إنّ تدبير الحياة أمرٌ أساسيٌ في حياة البشر، ويتم عبر اختيار العمل والطعام واللباس والمدرسة والمسكن والسيارة وحضور المناسبات الاجتماعية والسفر الى الخارج، وهكذا.
ويتحقّق هذا عبر تسخير الفرد او الأسرة لميزانيةٍ ماليةٍ تلبّي الاختيارات السابقة وتتناسب مع الملاءة المالية والمكانة الاجتماعية. لذا فإنّ تدبير الحياة يعتمد على الظروف الاقتصادية والاجتماعية، وهي ثقافةٌ في غاية الأهمية تؤثّر في صميم حياة الأفراد والمجتمعات.
إنّ أيّ تغيرٍ في هذه الثقافة يجب أن يكون موضع تفكيرٍ ونقاشٍ من النواحي التالية:
- ما هي مظاهر التغيّر التي طرأت على نمط الحياة؟
- ما سرّ هذا التغيّر؟
- هل هذا التغيّر إيجابي؟
- ما هو نمط الحياة المناسب في وقتنا الحاضر؟
هل تغيّرت ثقافة تدبير الحياة في مجتمعنا؟
الثقافة كائنٌ حيٌ يعيش ويتغير، فهي تختلف من جيلٍ الى آخر حسب الظروف الزمانية والمكانية والمادية. دعونا ننظر بالتفصيل الى ثقافة تدبير الحياة في مجتمعنا، هل تغيّرت؟ نعم بالتأكيد، فبينما إكتفى جيل الآباء بالضروريات، يعيش جيل الأبناء حياةً تحفل بالكماليات. هذا التغيّر الواضح في حياة المجتمع الذي عاشه الآباء، قد لا يشعر به الأبناء والبنات لأنّهم ولدوا خلال الخمسين عامًا الماضية، فدعونا نضرب أمثلةً توضح هذا التغيّر:
- بينما كانت الأسرة سابقًا تكتفي بجهاز تلفزيونٍ واحد وهاتفٍ ثابتٍ واحد وثلاجةٍ واحدةٍ، كثرت الأجهزة التي يستخدمها الأفراد في السنوات الأخيرة، فقد يمتلك الفرد عدة هواتفٍ محمولة، وقد يحوي المنزل عدة أجهزةٍ تليفزيونية وعدة ثلاجاتٍ وهكذا،
- بينما كانت الأسرة سابقًا تكتفي في وجبتها الرئيسية بطبقٍ واحد، أصبحت بعض الموائد الآن تزخر بما قد يبلغ عشرة أطباقٍ من الأطعمةِ الرئيسية والمقبّلات والحلويات،
- بينما كانت الأسرة سابقًا تشتري ملابسها في المناسبات والأعياد وتلبسها لشهورٍ او سنوات، أصبحت موديلات الأزياء تتغيّر سريعًا وانتشرت المغريات للماركات العالمية،
- بينما كانت المجالس المنزلية تعجّ بالأقارب والأحبّة حيث يتم تناول الشاي والقهوة المنزلية، إنتشرت أخيرًا ثقافة اللقاء في المقاهي والمباهاة في ارتيادها وحمل أكوابها،
- بينما كانت الأسرة سابقًا تستخدم الأواني المنزلية شهورًا وسنينًا، انتشرت أخيرًا ثقافة أواني البلاستيك وغيرها حيث الاستخدام لمرةٍ واحدة.
أسباب التغيّر في ثقافة تدبير الحياة:
لا يمكن لنمط المعيشة أن يبقى ثابتًا طيلة الخمسين عامٍ الماضية، خاصّةً في ظل تغيّر الظروف الاقتصادية والثقافية التي عاشها المجتمع، وهي كما يلي:
- نتيجة ارتفاع أسعار النفط في السبعينات من القرن الماضي، إرتفعت المداخيل النفطية وتحسّن مستوى الأسر المعيشي،
- نتيجة الانفتاح الثقافي (العولمة الثقافية) بسبب السفر والأفلام والأنترنت وأخيرًا وسائل التواصل الاجتماعي، إنتشرت ثقافة الاستهلاك الغربية سواء في الأطعمة السريعة او الأزياء الاستهلاكية وغيرهم،
- نتيجة الانفتاح الاقتصادي (العولمة الاقتصادية): انفتحت السوق المحلية على الأسواق العالمية، وانتشرت الكثير من الماركات العالمية في الطعام والشراب واللباس وغيرهم،
- انتشرت في العقدين الأخيرين الأسواق الحديثة (المولات الترفيهية والتسويقية)، ومراكز التسوق المتكاملة التي توفر ما لذّ وطاب في مكانٍ واحدٍ وفي متناول اليد،
- يبدو أن نبض الحياة المادية السريع في الآونة الأخيرة دفع الكثيرين الى تنفيس هذا الضغط عبر التسوّق والاستهلاك بحثًا عن تحقيق الراحة النفسية واللذة المعنوية ولو كان عبر اقتناء كمالياتٍ لا ضرورة لها،
- شاعت ثقافة القروض والشراء بالتقسيط والبطاقات الائتمانية،
- انتشرت الدعاية عبر المشاهير ووسائل التواصل.
هل هذا التغيّر في نمط الحياة إيجابي؟
من الضروري أن نوضّح نقاطًا في غاية الأهمية، وهي ما يلي:
- الكرم خلقٌ عظيمٌ يتميّز به مجتمعنا الكريم، لذا يجب أن نحافظ عليه ما أمكن وفي حدود الإمكانيات المتاحة، فقد عاش الآباء سجية الكرم وتربّى عليها الأبناء وستنشأ عليها الأجيال القادمة إن شاء الله، لذا فإنّ نقاش الضروريات والكماليات ليس دعوةً الى البخل والتقتير بل إلى مزيدٍ من الكرم والتدبير،
- يجب أن نكون منصفين فنذكر إيجابيات وسلبيات التغيّر الحديث في نمط الحياة.
إيجابيات التغيّر:
- سهولة التكيّف مع بقية العالم إذ يبدو أنّ الجميع يسير نحو نمطٍ حياتي عالمي مشترك،
- التلذذ بزينة الحياة والطيبات من الرزق حقٌ مشروعٌ،
- تنوّع ووفرة العروض من الطعام واللباس في المراكز التسويقية يؤدي الى المنافسة وانخفاض الأسعار،
- لا يمكن لنمط الحياة القديم أن يتلاءم مع نبض الأعمال السريع حاليًا، فلا وقت لمجالس الشاي والقهوة الطويلة وطهي الطعام المنزلي وغيره.
سلبيات التغيّر:
من الضروري أن ننظر الى المجتمع الغربي الذي عاش هذا النمط لسنواتٍ طويلة، عسى أن تتضح لنا الصورة. فماذا حدث حين بلغ هذا التغير في نمط الحياة مداه الأقصى، هل تحققت له الراحة النفسية؟ وماذا حدث لوفرته المالية؟
سراب السعادة النفسية:
يورد المؤلف تيم كاسر (في كتابه الثمن الباهظ للمادية، ترجمة طارق عسيلي) ما يلي:
- يتعرض الفرد الغربي الى وابلٍ غزيرٍ من الدعاية التسويقية، فالتنوع والدعاية والاستهلاك ليس لسواد عيون الفرد بل لزيادة الإنتاج وتعظيم أرباح الشركات في النظام الرأسمالي. لذا يلعب التلفزيون ووسائل التواصل دورًا بارزًا في عملية الدعاية والتسويق حتى يتصوّر الفرد ان سعادته ورفاهيته لا تتحقق الا بتملك المنتج الفلاني فيظل يلهث حتى يتملكه ثم يدخل في دوامةٍ أخرى لمنتجات اخرى وهكذا يعيش الفرد في دوامة الماديات لأنه يحتاج الى المال لشراء المنتج وإذا بالمنتج لا يلبي الرفاهية المطلوبة، وهكذا دواليك.
- إنّ الاستهلاك المفرط يؤدي الى فقدان السعادة، حيث تضع الحياة المادية ضغوطًا متزايدة على النفس الإنسانية، فبدلًا من البساطة السابقة، أصبحت هناك المزيد من الرغبات لاقتناء المزيد من الكماليات، وهي في تزايدٍ جنوني. فعلى الفرد أن يعمل باجتهادٍ لامتلاك هذه السلع المادية والحفاظ عليها وتحديثها مما يسبب عبئًا وضغطًا نفسيًا أكبر من قبل، هذا يدفع الى مزيدٍ من الرغبة في اقتناء سلعٍ جديدةٍ بحثًا عن سراب السعادة، فتزداد الأمور سوءًا، وهكذا يتضاعف الاستهلاك على حساب السعادة الحقيقية،
- إنّ وهم السعادة في اقتناء السلع والمغريات المادية صرف الأفراد عن المعنى الحقيقي للسعادة والتي تتحقق بالنظر الى داخل النفس ومعنى الحياة الحقيقي وغايتها الأسمى،
مستنقع الديون المالية:
إنّ أجلى مثالٍ للثقافة الاستهلاكية هو في الولايات المتحدة الأمريكية، فما هي حال العائلات الأمريكية اقتصاديًا؟
- أصدر مركز (Center for Microeconomic Data) تقرير [HOUSEHOLD DEBT AND CREDIT REPORT (Q3 2022)]حيث بلغت ديون العائلات الأمريكية أكثر من ستة عشر تريليون دولار في الربع الثالث عام 2022 وهي في تزايدٍ مستمر، انظر: https://www.newyorkfed.org/microeconomics/hhdc
- تبلغ نسبة الأمريكيين الذين يعيشون على الراتب الشهري حوالي 63%، أي انّ قسمًا كبيرًا منهم قد لا يستطيع سداد فواتيره الشهرية إن لم يستلم راتبه الشهري، انظر: https://www.cnbc.com/2022/10/24/more-americans-live-paycheck-to-paycheck-as-inflation-outpaces-income.html
- في ظل الدورات الاقتصادية التي تصيب النظام الرأسمالي، كما حدث إبّان أزمة الرهن العقاري عام 2008 وإبّان وباء الكورونا عام 2020، تعرّض الأفراد والعائلات الأمريكية الى هزةٍ اقتصادية أثّرت سلبًا على نمط حياتهم ووضعهم المعيشي وراحتهم النفسية،
- إنّ أكبر مستفيدٍ من هذا الوضع الاقتصادي هو البنوك والشركات الكبرى التي تضخّمت ودائعها وأرباحها المالية على حساب الأفراد والعائلات.
ما هو نمط الحياة المناسب في عصرنا الحاضر؟
لا يمكن أن نعود الى الوراء كما كان الآباء والأجداد، ولا يمكن أن نسير في خطى العائلات الغربية التي غرقت في الديون ولم تحقّق سعادتها المنشودة.
؛؛لذا فإنّ على العائلات في مجتمعنا الكريم أن يناقشوا هذا الموضوع المهم مع أبنائهم وبناتهم بكلّ جدية بحثًا عن أنسب نمطٍ يحقّق لنا السعادة المنشودة دون أن ننزلق في متاهة الديون والرهون التي قد تشكّل عبئًا اقتصاديًا وارهاقًا نفسيًا؛؛
وأقترح أن يراعي النقاش الضوابط التالية:
- إنّ التلذذ بزينة الحياة الدنيا والطيبات من الرزق أمرُ مشروعٌ دون الإسراف فيها،
- تتحقّق قمة السعادة النفسية في صلة الأرحام واحترام القيم الإنسانية،
- يجب علينا أن نحافظ على سجية الكرم، كلٌّ حسب سعته وضمن امكانياته المتاحة،
- لا تتحقّق السعادة باللهث وراء الاستهلاك المفرط في الكماليات،
- يجب تجنّب الغرق في الديون والقروض البنكية.
والحمد لله ربّ العالمين.
عظيم جدًا هذا المقال يختصر الكثير الكثير من الدروس و العبر و يعطي نظره ثاقبه لبناء الأسر و إدارتها
جميل جدا يا دكتور
موضوع شيق ويمس حياة الفرد والمجتمع بقرب، الوسطيه جميله لا تخلف ولا سرعه ام لا شره في ملذات ولا حرمان – خذ من الدنيا ما يكفيك و تأكد قدر المستطاع أن يكون زادً لك في الأخره
مقال رائع ويعزز الضرورة لتوعية جيل الشباب على مستوى الاسرة لعدم الانسياق وراء المظاهر الخداعة و السقوط في مستنقع الماديات الغربية ووحل الديون.
مقال مفيد وجيد!
انا فقط استغربت من ادراج الطبخ بالمنزل كمضيعة للوقت لاتناسب نمط الحياة الحالي. واختلف مع الدكتور في هذه النقطة. بل بالعكس ثقافة الطبخ بالمنزل يجب ان ترسّخ في نفوس الجيل الحالي.
وتوصيات الخليفة في نهاية المقال بالجلوس مع الابناء والبنات الكبار ومناقشة الموضوع فكرة ممتازة 👍🏻