يعيش أغلب الناس حياتهم، يدبّرون شؤونهم المالية ويؤدون واجباتهم الاجتماعية ويقضون أجمل ساعاتهم في حياتهم الأسرية. الشباب مثلًا عندما ينهون مراحلهم الدراسية، ويحين وقت عملهم، يلتحقون بوظيفةٍ توفّر لهم سبل العيش الكريم، وعندما يحين وقت زواجهم، يختارون شريك حياتهم ويدبّرون سكنًا لهم ثم يبنون أسرهم وينجبون أطفالهم.
البعض يرى الحياة بهذه العفوية والبساطة، تسير طبيعيًا عامًا بعد عام،،،
فلماذا التخطيط والعناء؟
هل توافقهم على هذا الرأي؟ وإذا لم توافق، فلماذا؟ وما هو التخطيط الذي يجب أن يمارسه الأفراد في حياتهم؟
تخطيط الضرورة أم تخطيط الثقافة؟
منذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض وهو يفكّر في مستقبله، فيحفظ ما زاد من طعام اليوم الى الغد، ويزرع في هذا الموسم ويحصد ليأكله في الفصل التالي، وربما زرع سبع سنين دأبًا ليأكله في سبع سنينٍ مجدبة، إنّها الفطرة الإنسانية، فطرة هاجس العيش وحفظ النعمة ليوم الحاجة.
قد يقول البعض إنّه تخطيط الضرورة، ولكنّي لا أوافق على ذلك، بل هو التخطيط الذي يناسب ثقافة الإنسان. فكلما إرتقى وعي الإنسان بأهمية التخطيط في جانبٍ معينٍ من حياته، كلّما مارس التخطيط في ذلك الجانب. فمثلًا، لا تجد اليوم من يبني منزله قبل أن يقضي وقتًا ويصرف مالًا في العمل مع مكتبٍ هندسي لتخطيط منزله، فقد أصبح التخطيط العمراني ثقافةً جمعية، لكنّ نفس الشخص قد لا يخطّط لمستقبل مؤسسته الفردية لأنّ هذا النوع من التخطيط لم يصبح بعد ثقافة جمعية عامة في بعض المجتمعات.
تطوّر التخطيط
إنتقل التخطيط عبر مراحل عديدة نتيجة التطوّر التكنولوجي والحاجة الماسّة له ونتيجة الوعي المعرفي بضرورة التخطيط. نورد هنا بعض الأمثلة لتوضيح ذلك:
مثال (1):
لو اردت ان تزور صديقك في مدينتك الصغيرة التي ألفتها وحفظت طرقها طيلة عمرك، فستجد نفسك تقود سيارتك دون الحاجة للنظر الى اسم الشارع او موقع المنزل، وهذه مرحلة العفوية والبساطة.
اما لو اردت ان تزور صديقك في مدينةٍ أخرى تبعد عنك مئات الكيلومترات وهي مزدحمة الشوارع متسعة الأطراف عديدة الأحياء، وهذا ما كان يحدث لنا (قبل أربعين عامًا، قبل اختراع الخريطة الرقمية والهواتف المحمولة)، حيث كنّا نقضي وقتًا طويلًا ندرس الخريطة على ورقةٍ كبيرة، ونحدّد أقرب الطرق للوصول الى منزل الصديق، فنرسم الطريق على الخريطة وندوّن اسماء الشوارع وعدد اشارات المرور وموقع المنزل ونكرّر النظر في هذا التدوين طيلة الطريق حتى نصل الى منزل الصديق، وهذه مرحلة التفكير والتدوين.
اما الآن، فبفضل الاقمار الصناعية والخرائط الرقمية المحدّثة لحظيًا، ما عليك إلّا أن تضغط على العنوان ليتولّى الهاتف المحمول التواصل مع الأقمار الصناعية وتحديث الخريطة الرقمية على الشاشة حتى تصل الى منزل صديقك، فهنا دخل التخطيط مرحلته الرقمية.
مثالٌ (2):
تصوّر أنّك فكّرت في بناء مصنعٍ صغيرٍ ينتج زيت الزيتون لقريتك الصغيرة وليس لديك منافسون فكلّ ما تنتجه، ستبيعه لأهل القرية بسعرٍ جيدٍ ومعقول. بعفويةٍ وبساطةٍ، سينجح المشروع بتوفيق الله.
افترض أنّك فكّرت في توسعة المشروع لتبيع زيت الزيتون في المدينة المجاورة حيث توجد خمس مصانع محلية لزيت الزيتون بأسعارٍ منافسةٍ، اظنّ أنّك ستقوم بدراسة نقاط قوتك كجودة المنتج والسعر الجيد ونقاط ضعفك ككون منتجك جديدًا في المدينة، والفرص المتاحة لك كحجم السوق الكبيرة في المدينة والقدرة الشرائية المرتفعة، والمخاطر المحتملة كدخول منافسين اقوياء مستقبلًا، وبعد إنهاء دراسة جدوى مستفيضة للمشروع، قد تقرّر المضي في المشروع او التوقف عنه. هذه هي مرحلة التفكير العميق والتدوين.
افترض أنّك قرّرت المضي في التوسعة وبدأت البيع في سوق المدينة، وبعد فترةٍ دخل السوق زيوت زيتون عالمية منافسة، فذكر لك مدير التخطيط ان الشركة في حاجةٍ الى اجراءِ بحوث عمليات تتعلّق بتحديد أفضل تشكيلة من المنتجات تحقّق أعلى ربح للمصنع، وهذه البحوث تحتاج الى شراء او استخدام برامج محاكاة رقمية يتم تشغيلها على حواسيب سريعة، فمن الطبيعي أن توافق على هذا الطلب، لأنّه السبيل الوحيد للتنافس مع المنتجات العالمية للشركات الكبرى. هذه مرحلة التخطيط الرقمي.
ماذا حدث للتخطيط؟
لقد تطوّر التخطيط عبر الزمن تبعًا لتطوّر الوعي والتكنولوجيا وحسب الحاجة، عبر ثلاث مراحل:
- مرحلة العفوية والبساطة التي نكاد لا نشعر بها،
- مرحلة التفكير العميق والتدوين،
- مرحلة التخطيط الرقمي.
مأسسة التخطيط
أصبح التخطيط عنصرًا رئيسيًا في علم الإدارة فلا تستغني مؤسسة او شركة عن وضع خططٍ تفصيلية لتحقيق أهدافها. وحتى يأخذ التخطيط موقعه المهم في أعمال الشركة، تم تخصيص دائرة معينّة تتولّى جمع خطط الدوائر الأخرى وعرضها على إدارة الشركة ودراسة البدائل والسيناريوهات المحتملة ومن ثم نشر الخطة المعتمدة على جميع الدوائر. كما تتابع دائرة التخطيط طيلة السنة مع جميع الدوائر تنفيذ الخطط المرسومة ونتائجها والتحديات الحقيقية وكيفية مواجهتها.
وتضع دائرة التخطيط جدولًا زمنيًا محددًا لعملية التخطيط وتجمع الكثير من المعلومات ذات العلاقة بعمل الشركة وتنشرها على الدوائر المختصة حتى تضمن جودة الخطط ونجاحها ومواكبتها للتغيرات العالمية. وتنقسم الخطط الى عدة أنواع فمنها الخطط التشغيلية قصيرة المدى (سنة الى سنتين)، ومنها الخطط الاستراتيجية (خمس الى خمس عشرة سنة او أكثر).
السؤال: ماذا لو بقي التخطيط في مرحلة العفوية والبساطة؟
مع الأسف، يبدو أنّ هناك الكثير من الأفراد والمؤسسات مازالت تعيش مرحلة العفوية والبساطة في التخطيط وهذا ما قد يؤدي أحيانًا الى كوارث سيئة، وهذه بعض الأمثلة على ذلك:
- لو أستمر الفرد في الاقتراض من البنوك حتى بلغت القروض مستوى عاليًا يقتطع أكثر من نصف الراتب الشهري، ماذا سيحدث لا قدّر الله لو خسر هذا الفرد عمله؟
- لو قرّر فردٌ بناء منزلٍ ثم تصرّمت ميزانية البناء وهو في نصف المشروع نتيجة التوسع الغير ضروري في مساحة البناء، فماهي النتيجة؟
- إذا لم ترسم بعض المؤسسات التي كانت ناجحةً في الماضي خططًا تواكب تحديات السوق المفتوح، فهل ستضطر الى إغلاق أبوابها؟
- إذا استمرت بعض المؤسسات العائلية والشركات الصغيرة عملها بعفويةٍ وبساطةٍ دون خطط او دوائر تخطيط او متابعة، فهل ستستطيع هذه المؤسسات منافسة شركات كبرى إنتقل التخطيط فيها الى مراحل رقمية متقدمة تدرس السوق وتوجهاته والمنافسة العالمية والتكنولوجيا الحديثة؟
التخطيط ضرورة
إنّنا نعيش في عالمٍ مفتوحٍ يعجّ بالأفراد والمؤسسات والشركات التي تمارس أفضل انواع التخطيط والتي انتقلت من مرحلة العفوية والبساطة الى مرحلة التفكير العميق والتدوين ومنها الى مرحلة التفكير الرقمي، فهل نستطيع ان نواكب هذا التغيير الكبير ونحن نعيش في مرحلة البساطة والعفوية الساذجة؟ من المسّلمات التي تبدو واضحةً للجميع، أنّ علينا أن نمارس التخطيط بأقصى درجات العناية. قد يبدو هذا الأمر واضحًا على مستوى الشركات والمؤسسات في عالم المال والأعمال، لكن ماذا عن الأفراد في حياتهم الخاصة؟
إنّ توفر المعلومات الرقمية عن الأفراد عبر محركات البحث سيكون مادةً دسمةً لبعض البرامج الحاسوبية التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لدراسة ميول الفرد والتأثير عليه لتحديد خياراته السوقية والشرائية، وسيكون الأثر كارثيًا، إذا بقي الفرد في عفويته وبساطته التخطيطية تتلاعب به محركات البحث والبرامج الرقمية.
فهل سيتمكن الفرد من استخدام هذه التقنية الرقمية لمصلحته فينتقل من خططه العفوية البسيطة الى خططٍ أكثر مواءمةً للتغيرات التقنية والحياتية والظروف المعيشية؟ هذا هو المأمول. أمّا كيف سيكون ذلك؟ فأرجو أن يكون هذا الموضوع مادةً لبحوث مستقبلية تثري الأفراد في حياتهم الخاصة وتجعل معلومات ووسائل التخطيط الفردي في متناول الجميع، حتى يصبح التخطيط الفردي ثقافة جمعية عامة. والحمد لله ربّ العالمين.
ما أروعها من مقالة، وما أحوجنا للتخطيط في أمور حياتنا ومعائشنا. شكراً لك أيها الكاتب المُصيب على هذا الموضوع البالغ الأهمية لحياة ناجحة تتجاوز الكبوات والتعثرات حيث التخطيط هو ركيزة النجاح وتحقيق الأهداف سواء في حياتنا العملية أو المعيشية وخاصة في حياتنا المعاصرة التي تتسم بالتعقيد والتداخل تقنياً واقتصادياً واجتماعياً وعلى جميع المستويات والأصعدة.
استاذي العزيز احمد الخميس:
شكرًا لك على هذا التعليق الكريم و الجميل و لا عجب فقد صدر من قلبٍ جميلٍ و ذهنٍ وقّاد.
دائما تتحفنا بافكارك النيرة عزيزنا ابو محمد .مقال رائع ومفيد بارك الله فيك وسلمت يداك ايها المحمدي
شكرا يادكتور
انها رائعه جدا وترشد الانسان الى ان التخطيط السليم يوجه الانسان الى الاتجاه الصحيح والسليم وكذلك يعطيه الصوره واضحه نحو المستقبل لكي لايقع ويتعثر ويستفيد في حياته من جميع النواحي
الف شكر ووفقك الله لكل خير وافاد بك المجتمع
اتفق مع الأخ الدكتور بأن التخطيط، على المستوى الفردي وعلى مستوى الشركات والمؤسسات، ضرورة ملحة، فبه يُضمَن النجاح وبدونه تحدث كوارث. وما أكثرها على المستوى الفردي في أيامنا لغياب التخطيط والتغافل عن أبجديات منطق الأمور. ويكفي أن نلقي نظرة على اعداد المتعثرين في بناء بيوتاتهم لغياب التخطيط.
الشكر لكم جميعا على تفضلكم بقراءة المقالة و ابداء ارائكم الجميلة في هذا الموضوع المهم. دمتم سالمين.