لو سألت أحدَ الأبناءِ والبناتِ في مقتبلِ العمر:
ماذا تريدُ أن تكون؟
سيجيبُ فِطريًا كأيّ إنسانٍ: أريدُ أن أكونَ عظيمًا،
ثم تسأله، ماذا تعني؟
سيجيب: أريدُ أن أكونَ سعيدًا مطمئنًا، مكتفيًا ماليًا، مُنجزًا عالميًا، كثير النفع للبشرية، عظيم الأثر في الحضارة العالمية،
ثم تسأله، كيف ستحقّق ذلك؟
سيسكت طويلًا، ثم يسألك بذكاء، أخبرني انت بخبرتك الطويلة، كيف يمكنني أن أحقّق ذلك؟ فماذا سيكون جوابك؟
هل فكّرت كيف ستجيب على هذا السؤال الوجيه، تعال معي نحاول معًا:
هذا ليس سؤالًا علميًا (يتعلق بعلوم الطبيعة او الرياضيات)، بل هو سؤال يتعلقّ بالثقافة التي تحدّد للإنسان غايته ومساره الموصل لتلك الغاية. بعبارةٍ أخرى، لو تصوّرنا أنّ العلم قطار الحياة، فالجميع يؤمن بضرورة ركوب قطار العلم وليس في ذلك شك، لكنّ السؤال أيّ سكّة حديد سيمشي عليها هذا القطار والى أين سيتجه وكيف؟ الثقافة هي التي تحدد غاية الإنسان ومسيرته، فكأنها السكّة الحديدية التي يمشي عليها القطار.
المدارس والجامعات مشكورة تؤدّي دور القطار وتتولّى النقلة العلمية، لكن الثقافة والتربية في الأسرة والمجتمع هي التي تتحمل مسؤولية الإجابة على سؤال كيف أكون عظيما. لذا فالإجابة ستكون مختلفة بناءً على الثقافة التي يتبناها الفرد، فلنسلّط الضوء هنا على ثقافتين مختلفتين، الثقافة الغربية والثقافة الشرقية.
الوصفة الغربية:
أعطت الثقافة الغربية الفرد كامل الحرية في تحقيق ذاته وكفلت له قانونيًا حماية حقوقه وأشعلت روح المنافسة بين الأفراد تحت دافع حبّ الذات والتملك فأنطلق الفرد الغربي يعمل ويستثمر ويخترع وينجز ويؤسّس الشركات العابرة للقارات. وحين اعترضت طريقه بعض القيم والقيود الاجتماعية، انطلقت في الغرب نظرةٌ تحرريةٌ انفلتت من كل القيم والأعراف فالإبداع هو الهدف، وللمبدع الحق في تلبية غرائزه، فالأنانية فضيلةٌ وليس على الفرد أن يفكّر في الآخرين الذي يعيقون حركة التطور فهو مسؤولٌ عن نفسه ونفسه فقط. وحين يفكّر كلّ فردٍ بهذه الطريقة فيحبّ نفسه حتى الأنانية الجشعة، فستكون محصّلة هذه الأنانيات الفردية مجتمعةً مصلحة المجتمع. هكذا ترى الثقافة الغربية السائدة حاليًا. فلكي تكون عظيمًا، في:
- ساحة النفس: يجب عليك أن تلبّي غرائزك وتتحرّر من القيود والقيم والأعراف حتى يمكن لطاقاتك الكامنة ان تتفجر وتبرز على أرض الواقع في هيئة اختراعات وإنجازات مادية، أنظر كتاب (Selfie by Will Storr)،
- ساحة المجتمع: يجب عليك أن تحبّ نفسك بلا حدود، فالإيثار وإعطاء الآخرين قد يسبّب ضررًا على الاقتصاد، بينما توفيرك للمال وتأسيسك للشركات سيوفر فرصًا وظيفيةً لهم تغنيهم عن التسوّل والاعتماد على الصدقات. أي أنّ ثقافة السوق المفتوح والمنافسة العادلة هي من يحقّق غنى المجتمع والعدالة بينك وبين الآخرين. هذا المجتمع تتجلّى فيه ثقافة وقيم الأرباح أوّلًا، التي تسود السوق والشركات عالميًا، أنظر كتاب (فضيلة الأنانية لمؤلفته آين راند).
هذه هي الوصفة الغربية التي تحقق العظمة في رأي الثقافة الغربية السائدة حاليًا، والتي تحاول أن تتسلل الى العالم الشرقي عبر الإعلام والأفلام ومنصات التواصل والإشعاع الحضاري.
الوصفة الشرقية:
أعطت الثقافة الشرقية الإنسان حريته وكرامته وجعلت الكونَ مسخّرًا لخدمته وأمرته بالعلم والعمل وحفظت له حقوق الملكية وأعطت وزنًا كبيرًا جدًا للقيم والأخلاق الاجتماعية ووعدت عليها بالسعادة والطمأنينة في النفس والرخاء في المعيشة والخلود في الذكر. فلكي تكون عظيمًا في نظر الثقافة الشرقية، في:
- ساحة النفس: يجب عليك أن تنتصر في معركة النفس التي تشتعل باستمرار بين دافع السمو والعروج، الذي يقوم على القيم والفضيلة والعطاء والإيثار، ودافع الاستسلام الذي يقوم على الغريزة والأنانية وكسر القيم. هذان الدافعان في حرب مستعرة، فبينما تدفع الفطرة الى السمو والعروج، تدفع الغريزة والشهوة الى الأنانية والرذيلة. فالعظمة تتحقّق إذا إنتصر الإنسان في معركة النفس وسمى بنفسه وعرج بها نحو القيم السامية فلبّى غرائزه بصورة شرعية تحفظ له كرامته وتصون شرفه وعفته، والويل له إن هزمته الأنانية والرذيلة فإنحدر يلبي غريزته الحيوانية دون قيود، عندها ستشتعل في نفسه نار تأنيب الضمير وسيهيم كما تهيم الأنعام،
- ساحة المجتمع: يجب عليك أن تحبّ نفسك حبًا حقيقيًا وهذا الحبّ لا يركّز على المدى القصير فقط كما تدعو اليه الثقافة الغربية، بل ينظر أيضًا الى المدى الطويل فالجزاء قد يكون بعد عام او عشرة أعوام او في العالم الآخر حيث توفّى كلّ نفسٍ ما عملت (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)، فلا مكان للأنانية في هذه الثقافة بل هي العطاء الذي سيخلفه الرزق (ومن يُوقَ شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون)، (ويُؤثِرُون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). هذا العطاء والإيثار يضمن القضاء على الفقر والجريمة ويحفظ للمجتمع توازنه فلا يوجد فيه ذلك الفرق الشاسع بين أقلية تملك الثروات الطائلة وأكثرية تعيش تحت حدود الكفاف. هذا المجتمع يحفظ كرامة الإنسان وتتجلّى فيه بوضوحٍ ثقافة وقيم الإنسان أوّلًا.
هذه هي الوصفة الشرقية التي تحقق العظمة في رأي الثقافة الشرقية والتي تملك إرثًا تاريخيًا عظيمًا لكنها لا تملك وسائل العرض والتسويق التي تملكها الثقافة الغربية.
كيفَ تكونُ عظيمًا:
لقد أوضحنا لك الوصفة الغربية والوصفة الشرقية، وهديناك السبيل وعليك الاختيار فإمّا ان تحافظ على ثقافتك وهويتك وقيمك وكرامتك، وإمّا أن تركب سرابَ الهوى والأنانية الذي لن تجد فيه سعادةً ولا طمأنينةً، وحاشا لمثلك أن يختار ذلك.
(إذا أردت أن تكون عظيمًا فلتركب قطار العلم والعمل ولتختار سكّة الكرامة الشرقية وقيم الإنسان أوّلًا وليس الأرباح أوّلًا). والحمد لله ربّ العالمين.
جميل جدًا دكتور ابا محمد. مقال رصين ووصفة رائعة بينت طريق النجاة . نعم، منظرو الغرب روجوا لثقافة الأنانية عبر كثير من الوسائل سواء أكانت عبر الوسائل الاعلامية أو الكتاب، مثل ما تفضلت بذكره Selfie ، أو كتاب ريتشارد دوكينز : “الجين الأناني. والذي يبرز فيه الروح التنافسية والفردية، مستخدمًا علم النفس التطوري ليبرر الروح التنافسية التي ظهرت ما قبل التاريخ حيث كانت الحياة كحلبة مصارعة كما يدعي ، مع ان الواقع حينذاك يكذب هذا الادعاء وذلك لوجود أدلة على التعاون في وجود وفرة وقلة تنافس
مقال اكثر من رائع وتلخيص رائع لوصفتين احداهما مر ولونه زاهي والآخر حلو ولونه للأسف في الشاشات قاتم …
اتمنى ان يقع اختيار الذوّاقه في الوصفه الصحيحه على رقم ” التجميل ” القليل لها بين صفحات المنيو
دام قلمك ودمت سالماً
شكرا لكما و لجميع القرّاء الكرام. نعم، الوصفة الشرقية تحتاج الى عرض و تسويق افضل على مستوى العالم لتأخذ موقعها الطبيعي في عالمٍ يتعطش للسعادة.
مقال هادف و اضافة تربوية جيدة و جميلة…. لكلا الاطروحتين مسوقين و المسوق الافضل ينجح لاستقطاب مريدين لفكرته … المسوق الشرقي يحتاج الى ادوات و مهارات و اساليب عرض افضل مما هو متاح الان … بجهود المخلصين من امثالكم و ذكاء العرض لخصائص الوصفة الشرقية الممزوجة بثقافة الايمان بالله و صدق الباحثين نتطلع لرجحان الكفة لصالح المجتمع و يعم الخير لكامل البشرية و ينحسر الشر من الارض 🌷
احسنت عزيزي امير. هكذا الحياة و طبيعتها، قناعات مختلفة. الف شكر لك.
دعني اضيف نقطة جميلة للنقاش هنا مع القرّاء الكرام:
قد يقول البعض: لماذا ننقد الحضارة الغربية، هي حضارتهم و هم أحقّ الناس بها؟ الحقيقة، أنّ الحضارة ملك البشر جميعًا و للجميع الحقّ في تصويب بوصلة الحضارة بما يحقق سعادة البشرية. و نحن اذ ننقدها، نذكر ايجابياتها فقد حققت الانجازات العلمية و التكنولوجية لكنّها مع الأسف تاهت في القضايا الانسانية. لسنا هنا نعمم او نشمل الغربيين جميعًا، فبعض الغربيين ينقد بشدة انحدار القيم الغربية و التفاوت الطبقي الشنيع، حرصًا منهم على استمرار العطاء و سلامة المسيرة الانسانية.
عجبا كيف تعصر لنا الحياة و تلخص لنا دروب الحكمة في رشفة فنجان – كل ما يعتريني هو ماذا انا و ماذا قدمت لمجتمعي و حقيقية قد احمل علما بين جنباتي و لكن ياترى على اي سكة اسير – تشبيه في غاية الجمال و الروعة. المقال يحتاج الى شرح لا غموضه و لكن لإثراء موجود بين خباياه – جاد قلمك و سلمت يداك.
يخيل لي ان هذا الموضوع لوحة فنيه تكسوها الوان زاهية من الحكمة و الفكر و عليه تحتاج ان تطبع و تعلق في فناء الدار ليقرأها رب الاسرة و يقرأها الجميع وناهيك عن ان تعلقها في دهاليز عقلك لانها حقا شعاع
اخي العزيز دكتور علي: ما اجمل تواضعك و احلى عباراتك و اخلص ثنائك و هل نحن إلّا نتاج امثالك من جهابذة العلوم و روّاد الأخلاق و رائعي الطوية. سلمت يادكتور و لاحرمنا الله من عطائك.