الموت هو إلغاء للحياة، ومن يحيا من الكائنات الحية لابد وأن يموت. والخلق جميعا بما فيهم أنا وأنت يدرك أن قضية الموت والحياة في هذه الدنيا لا تنطبق إلا على الكائنات الحية وأن الجمادات غير معنية تماما بهذا الموضوع. فكيف لبئر نفط أن يحيا ويموت! وماذا لو قلت لك أن بئر النفط هذا يحيا ثانية بعد أن يموت. ويستطيع أيضا أن يحيا ويموت عدة مرات. لا أدري بماذا تفكر؟ لكنني إذا تجرأت وقلت لك انه (أي بئر النفط) ̓يغسّل في كل مرة يموت فيها، ربما أعلم الآن ماذا يدور في خلدك!
وربما لن تتردد كثيرا من النيل مني وتوجيه لكمة أو لكمتين أو أكثر تجاهي إذا أخبرتك أن بئر النفط ̓تعرض أعماله وُتقدر تركته بعد أن يموت.
الحمد لله أنني بمنأى عنك أيها القارئ الكريم وإلا أصبحت في خبر كان. عزيزي أيها القارئ الكريم…… هدئ من روعك، ولا تتهمني بما ليس فيّ من فنون وجنون أو خروج عن المعقول. أعلم أن صبرك بدأ ينفذ ولا تريد أن تسمع المزيد – لكني أعتمد على ما تبقى من حلمك وأضيف أن بئر النفط إذا مات يؤتى له بكل إحترام وتقدير، ويحضر تجهيزه عدد كبير من الناس قد يتجاوز الأربعين. إلى هنا لا بد لي أن أدخل في صلب الموضوع لتبيان ما تقدم وإلا فأنا مطلوب من ̗قبل القارئ الكريم حيا أو ميتا ليأخذ بثاره، ويرحم أعصابه ويقر قراره. وله الحق في ذلك إذ أنه لا يحق لأي كائن ما كان، جمادا كان أو ذا جنان، أن يتلاعب في أذواق من كرمه الرحمن من الإنس أو الجان.
ستتضح الصورة، وستنعم براحة البال أيها القارئ الكريم إذا قلت لك أن مهندسي البترول إصطلحوا على أن بئر النفط يقال له أنه حيا إذا كان ينتج نفطا ويقال له ميتا إذا كان لا ينتج نفطا.
فعندما يتم الإنتهاء من حفر بئر النفط، تنتهي مهمة مهندس الحفر – ويأتي دور مهندس الإنتاج الذي يشترط عادة إستلام البئر وهو حي. لكن مهندس الإنتاج دائما ما يجد بئر النفط ميتا بعد الإنتهاء من حفره. لقد قتله مهندس الحفر لأنه لا يستطيع إتمام الحفر والبئر على قيد الحياة أي في حالة منتجة. لذا لا بد من التنسيق بين مهندس الحفر ومهندس الإنتاج لإحياء هذا الميت – أي جعله منتجا للنفط – ولا يتم هذا الإحياء إلا بمعرفة أسباب الوفاة.
ومن المعروف أن البئر لا يستطيع إنتاج النفط إلى السطح إلا إذا كان ضغط قعر البئر أقل من ضغط طبقات مكمن النفط – ليتمكن النفط من أن يتدفق من طبقات المكمن إلى قعر البئر ومن ثم إلى أعلى حيث سطح الأرض. وحتى يمنع مهندس الحفر هذا التدفق ليستطيع مواصلة الحفر، يقوم بضخ كميات من طين الحفر عالي الكثافة في البئر، وهو سائل مكون من الماء والطين وبعض المواد الكيماوية.
طين الحفر هذا يستطيع بوزنه كتم مسامات صخور مكمن النفط ولا يسمح للنفط أن يتدفق منها إلى قعر البئر، ويصبح البئر ميتا. ولجعله يحيا من جديد، يعمد المهندسين مع فريق العمل الذي يتألف من عشرات الخبراء والعمال إلى ضخ مادة سائلة أقل كثافة من طين الحفر، تستبدل طين الحفر وتستطيع تنظيف وإزالة الترسبات المتبقية من طين الحفر في مسامات الصخور وقعر البئر. إن وزن عمود السائل الموجود في البئر يعتمد على كثافة السائل ويكَون ضغطا على الطبقات التي يتواجد فيها النفط، فإذا كان أقل منها تدفق النفط إلى البئر والعكس صحيح.
ولكن بين الحين والآخر يتعرض بئر النفط لبعض الأمراض وخاصة إذا إمتد العمر به – ومن يمرض يحتاج إلى علاج – لا تغضب أيها القارئ العزيز – فبما أنك واصلت القراءة إلى هنا يعني أنك قد وافقت مهندسي النفط على أن البئر يموت ويحيا، ومن يوافق على ذلك لا بد له أن يوافق على أن البئر يمرض ويشفى.
فكيف للبئر أن يمرض ويشفى؟
البئر عادة ما يكون عرضة لكثير من المشاكل التي نستطيع أن نعبر عنها بالأمراض والتي تحتاج إلى صيانة، ومن أهم هذه المشاكل التي قد يتعرض لها هذا البئر المسكين هي:
- إنخفاض كميات النفط التي ينتجها البئر
- حدوث تسرب للنفط نتيجة صدأ في الأنابيب
- عطل بعض الأجهزة أو الصمامات داخل الأنابيب
- إنتاج الماء أو الرمل مع النفط
ولصيانة بئر النفط لا بد من قتله ليموت. فبعد تشخيص المرض (المشكلة) – ̓يقتل البئر بضخ كميات من طين الحفر الثقيل القادر على وقف تدفق النفط إلى قعر البئر. وبعد أن تعالَج المشكلة بالطريقة التي يراها مهندس صيانة الآبار ملائمة –̓يضخ من جديد كميات كبيرة من سائل أقل كثافة مثل الماء أو الديزل لتنظيف مسامات الصخور وقعر البئر – وعندما يصبح ضغط طبقات المكمن أكبر من ضغط قعر البئر، يتدفق النفط تلقائيا من مكمن النفط، ويصبح البئر حيا من جديد. وقد يحتاج الوضع إلى ضخ كميات كبيرة من هذه السوائل وتدويرها عدة مرات لضمان نظافة قاع البئر وفتح مسامات الصخور.
فكل بئر نفط قد ُيقتل عشرات المرات ويتم إحيائه بعد ذلك. أما ما ذكرنا من عرض للأعمال وتقدير للتركة، فهذا ما يقوم به مهندس البترول وهو يعد دراسة الجدوى الإقتصادية للبئر قبل صيانته لمعرفة الكميات التي أنتجها هذا البئر سابقا والكميات المتوقع إنتاجها بعد الصيانة.
أعلم أنني أثقلت عليك أيها القارئ الكريم بهذا الموت والإحياء – لكن طب خاطرا فلن أطلب منك أن تتصدق على نفط بئر، كي تساعده في أن يتدبر أمره من المأكل والمشرب.
رائعة المقاربة ابا علي وطريقة العرض مبهرة ومخاطبة القاريء مباشرة مبدعة والموضوع لذيذ
احسنتم