الدين كمركزية الأرض في الكون، وسخّرت طاقاتها لتحارب كلّ من يتحدى هذه المقولات. لكنّ الكنيسة تعرّضت الى نكستين كبيرتين أحدهما من الحركة الإصلاحية اللوثرية والأخرى من علماء الطبيعة.
الحركة الإصلاحية اللوثرية
انطلقت في الكنيسة الكاثوليكية حركة إصلاحية قادها مارتن لوثر (1483-1546) حيث اعترض على كثير من تصرفات الكنيسة الكاثوليكية كصكوك الغفران وغيرها، واستفاد من اختراع المطبعة عام 1440م، فنادى بطباعة الانجيل باللغات المختلفة وأعلن أنّ لكلّ مسيحي الحق أن يقرأ الانجيل بلغته القومية، مما سحب البساط من تحت أقدام الكنيسة الكاثوليكية. وقد إنتشرت وراجت أفكار مارتن لوثر في شمال أوروبا، وتطوّرت الحركة البروتستانتية حتى إشتدّ التوتر بين الكاثوليك والبروتستانت ودخلت عوامل عديدة أدّت الى اشتعال حرب الثلاثين عامًا في أوروبا (1618-1648) التي أكلت الأخضر واليابس وقتلت ملايين البشر ودمّرت مئات القرى وتركت الأراضي الخصبة دون حصاد، ثم انتهت بصلح وستفاليا الشهير عام 1648م. لقد كانت نتيجة الحركة البروتستانتية وهذه الحرب الأهلية بين الكاثوليك والبروتستانت أن تزعزعت ثقة بعض الغربيين بالدين المسيحي.
علماء الطبيعة
حين بزغ فجر العلم في عصر النهضة الأوربية (القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلادية)، إنبرى علماء الغرب يدرسون حركة الكواكب ويعترضون على رؤية الكنيسة بمركزية الأرض، فتصدت لهم الكنيسة بكل قوة، وارتكبت الكنيسة انتهاكات عديدة ضد مجموعة من العلماء وأتهمتهم بالهرطقة وحكمت عليهم أحكاما قاسية جدا.
وكان من هؤلاء العلماء: كوبر نيكوس (1473-1543) الذي برهن على نظرية مركزية الشمس وأن الأرض وبقية الكواكب تدور حولها، وجوردانو برونو (1548-1600) الذي آمن بنظرية كوبر نيكوس وأطلق نظريته بلانهائية الكون وأنّ النجوم الأخرى تشبه الشمس، فأحرقته الكنيسة حيًا في روما، وتايكو براهي (1546-1601) الذي رصد حركة كوكب المريخ لمدة 20 عامًا، فاستفاد منها يوهانس كيبلر (1571-1630) ووضع قوانينه الثلاثة في حركة الأجرام السماوية، وغاليليو غاليلي (1564-1642) الذي صنع تلسكوبًا وصاغ الفيزياء والسرعة والتسارع في قالب المعادلات الرياضية وقال إنّ الكون مكتوبٌ بلغة الرياضيات، ثم تبعه اسحق نيوتن (1643-1727) واكتشافاته العظيمة في الجاذبية وقوانين الحركة. وهكذا توالت الاكتشافات وتبين صدق العلماء وتزعزعت ثقة الناس بالكنيسة فضعف كيانها وانحسرت سلطتها. وللعلم فقد أشتهر نيوتن بإيمانه العميق بخالق الكون.
مذاهب المعرفة
كيف يحصل الإنسان على معارفه وعلومه؟ أي كيف يثبت صحة قناعاته الفكرية وطروحاته العملية؟ هذه المعضلة قديمة جدًا فقد إختلف فيها فلاسفة اليونان واستمر هذا الاختلاف حتى عصرنا الحاضر. فهناك مذهبان رئيسيان هما المذهب العقلي والمذهب التجريبي.
المذهب العقلي:
رأى فلاسفة المنطق والبرهان العقلي ومنهم أرسطو والكثير من الدينيين أنّ العقل بما وهبه الله من معارف ضرورية بديهية (مثل: الكلّ أكبر من الجزء، والنقيضان لا يجتمعان)، يستطيع بالقياس المنطقي وغيره أن يبرهن على معارف جديدة (القياس المنطقي مثل: محمد إسان، وكلّ انسان ناطق، إذن محمد ناطق). وكان عالم الرياضيات المشهور ديكارت (1596-1650) من المؤمنين بالمذهب العقلي واشتهر عنه الكوجيتو (أنا أفكر إذن أنا موجود) أي أنه آمن بالبرهان العقلي سبيلًا للمعرفة واثبات الخالق. ومن المؤمنين بالمذهب العقلي ايمانويل كانت (1724-1804)، رغم أنّه أعتبر أنّ العقل البشري محدودٌ بعدة أطر منها الزمان والمكان التي تمرّ من خلالها المعرفة البشرية.
المذهب التجريبي:
على النقيض من ديكارت وايمانه بالبرهان العقلي في كسب المعرفة، بادر الكثير من الفلاسفة الغربيين الى تبني المذهب الحسي التجريبي كمصدرٍ وحيدٍ للمعرفة فما لا يمكن اثباته بالحسّ والتجربة لا يمكن الايمان به. وكان منهم: فرانسيس بيكون (1561-1626) وجون لوك (1632-1704) ثم تبعهم ديفيد هيوم (1711-1776). وهكذا ولدت النظرة المادية للكون التي لا تؤمن بالمعارف الدينية الغيبية التي كانت الكنيسة تتبناها، لأنها لا يمكن اثباتها بالحس والتجربة.
المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية:
تطورت العلوم الطبيعية من خلال تكرار التجارب في المختبرات على السوائل والمعادن وغيرها وعبر رصد حركات الأجرام السماوية باستخدام التلسكوبات. ثم تم معالجة هذه النتائج بقوانين رياضية وبناء على بديهيات عقلية لاستنتاج قوانين ونظريات كلية.
يتكون المنهج التجريبي من أربع مراحل:
- الملاحظة والتجربة مع التكرار والدقة في المراصد والمختبرات،
- افتراض علاقة او معادلة تحقق نتائج التجربة وتثبتها علميا،
- اثبات الفرضية عبر تطبيقها في ظروفٍ أخرى او على موادٍ أخرى لتصبح قانونا او نظرية،
- تطبيق النظرية في الحياة العملية.
تتميز نتائج المنهج التجريبي بأنها:
- موضوعيةُ مستقلة قابلة للتكرار ولا تعتمد على صاحب التجربة،
- كميةٌ يمكن قياس نتائجها والتأكد من دقتها وتفسيرها،
- يمكن الى شبه يقين بنتائج التجارب والقوانين والنظريات،
- عالمية التطبيق فلا تختص بجغرافيا او تاريخ معين،
- حتمية النتيجة عند توفر الأسباب المؤدية لها.
معضلة العلوم الإنسانية ومنهج البحث العلمي
ما هو المنهج العلمي المناسب لدراسة العلوم الإنسانية: هل ينطبق عليها المنهج التجريبي الموضوعي كما انطبق على العلوم الطبيعية؟
المنهج التجريبي الموضوعي:
يعتمد على المنهج التجريبي في دراسة الظواهر الاجتماعية بغض النظر عن دوافعها الداخلية (تحديد عينات مجتمعية وارسال استبيانات موثقة ودراسة النتائج احصائيا في محاولة اثبات فرضياتٍ معينةٍ لتصل الى مستوى النظريات ثم تطبيقها لتنتهي الى نظرياتٍ اجتماعيةٍ عامة). هذا المنهج يفترض مايلي:
- الظواهر الإنسانية مستقلة عن الإنسان وهي كمية يمكن قياسها موضوعيا ولا يحتاج فهمها الى دراسة نفسية الفاعل او دوافعه الذاتية، مما يجعل النتائج موضوعية لا تعتمد على شخصية الباحث او رأيه الذاتي،
- عدم وجود التحيز في اختيار العينات المدروسة، بل إنّ العينة المدروسة تعكس كامل الواقع الاجتماعي،
- دقّة الأستبيان في التعبير عن رأي العينة المدروسة، من ناحية شمولية الاسئلة المطروحة وصدق الأفراد في العينة المستهدفة في الإجابة عليها.
هذا المنهج يغفل الدوافع النفسية الداخلية، ويفترض صدق العينات ودقة الأجوبة وكلها أمورٌ لا يمكن الوثوق بها. لذلك إتبّع بعض المفكرين منهجا آخر وهو المنهج الذاتي.
المنهج الذاتي:
يرى هذا الفريق أنّ العلوم الإنسانية ليست خارجية مستقلة عن الإنسان، بل هي تعتمد على دوافعه النفسية الداخلية، فكل فعلٍ انساني لا يمكن قياسه كميًا وانما يمكن فهمه ووصفه في محاولة الوصول الى نظريةٍ اجتمعية صحيحة. المشكلة أنّ هذا المنهج يفتقد الموضوعية، فكل باحثٍ سيسخدم تفكيره وشعوره الخاص به الى فهم ذاتي للظاهرة واستنتاج أسبابها، لذا فالنتيجة ستعتمد على الباحث وستختلف من باحثٍ الى آخر وستفتقد الموضوعية.
؛؛هكذا يتبين حجم التبياين بين المنهج التجريبي والمنهج الذاتي، وسلبيات كلّ منهما، مما ينعكس سلبًا على دقة النظريات الاجتماعية ويوضح سبب تأخرها عن العلوم الطبيعية. ومع ذلك أعتمد الغربيون على بعض النظريات الاجتماعية أعتبروها صحيحة رغم فشلها في بعض الجوانب، ولا ندري كيف يكون ذلك مع عدم مواءمة المنهج التجريبي وعدم موضوعية المنهج الذاتي للعلوم الاجتماعية؛؛
الفلسفة المادية والحداثة الغربية
بدأت النظرة المادية للكون تتكامل تدريجيا لدى الإنسان الغربي في ظل تغييب الكنيسة عن الحياة العامة وقصر دورها على الممارسات العبادية. فكان من الضروري طرح بديل عن مقولات الكنيسة الدينية والنفسية والاجتماعية وهذا ما انبرى له عدة فلاسفة ومفكرين في العلوم الإنسانية والاجتماعية. لكنّ المشكلة الرئيسية هو المنهج العلمي الذي أتبعه هؤلاء الفلاسفة و المفكرون و ما هو معيار الحقيقة التي يسعى البشر للوصول اليها.
بعض النظريات الاجتماعية: هذه بعض النظريات الاجتماعية على سبيل المثال لا الحصر:
- وضع جون لوك (1632- 1704) فلسفته عن حقوق الإنسان الطبيعية التي وهبها الله إياها، وتشمل ما يلي:
- خلق الله البشر سواسيةً في حقوق الحياة والحرية والملكية بغض النظر عن اللون والجنس والدين،
- هذه الحقوق هي لله وقد وهبها البشر فلهم الحق في الأستفادة منها ولكن لا يحق لهم مطلقًا التنازل عنها، كما أن الحرية لا تعني أن نفعل ما نريد، بل هي هبة الخالق فلا يجوز الإضرار بحقوق الآخرين الطبيعية.
- وضع جان جاك روسو (1712-1778) نظرية العقد الاجتماعي لتنظيم علاقة الفرد بالمجتمع وحماية حقوقه.
- كتب آدم سميث (1723- 1790) عن دور القيم الأخلاقية في الحياة (1759)،
- ثم كتب آدم سميث (1776) كتابه المشهور (ثروة الأمم) الذي شرح فيه النظرية الرأسمالية على أسس الحرية وحقوق الملكية التي نادى بها جون لوك فللإنسان حرية التملك والاستثمار والتصرف، وهكذا أطلق آدم سميث عنان الفردية الغربية لتتملك وتستثمر وتفجر طاقاتها وتؤسس أعمالها،
- دفع زخم النجاح العلمي في الفيزياء (الذي حققه نيوتن) أوغست كونت (1798-1857) الى تأسيس علم الاجتماع وأسماه في البداية فيزياء المجتمع ظنا منه أنه سيكتشف قوانين تحكم المجتمع كما أكتشف نيوتن قانون الجاذبية. الجدير بالذكر ان كونت كان مؤسس الفلسفة الوضعية (ترى هذه الفلسفة أن البشرية تطوّرت فكريًا عبر الزمن حتى وصلت في طورها الثالث والأخير الى تبني المنهج التجريبي والذي اثبت نجاحه في العلوم الطبيعية بديلا عن الخرافات والغيبيات، وبناء عليه فالوسيلة التي يجب استخدامها لفهم العلوم الانسانية والاجتماعية هي المنهج التجريبي)،
- تبعه بعد ذلك إميل دوركهايم (1858-1917) الذي درس الدين كظاهرة اجتماعية في القبائل البدائية، وكتب دراسة خاصة عن الانتحار،
- ولدت الثورة الصناعية الأوربية نتيجة هذا الزخم العلمي التكنولوجي الصناعي، وأصبحت أوروبا القوة العالمية التي تبحث عن المواد الخام والأسواق في شرق الأرض وغربها ومعها بدأ الإشعاع الحضاري الأوربي يكتسح العالم رويدًا رويدًا. ومع نشوء المصانع وتوفر الفرص الوظيفية، دفع وهج الوظيفة والراتب المضمون في المصانع أبناء وبنات الأرياف والمزارعين الى مغادرة أريافهم والسكن في المدن قرب المصانع، واشتغلوا الساعات الطويلة في ظل ظروف صعبة وبرواتب متدنية. وهكذا ضعفت الرقابة الأسرية والمجتمعية وكسر بعض العاملين القيم المحافظة وانتشرت بعض التصرفات الغريبة فأحس البعض بالغربة والضياع وبرزت ظاهرة الانتحار،
- في هذه الأجواء الجشعة التي مارسها أصحاب المصانع مع طبقة العمال، إنتصر كارل ماركس للطبقة العمالية في نظريته الماركسية التي تبنت فكرة الصراع بين طبقة العمال (البروليتاريا) والطبقة البورجوازية التي تملك وسائل الإنتاج وكان من أنصاره انجلز. وبرزت مفاهيم الاغتراب [كارل ماركس (alienation) وفكرة دوركهايم (anomie) وفكرة ماكس فيبر (disenchantment)] وكلها تعكس مدى التغير الكبير والمعاناة التي تعرضت لها الطبقة العاملة سواء نتيجة جشع الطبقة البورجوازية، او نتيجة بعدها عن مجتمع الريف المحافظ وانتقالها الى مجتمع المدينة الصناعي حيث تزعزعت القيم الاجتماعية.
بعض النظريات النفسية
لقد وضعت الكنيسة إطارًا فكريًا للعالم، حيث كانت تؤمن بالخالق والغيب والمذهب العقلي كسبيلٍ للمعرفة، وكانت ترى أنّ الإنسان خُلِق مميزًا عن باقي الكائنات. أمّا المفكرون الماديون الغربيون فقد طعنوا في النظرة الدينية نتيجة التطرف الحاد ضد الكنيسة ونتيجة عدم ايمانهم بالمذهب العقلي. فبرز نتيجة ذلك فراغٌ فكري كبير (فمن خلق الإنسان؟ وكيف جاء الى هذا العالم؟ وما هي مكانته بالنسبة الى بقية المخلوقات؟). لذا انبرى العلماء الغربيون بناءً على المنهج التجريبي وأحيانًا بناءً على المنهج الذاتي الى جمع الكثير من الشواهد العلمية الغير قطعية أحيانا (الخلفية المعرفية للمفكر تسبب تحيزا معرفيًا قد يكون لا شعوريًا) ووضعوا بعض النظريات التي تكمل اطارهم الفكري عن العالم. ومنها:
- النظرية التطورية لتشارلز داروين (1809-1882): ترى أنّ الإنسان تطوّر من أسلافه الحيوانات عبر امتداد الزمن نتيجة طفرات جينية، حيث تنتخب الطبيعة الكائنات التي تستطيع التكيف مع التغيرات البيئية والتي تنجح في منافسة غيرها للبقاء على قيد الحياة (الانتخاب الطبيعي وإرادة البقاء). لذا فإنّ نفسية الإنسان تشبه نفسية الحيوان مع بعض التغييرات الناتجة عن حركة التطور ذاتها. وهكذا صبغت هذه النظرية الكثير من النظريات الإنسانية والإجتماعية التي تلتها وحتى وقتنا الحاضر،
- النظرية النفسية لسيغموند فرويد (1856-1939) ترى أنّ الانسان يتحرّك استجابةً لغريزته الجنسية التي تتجلى عبر مراحل حياته المختلفة، فليس للقيم الأخلاقية موقعٌ من الإعراب،
- لقد تحوّلت النظرة الى الإنسان نتيجة نظريات داروين وفرويد من كائنٍ متميزٍ الى حيوانٍ تطوّر تاريخيًا، تحكمه الغريزة الجنسية فان كبتها ظهرت في اضطراباتٍ نفسيةٍ خلال مراحل حياته،
- دفع هذا الخواء الروحي وعدم وجود اطار فكري كامل، بعض الفلاسفة الغربيين لتبين فلسفة وجودية كما سنوضحه هنا، بعضها ايماني حاول أن يبرهن على صحة الدين وبعضها ملحدٌ حاول أن يصنع معنًى للحياة بعيدًا عن الدين.
النفس في الفلسفة الغربية الوجودية
ترى الفلسفة الوجودية أنّ كلّ انسانٍ مسؤولٌ عن إيجاد معنًى لحياته، وأن يعيش حياته بشغفٍ وأصالةٍ، لذا فالفلسفة الوجودية لا تهتم بالوجود الكوني بل بالإنسان نفسه وتأملاته في باطنه ونوازعه وأهدافه. وانقسم الفلاسفة الوجوديون الى مؤمنين وملحدين.
الوجودية الايمانية:
رائدها الفيلسوف الدنماركي سورين كير كيغارد (كيغورد) ( 1813-1855): ففي عصر العلم والعقلانية الغربية ومهاجمة الكنيسة، جاء سورين ليثبت الايمان بطريقةٍ أخرى غير العقل النظري، حيث رأى أن الايمان مبني على قواعد أخرى في الانسان وهي الإحساس والعاطفة (هوية أنفسية للإيمان من داخل الذات)، فهو لا يثبت الإيمان بالعقل النظري، بل يعيد تشييد الايمان على هويةٍ داخليةٍ قائمةٍ على التأمل الباطني الذي يحقق الصعود الإنساني. هذا الايمان كما يرى كيغارد ينتج حماسًا يدفع المرء لتقديم تضحيةٍ رهيبةٍ لأجله.
تبنى سورين فكرة الأنساق الثلاثة التي تميز أعمال البشر:
- النسق الحسي: يهتم بالإحساس والشعور باللذة ويشمل كل من يعشق الحالة الحالية،
- النسق الأخلاقي: وهو المرحلة الثانية ويهتم بالقيم والمبادئ وليس فقط اللذة. فهو قد يضحي او يلتزم بمعايير عالية لأنها تلامس قلبه،
- النسق الإيماني الديني: وهو الشغف والحماس لتبني موقف ايماني.
الوجودية الإلحادية:
من روادها مارتن هيدجر ونيتشه وسارتر. وسنستعرض فيما يلي بعض أفكار نيتشه وسارتر. ملاحظة: حين نعرض أفكار هؤلاء الفلاسفة لا نتبنى آراءهم، بل الهدف هو كشف حالة الجوع الإنساني الفطري لتبني اطار فكري عام، فاذا لم يكن الاطار الفكري موجودًا، شعر الإنسان بالضياع وحاول أن يملأ الفراغ بنظريات اجتماعية، قد لا تكون صحيحة او ليست دقيقة على أقل تقدير.
الفيلسوف فريدريك نيشه (1844-1900):
إعتبر نيتشه إرادة القوة غريزة أساسية لدى كلّ إنسان وهي توجّه حياته، وتعبر عن وجودها بصور مختلفة، فالفنان يوجه إرادة القوة فيبدع في فنونه، ورجل الأعمال يوده إرادة القوة فينمي ثرواته. هكذا يبدي نيتشه اعجابه الشديد بإرادة القوة فكان يراها إبداعية وجميلة بعكس حالة الضعف التي لاتصنع الابداع. ولعله ذهب الى أن إرادة القوة سنةً كونية، فالسمكة الكبيرة تأكل السمكة الصغيرة. لذلك تبنى نيتشه فكرة السوبرمان وهو ذلك الرجل القوي الصلب الغني والمتسلط، فكان يرى القوة مقياسًا للجمال وهدفًا يستحق العيش والموت من أجله. وقد عرض أفكاره في كتب، منها:
كتاب (جينالوجيا الأخلاق): قسّم نيتشه الأخلاق الى أخلاق السادة و أخلاق العبيد.
- يفسر نيتشه الأخلاق ويرجع أصلها الى إرادة القوة بكل أشكالها. فبينما، يفرض الأقوياء قيمهم على الآخرين مباشرة دون خوفٍ او تردد، يحاول الضعفاء تحقيق أهدافهم بطرق ملتوية وذلك بأن يجعلوا الأقوياء يشعرون بالذنب. لذلك يرى نيتشه القوة في أخلاق السادة (أي أصحاب القوة) مقياسًا للصحة، بينما يرى التسامح والرأفة علامة ضعفٍ وهي من أخلاق العبيد (من يفتقد القوة)،
- أخلاق السادة: هو النظام الأصلي للأخلاق الذي يبشر به: فالجيد هو أن تحظى بما يجلب السعادة كالقوة والغنى والصحة، والسيء أن تكون مثل العبيد الذي يحكمهم الأقوياء أصحاب الثروة فهم فقراء مرضى يثيرون الشفقة،
- أخلاق العبيد: هو ما يتبناه العبيد كأخلاقٍ لتحقيق أهدافهم ويدعون اليه مثل الشفقة والرحمة والمساواة وغيرها، فما هو جيد في أخلاق السادة سيءٌ بالنسبة لهم وما هو سيءٌ في أخلاق السادة جيدٌ بالنسبة لهم.
؛؛لذا فنيتشه يرى أن الدافع الرئيسي لتصرفات الفرد هو إرادة القوة بصورها المختلفة، بينما يرى فرويد أنّه الغريزة الجنسية، وترى الرأسمالية أنّه تحقيق الثروة والأرباح أوّلًا. هكذا، فالإنسان حسب هذه النظريات ماديٌ، دافعه الأساسي هو إرادة القوة او الغريزة او الثروة على أحسن الأحوال؛؛
الفيلسوف جان بول سارتر (1905-1979):
عاش إبّان الاحتلال الألماني لفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية وكان يرفض التكريم فقد رفض إستلام جائزة نوبل للأدب. نادى بأن حياة الإنسان مشروعٌ يبدأ في بنائه منذ ولادته وحتى وفاته، وهو حرٌّ في أن يختار مشروع حياته ويخترع شخصيته فالإنسان مجموع مشروعاته. وهو يصنع مشروع حياته ووجوده الحقيقي دون أي اعتبارٍ للقيم والقيود الاجتماعية، فعليه أن يفكر بكلّ حريةٍ خارج القيم والهياكل الاجتماعية ليقرّر ماذا يريد أن يكون ليصبح مشروعا له قيمته المميزة.
لذا فالإنسان مسؤولٌ فقط أمام نفسه فهو من يختار أخلاقه ويصنعها فهو ليس مسؤولًا أمام المجتمع، وكأن المجتمع لا يصوغ الإنسان ولا يؤثر فيه. هذه الفردانية التي نادى بها سارتر أعطت الإنسان كامل الحرية المطلقة لتعريف الخير والشر وبذلك أنكر كل القيم الأخلاقية التي تعارف عليها المجتمع. كتب عدة كتب منها:
الوجودية كمذهب انساني:
- بينما تبقى الأشياء كما هي دون تغيير، فالصخرة تبقى صخرةً والماء يبقى ماءً وهكذا، يختلف الإنسان عن ذلك لأنه يصنع قيمته وجوهره الحقيقي لأنه كائن حرُّ ومستقلٌ وواعي.
- الماهية تسبق الوجود في الأشياء ماعدا الإنسان. فمثلًا، من الضروري أن يعرف صاحب المصنع الهدف من صناعة الكرسي مثلًا، ويعرف أيضًا صفات الكرسي قبل أن يصنعه، ثم يصنع الكرسي. فماهية الكرسي سبقت صناعته ووجوده، أمّا الإنسان فقط كما يرى سارتر فوجوده يسبق جوهره، فهو يوجد ثم يكون له كامل الحرية ليصنع ذاته وجوهره الذي يتغير مع مرّ السنين طيلة عمره.
الدينيون يرون أيضًا أنّ صانع الكرسي حين قرّر صناعة الكرسي وعرف صفاته، أصبح للكرسي وجودٌ ذهني في تفكير صانع الكرسي، ثم صنع الكرسي فأصبح له وجودٌ مادي في الطبيعة، فالوجود الذهني سبق الوجود المادي. لذلك يرى الدينيون أنّ الإنسان لايمكن أن يأتي الى هذا الوجود من دون خالقٍ خلقه لغايةٍ واضحةٍ وبصفاتٍ محددة.
ولا مشكلة لدى الدينيين أنّ يغيّر الإنسان نفسه ويصنع مشروعه الذي سيتغير طيلة حياته، فالخالق قد زوّده بالطاقات التي تمكنه من ذلك وأعطاه إرادة الاختيار والقدرة على صنع القرار، فهو ليس كالكرسي الجماد الذي سيبقى على حالة صنعته الأولى.
نتائج الفلسفة الوجودية الملحدة:
- العبثية: الملحد لا يعترف بالخالق فهو لايجد معنًى في العالم غير المعنى الذي يسبغه هو على العالم، وهذا يتضمن انعدام المعنى وانعدام الأخلاقية. فمن يعيش حياة العبثية يرفض الحياة التي تبحث عن معنًى محددٍ لوجود البشر، لأنه لا يوجد شيء ليبحث عنه حسب الفلسفة الوجودية التي يؤمن بها. وهذا على النقيض من مفهوم الأديان، التي تؤكد على وجود الغاية والأخلاق.
- القلق الوجودي: يشعر الملحد بأنه قد رمي به في مكانٍ ما، في زمانٍ ما، دون أي اختيار منه وبلا غاية، فكأنه موجود على حافة جبل فهو بقراره قد يقفز الى المجهول.
الفلسفة التحررية
أحد روادها هو روبرت نوزيك (1938-2002):
- تركت الوجودية أثرَا كبيرًا في ذهن بعض الغربيين، فالحرية في صناعة الذات دون أي تقيد بالقيم والأخلاق التي نادت بها الوجودية الملحدة تناغمت مع نظرية تطوّر الإنسان من أصله الحيواني، ومخاطر كبت غريزته الجنسية كما أشار اليه فرويد.
- في خضم الخلفية التحررية، تبنّى روبرت نوزيك حرية الفرد المطلقة شريطة أن لايعتدي على حقوق الآخرين. فللإنسان مطلق التصرف في نفسه فهو الذي يملكها، وليس للأخرين حقٌّ فيها. بناءً على هذه التحررية الشخصية لايحقّ للآخرين سنّ قوانين تسلب الفرد حريته، مثل: القوانين الأبوية كقانون ربط حزام السلامة او فرض التأمين الصحي، او القوانين الأخلاقية لدعم القيم.
- تبنى نوزويك التحررية الاقتصادية أيضًا، أي إعطاء السوق كامل الحرية دون أي تدخل من خارج السوق. هكذا رأى فريدريك هايك (1899-1992) في كتابه (الطريق الى العبودية) حيث دعى الى حرية السوق وحذّر من التخطيط المركزي للاقتصاد. وتبعه ميلتون فريدمان (1912-2006) فيما سمي بمدرسة شيكاغو. وسيرد الحديث عنها لاحقًا. هكذا تتداخل الثقافة الاجتماعية والاقتصادية وهي جميعًا نظريات اجتماعية تفتقد مصداقية الإثبات فهي ليست تجريبية كمية يمكن قياسها بالمنهج التجريبي البحت.
- بدأت الحرية كهدف سامي يرفع القيود عن تفكير الانسان وشغفه، لكنها تحولّت تدريجيا الى تحرّرية شخصية مطلقة وتحررية اقتصادية تنادي بحرية السوق شبه الكاملة.
- اجتمع الفراغ الفكري والخواء الروحي مع مفهوم التحررية، فنتج الاغراق الغريزي الذي لا يشبع، فقد جرّب بعض الأفراد في الغرب العلاقات الشاذة وتعاطى كلّ جديد عسى أن يهدأ هذا القلق الوجودي والاضطراب النفسي دون جدوى، وسنرى المزيد من ذلك لأنّه كماء البحر كلما شربوا منه ازدادوا عطشا.
(هذا ليس تعميمًا على المجتمع الغربي فهناك الكثير من الغربيين من يعيش المحافظة على قيمه الأخلاقية ويقف على النقيض من هذه الانحرافات الشاذة، ويتبنى نظريات تناقض هذه النظريات، لكنّ مع الأسف تعاني من عزوفٍ شديد يكشفه تشريع الانحدار القيمي في السنوات الأخيرة).
نكتفي بهذا في الجزء الثاني ولنا عودة في “الجزء الثالث” الى المدارس الأخلاقية الغربية. والحمد لله ربّ العالمين.