إنّها ضوضاء القنوات الفضائية، ضوضاء رسائل وسائل التواصل الاجتماعي، ضوضاء البريد الالكتروني، ضوضاء الهاتف المحمول، ضوضاء العمل المتواصل أغلب ساعات الليل والنهار. أين الهدوء الذي كنّا نعيشه في الماضي؟ أين لحظات التأمل والخلو بالنفس والتفكير في المستقبل؟
ما سبب هذه الضوضاء؟ هل هي التكنولوجيا؟ ماذا عن المستقبل؟ هل هناك سقفٌ لهذه الضوضاء أم أنّها ستزيد مع الزمن؟ هذا هو التحدي الحضاري الذي تعيشه البشرية.
الماضي الجميل:
أتذكّر قبل حوالي خمسة وعشرين عامًا، زارني أحد الأصدقاء وكان يعمل في أحد شركات خدمات حقول النفط والغاز، واستغربت كثيرًا من كثرة ترقبه لهاتفه المحمول ومتابعته للرسائل فيه، وكنت آنذاك أعمل مديرًا في أحد شركات النفط، ولم أكن أستخدم الهاتف المحمول، فسألته متعجبًا، لماذا كلّ هذا القلق الشديد والمتابعة المستمرة؟ تبسّم وقال: أنّ هذه طبيعة عمله، فمديره في العمل يرسل رسائل طيلة الوقت ويتوقع أن يجيبه موظفوه بأسرع ما يمكن.
لم أقتنع، وقلت الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاك به. وكنت في أحد المؤتمرات، حيث كانت احدى المتحدثات تشتكي من أنّ جدولها اليومي يبدأ حين تفتح عينيها ساعات الفجر بالنظر الى هاتفها المحمول ورسائل وسائل التواصل.
وأشتكى لي صديق بأنّ ضيوفه أحيانًا يقضون معظم وقتهم في مجلسه ليس في الحديث والابتسام بل بالردود على مكالماتهم ورسائلهم في هاتفهم المحمول. ولعلّ الآباء والأمهات يبذلون جهدهم في الكرّ والفرّ مع أطفالهم الصغار محاولين وضع حدٍ لاستخدامهم المفرط في المشاهدة واللعب بالهاتف المحمول.
أمّا جيلنا (أبناء الستين عامًا) فأتذكّر قبل خمسين عامًا ذلك الهدوء الذي يخيّم على منزلنا بعد صلاة العشاءين، فلا ضوضاء أبدًا، بل كانت أفضل الساعات التي نقضيها على سطح المنزل ليلًا ونحن نتأمل السماء الزرقاء ونجومها المتناثرة كحبّات العقد.
وحين بدأنا العمل قبل خمسة وثلاثين عامًا، كانت ساعة الخروج من العمل هي الإذن بنسيان هموم العمل حتى صباح اليوم التالي، اذ لا يتمكن المدير آنذاك أن يرسل بعد الدوام طلبات العمل. ما الذي تغيّر اذن؟ كلّ هذه الأمور أصبحت معتادةً الآن مع انتشار الهواتف المحمولة ووسائل التواصل والبريد الالكتروني حيث يلاحقك العمل أينما كنت وحيثما وجدت، وتزعجك رسائل وسائل التواصل ليلًا ونهارًا.
لكن كيف إستطاع الهاتف المحمول ووسائل التواصل إنجاز هذا التغيير الرهيب على حياة الأفراد والمجتمعات؟
ثورة الاتصالات والمعلوماتية:
ثورة الاتصالات والمعلوماتية عبر الانترنت والهواتف المحمولة والحواسيب الآلية والبريد الالكتروني ووسائل التواصل المرئية والمسموعة، أوجدت قنوات تواصل مفتوحة على مدار الساعة تستوعب البشرية من أقطار الأرض شرقها وغربها.
لقد حقّقت الكثير من الإنجازات فكريًا وثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، حيث أصبح العالم قريةً واحدةً. لكنّ هذه النظرة الإيجابية لا تخلو من شوائِب سلبية، لذا نحتاج الى تحليلٍ دقيق لمعرفة نتائج هذه الثورة المعلوماتية والأسباب التي أدّت اليها والمستقبل الذي ينتظرها.
النتائج:
الإيجابيات الثمينة التي تحققت عبر المعلوماتية:
- الأثر الاقتصادي والمعيشي الإيجابي: سهولة العمل وإجراءات المعاملات التجارية والحياتية عبر القارات وخلال الليل والنهار وسهولة الوصول الى المنتجات وتسويقها، حيث يقدّر البعض أنّ فعالية بعض الأعمال قد تضاعفت نتيجة هذه التكنولوجيا،
- توفّر كنوز معلوماتية علمية وأدبية وفنية وفي كل المجالات، وسرعة نشرها والاستفادة منها على مستوى الأفراد والجامعات والمجتمعات،
- سهولة التعليم الذاتي، والتعليم والعمل عن بُعد في جميع المجالات،
- مواكبة التطوّر التكنولوجي والحضاري في شرق الأرض وغربها،
- الاطلاع على ثقافات الأمم ومستواها المعيشي وأسباب حضارتها،
- تسيير شؤون الحياة في حالات الطوارئ كما حدث خلال أزمة كورونا.
أمّا الأعراض المرضية والسلبية التي نتجت عن سوء استخدام هذه التكنولوجيا فهي:
- يبدو أنّ الضوضاء المستمرة من وسائل التواصل وغيرها غير بريئة فهي قد قتلت السكينة التي عاشتها المجتمعات في الماضي الجميل، وسببت الإنشغال المستمر وتضييع الوقت وعدم التركيز،
- كنتيجة طبيعية للضوضاء وعدم التركيز، نجح البعض عبر وسائل التواصل في نشر بعض المعلومات الخاطئة حيث يتلقفها المستمعون ويعيدون نشرها بسرعة إذ لا وقت للتفكير أمام هذا الطوفان المعلوماتي،
- تم استخدام هذه التكنولوجيا كأحد أدوات الهندسة الثقافية الفاعلة حيث يتم من خلالها نشر الثقافة الغربية وتحقيق أهداف الشركات التجارية،
- أثّرت سلبيًا على الأسواق والأيدي العاملة ومن المتوقع أن يتزايد هذا التأثير مع دخول شركات البيع الإلكتروني على نطاقٍ أوسع،
- إستغلها البعض في نشر المشاحنات الفكرية،
- نشر البعض غسيلهم اليومي عن حياتهم الخاصّة فانعدمت الخصوصية،
- انتشرت المشاهد الفاضحة والغير مشروعة التي تهدّد سلامة الأسرة والمجتمع، وما قد يصاحبها من ابتزازٍ عاطفي وغريزي تمارسه بعض النفوس المريضة،
- قدرة محركات البحث على إعطاء الأولوية لبعض المعلومات والمنتجات على حساب المعلومات والمنتجات الأخرى، سببت تحيزًا معرفيًا خطيرًا جدًا على مستوى البحث والمعرفة.
الأسباب:
مثّلت ثورة الاتصالات والمعلوماتية نقلةً عظيمةً وقفزةً هائلةً لم تكن البشرية قد استعدت لها نفسيًا وثقافيًا واجتماعيًا،،،
؛؛فكأنّ البشرية اليوم تعيش فترة طفولتها بالنسبة لهذه الطفرة التكنولوجية الهائلة؛؛
لذا نجد التخبط الشديد على مستوى الشركات والأفراد، ولعلّ أسباب ذلك ما يلي:
- الفضاء الإفتراضي ملكٌ مشاعٌ للبشرية لا يملكه أحد، لذا استغلت الشركات هذا الفراغ فقفزت تكنولوجيًا لتملكه بوسائلها المتطوّرة، قبل أن تتّفق البشرية على وضع أنظمةٍ تفصيلية لاستخدامه،
- التغيّر والتطوّر السريع لهذه التكنولوجيا والمنافسة الشديدة بين شركاتها تسبق أي محاولة لوضع أنظمةٍ وقوانين ضابطة،
- عدم وجود توافق عالمي على قوانين معلوماتية تحكم المادة المنشورة نظرًا لاختلاف الثقافات،
- الرغبة الجامحة للشركات ومالكيها لاستخدام هذه القوة الناعمة لتحقيق أغراضها وأهدافها البعيدة كأحد أنجح وسائل الهندسة الثقافية وأحد أهم وسائل الدعاية والتسويق.
المستقبل:
يبدو أنّ شركات التكنولوجيا الرقمية يسارعون الخطى ضمن خطةٍ مرسومةٍ لتحقيق ما يلي:
- جمع وتحليل المعلومات الهائلة عن الأفراد والمجتمعات ودراسة ميولهم وثقافتهم،
- تلقيم هذه المعلومات الى الحواسيب الضخمة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي،
- تنميط الأفراد والتنبؤ بقراراتهم التسويقية والشخصية، ثم التأثير عليها بدعايات موجهة تصبّ في صالح النتائج المطلوبة من الشركات والأطراف العاملة عليها،
- نتيجة هذا الزخم التحليلي والدعائي ستغيب خصوصية الأفراد وقدرتهم في الوصول الى المعلومة الحقيقية وبذلك يتم توجيه قراراتهم لا شعوريًا،
- عملًا بمبدأ الحرية في العالم الغربي، يحقّ للأفراد ذوي الشذوذ وغيرهم الدعاية لأفكارهم ونشرها على مواقع الشبكة العنكبوتية، وحيث يتم الآن التحكم فيها من قبل بعض الدول والمجتمعات والأسر محليًا، فإنّ هذا التحكم قد يتلاشى مستقبلا من خلال استقبال الأقمار الصناعية او غيره من التقنيات الجديدة.
الحلول:
لا يمكن أن تبقى البشرية أسيرة الشركات الرقمية تلهث وراء جديدها وتعجز عن تقنين عملها.
؛؛فكما تداعت البشرية لوضع حلول واتفاقيات لمنع انتشار الأسلحة ذات الدمار الشامل، فإنّها مدعوةٌ لوضع حلولٍ واتفاقيات لمنع نشر هذه السموم الفتّاكة؛؛
يبدو أنّ هذا موضع اهتمام المجتمعات العلمية والجهات المختصة، لذا نتركه لأهل الاختصاص. ونودّ هنا ان نستعرض مسؤولية الأفراد فقط، فإنّ عليهم ما يلي:
- الاحاطة بفوائد هذه التكنولوجيا العظيمة والاستفادة منها بقدر الإمكان،
- الوعي بمخاطر هذه التكنولوجيا والحذر منها قدر الإمكان، وهذا يشمل: الحفاظ على الخصوصيات الفردية والتأكد من صحة المعلومات قبل استخدامها، والاستفادة من برامج تقنين استخدام القاصرين للمواقع والأوقات المسوح بها. وتوجد هناك الكثير من الكتب القيمة التي تتحدث عن تقنية المعلومات والوقاية من سلبياتها،
- المشاركة القيمة في كتابة ونشر الأفكار العلمية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية على الشبكة العنكبوتية لتكون مصدر اشعاعٍ يحفظ سلامة الأفراد واستقرار المجتمعات،
- العمل قدر الإمكان للبعد عن الضوضاء والانشغال المستمر ومحاولة التركيز على الأولويات،
- عدم النظر بسذاجة لمحركات البحث ووسائل التواصل والتكنولوجيا الرقمية فهي مصممةٌ بحذاقة وتقنيةٍ عاليةٍ للتأثير على قرارات الافراد والمجتمعات بما يحقّق أهداف الشركات.
أسأل الله أن ينفعنا بهذه التكنولوجيا الرقمية وأن يجنّبنا سلبياتها، والحمد لله ربّ العالمين.
يعطيك العافية…
موضوع توعوي رائع . شكرا لكم دكتور على تناوله ومشاركته. اللطيف في موضوع التنكلوجيا هي ليست التكنلوجيا بحد ذاته لكن ما يصاحبها، وكما يقولون 1+1 ≠ 2 لا ربما آلاف او ملايين اذا اجتمعت السيكولوجيا والبيولوجيا مع التكنلوجيا تكون كفيلة بصنع الهوايل كما يقولون
احد الباحثين يقول حتى تتمكن من اختراق عقول الناس تحتاج الى قوة حوسبية ومعلومات وبيلوجيا
قدرة الاختراق = القوة الحوسبية x البيولوجيا x البيانات (المعلومات)
وقد تضاف اليها السيكولوجيا كما يذكر في التعلم التوابطي والاشراط الكلاسيكي / البافلوفي في قضية منبهات رسائل البريد والواتساب وعلاقتها بتشييك الرسائل بشكل متواتر
دمتم بخير
شكرا لك عزيزي. البيانات اي المعلومات و قوة الحواسيب متوفرة أما البيولوجيا كخفقان القلب و الحرارة و غيرهما، فان بعض الساعات تستطيع توفيرها و تربطها بالهاتف المحمول و منه الى قاعدة البيانات. السيكولوجيا يتم دراستها من التصرفات الانعكاسية التي قام بها الفرد سابقا فقد تم تنميط شخصيته بناء على معلوماته السابقة لسنين طويلة. شكرا لك على هذه الاضاءة الجميلة. في ظني ان الذكاء الاصطناعي لم يزل قاصرًا عن فهم تعقيد كامل الخيارات العقلية و الانعكاسات النفسية.
شكرا دكتور
ولذلك اصبح الاختراق ميسورًا