قد يسألك صديق، أيّ فردٍ أثّر كثيرًا في حياتك؟ لماذا، وكيف؟ الحقيقة، إنّ التأثير عمليةٌ مستمرةٌ لا تتوقف، وكأنّه إشعاعٌ متبادل بين البشر أخذًا وعطاءً، فمنهم من يصل اشعاعه كلّ البشر ومنهم من يكون اشعاعه خافتًا لا يتعدّى قدميه. فمن الناس من يؤثّر فيك عبر نظرةٍ او كلمةٍ او مقالةٍ او خطابٍ او عبر مواقف بطوليةٍ او أخلاقٍ إنسانية، ثم تتراكم هذه التأثيرات طيلة عمرك فتصوغ شخصيتك.
فهل رأيت طفلًا لم يتأثّر بوالديه، او طالبًا لم يتأثّر بمعلّمه، او موظفًا لم يتأثّر بمديره؟ جميعهم قد تأثّر.
الحقيقة، أنّ التأثير يدخل في كلّ جوانب الحياة من المال والخدمات والأسرة والمدرسة بل حتى في حياتنا الفردية. فمثلًا، يدرس المستثمرون في الأسواق العالمية إدارة الشركة وتاريخها قبل الاستثمار فيها، لأنّ الإدارة تصنع التأثير في إنجازات الشركة وقراراتها المالية وأرباحها السنوية. ويرضى الناس عن خدمات مؤسّسة معيّنة لأنّ مديرها يعمل ليل نهار ليؤثّر ايجابًا على موظفيه ومجتمعه.
وننبهر بإنجازات شخصٍ معين ونعجب بشخصيته، نتيجة قدرته الفائقة على التأثير فينا. إنّ العامل المشترك في نجاح الفرد والأسرة والمدرسة والمؤسسة والشركة بل كلّ شيء هو التأثير الإيجابي الذي يمارسه البعض على الآخرين. لكنّ التأثير سلاحٌ ذو حدين، فهو فنٌّ قد يستخدمه البعض لأهدافٍ خبيثة، فكم هناك من أشخاصٍ وقعوا فريسةً بيد الآخرين نتيجة تأثيرٍ وإغواءٍ غريزي جنسي او مالي ثم وقعوا ضحية ابتزازٍ عاطفي وتهديدٍ مستمرٍ حتى أضحت حياتهم جحيمًا لا يطاق.
سنناقش هنا، كيف يحدث الفعل الإنساني؟ وكيف يحدث التأثير؟ وما هو الفعل الاجتماعي؟ وما طبيعة العلاقات الاجتماعية وكيف يتمّ التأثير في المؤسسات المختلفة؟ وماهي الكاريزما؟ ثم نذكر أمثلةً واقعيةً على التأثير السلبي والإيجابي.
كيف يحدث الفعل الإنساني؟
قبل أن يفعل الإنسان أمرًا ما، يفكّر فيه، فيتصوّره بالتفصيل، ثمّ تتولّد عنده ميول إيجابية نحوه، هذه الميول تولّد إرادة قلبية يقدّر بعدها الأمور والإمكانيات ثم يقرّر ويفعل. مثلًا، يفكّر في السفر الى الخارج، فيتصوّر جمال ذلك البلد وحسن أجوائه، فيزداد شوقًا له، فتتولّد عنده إرادة السفر، ثم يقدّر الميزانية والتكاليف ويحدّد الاجازة والزمن، ثم يقرّر ويسافر. هذه السلسلة قد تكون مبتورة أحيانًا فلا تكون كاملة، كما سنناقش فيما يلي.
كيف يحدث التأثير؟
افترض أنّ شخصًا ما أراد التأثير على شخصٍ آخر، فهناك طريقتان للتأثير:
- الطريقة الأولى (التأثير الفكري): أن يؤثّر عليه فكريًا فيحاول ان يزرع الفكرة في ذهنه مباشرةً او بالإيحاء، حتى يتبناها وكأنّها فكرته هو، وتدريجيًا تنتقل الفكرة من ذهنه الى قلبه فتصبح ميلًا قلبيًا لديه ثم إرادةً وعزيمةً على الفعل، ثم يعود فيفكّر في الظروف ويقدّر الحسابات ثم في النهاية يقرّر ويفعل. هذه الطريقة تأخذ مدًى طويلًا وقد تتعرّض هذه السلسلة الى التردّد فلا يحدث الفعل لأي سبب،
- الطريقة الثانية (التأثير العاطفي او الغريزي): أن يتجنّب مرحلة الفكر، فيغزو قلب الآخر مباشرةً بالعاطفة او الغريزة، فيقفز الى القرار دون تفكير بل يفعل دون تردّد، هذه الطريقة سريعة وخطيرة وهي ما تفعله وسائل التواصل الاجتماعي فهي كالطلقة السريعة، التي قد تتكرّر حتى تأخذ مداها. هذا الأسلوب لا ينجح مع من يتحلّى بالحكمة والصبر والتفكير الطويل فلا يفعل حتى يعيد ترتيب أفكاره كما هو في الطريقة الأولى.
لكن ماهي أنواع الفعل الإنساني، وهل يتدخّل الآخرون في التأثير عليها دائمًا؟ الجواب، لا، فالآخرون يتدخلون إذا كان الفعل اجتماعيًا يهمّهم ويؤثّر في حياتهم، فما هو الفعل الاجتماعي؟
الفعل الاجتماعي:
هناك أفعال فردية كالأكل والشرب والنوم لا يتعدّى تأثيرها صاحب الفعل نفسه، فلا تعني الآخرين ولا يهتمون بها. لكنّ أغلب أفعال الانسان يتفاعل فيها الإنسان مع الوسط الذي يعيش فيه، فيؤثّر ويتأثّر بمن حوله وهذا ما نسميه الفعل الاجتماعي. ويقسّم ماكس فيبر الفعل الاجتماعي الى عدةِ أنواعٍ هي:
- أفعالٌ تقليديةٌ (تنطلق من العادات والتقاليد)، إكتسبها الإنسان وورثها من بيئته،
- أفعالٌ عاطفيةٌ، تغلب عليها العاطفة كعلاقة الفرد بوالديه وأسرته والأمور التي يحبها،
- أفعالٌ عقلانيةٌ، يهدف بها الإنسان تحقيق غايةٍ معينة، وتنتج عن وضع خطةٍ هادفة،
- أفعالٌ قيميةٌ أخلاقيةٌ، تنطلق من قيمٍ أخلاقيةٍ كالكرم والأمانة والشجاعة والشرف والعفة.
الافعال التقليدية تختلف من مجتمعٍ الى آخر، فمثلًا، الولائم الكبرى في مجتمعاتنا التي تكلّف الكثير من الأموال يستغرب منها أفراد المجتمع الغربي. وكذلك، الأفعال العقلانية تختلف من مجتمعٍ الى آخر، فمثلًا قد يرى الانسان الغربي أنّ ترك والديه في دار العجزة والمسنّين فعلٌ عقلاني، بينما يعتبره مجتمعنا عقوقًا وتقصيرًا في حق الوالدين.
بعض الأفعال قد تكون قيمية وعاطفية وعقلانية وتقليدية في نفس الوقت، فمثلًا، برّ الفرد بوالديه تقليدي في مجتمعاتنا الشرقية وعاطفي لأنّه يعبّر عن حبّ حقيقي وقيمي فهو يفعّل قيمة صلة الرحم، وعقلاني لأنّه يحقّق الاستقرار النفسي والمعنوي وهو يطيل العمر ويدفع البلاء.
[ملاحظة: أترك للقارئ الكريم، التفكير في أنواع الفعل الاجتماعي وتقسيمه حسب تصنيفات أخرى، فربّما يقسّم البعض الفعل الاجتماعي الى تقليدي وشرعي وقيمي أخلاقي].
العلاقات الإجتماعية:
تختلف العلاقة والتأثير بين الأفراد في المجتمعات والمؤسسات حسب نوع المؤسسة وشخصية صاحب القرار فيها الى ثلاثة أنواع:
المؤسسات التقليدية:
تلعب المكانة الاجتماعية أثرها الكبير في توجيه المؤسسات التقليدية والتأثير بين أفرادها، حيث يكون للأفراد قدرة التأثير وصنع القرار بحكم موقعهم في المؤسسة التقليدية، مثل الأسرة والقبيلة والمدرسة والجامعة والجمعيات العلمية. فمثلًا الوالدان في الأسرة لهم قدرة التأثير على الأبناء والبنات، والأستاذ في الجامعة له قدرة التأثير على طلابه، ومدير المدرسة له قدرة الـتأثير على المعلّمين والطلبة والخبير في علمٍ او فنٍّ معين له قدرة التأثير على زملائه وهكذا. هذا التأثير لا يتعدّى أفراد المؤسسة التقليدية، حيث يفقد المؤثر مكانته الاجتماعية وتضعف قدرته على التأثير خارجها.
المؤسسات العقلانية:
المؤسسات العقلانية تقوم بناءً على الأسس العلمية والعقلية وتتبنى منهجًا علميًا واضحًا لتحقيق غايةٍ وهدفٍ معين، وتلعب المناصب فيها الدور الرئيسي في أداء المهمات وتحديد العلاقة بين الأفراد. وخير مثالٍ عليها ما سمّاه ماكس فيبر (البيروقراطية) أي الهيكل المؤسساتي، حيث تتسّم المؤسسة بما يلي:
- السلّم الإداري المقرّر والمنضبط بوصفٍ واضحٍ لكلّ منصبٍ اداري في السلّم من أدنى منصب في المؤسسة الى أعلى منصب فيها،
- يتسلّم الأشخاص رواتب معروفة لقاء عملهم الرسمي، ولا يجوز لهم العمل دائمين في إدارات أخرى،
- توضع خطة تطوير واضحة للأشخاص من أدنى منصبٍ الى أعلى منصبٍ في السّلم حسب الكفاءة وبعيدًا عن التمييز والمحاباة،
- يكون القانون الذي تطبّقه المؤسسة واضحًا ومعروفًا ولا يحق للإدارة تغيير القانون،
- لا يحقّ لأي موظف او اداري أن يخالف القانون، وإلّا فسيتعرّض للمساءلة والعقاب.
يستفيد المدير من منصبه الإداري وصلاحياته التي أضفاها عليه موقعه الإداري في توجيه موظفيه لتحقيق الأهداف المرجوة. ويختلف المدراء في قدرتهم على التـأثير على موظفيهم واستنهاض طاقاتهم وامكانيتهم، فمنهم من يستخدم الترغيب بالتطوير والتخويف من الفصل للتأثير في موظفيه، ومنهم من يلمس قلوب الموظفين ويكون أخًا كبيرًا لهم، يطالبهم بأداء واجباتهم ويضمن لهم حقوقهم.
إنّ الفرق كبيرٌ جدًا بين المؤسسات التقليدية كالشركات العائلية التي قد يولد فيها الفرد مديرًا بنسبه لا بكفاءته، وبين المؤسسات العقلانية التي تلعب فيها الكفاءة دورًا محوريًا في تعيين الأشخاص وتحمّل مسؤولياتهم. ومع الأسف، أحيانًا قد تتداخل المؤسسات التقليدية مع المؤسسات العقلانية، فيتسنّم بعض الأفراد مناصب عليا في السلّم الإداري للشركات، فتلعب أعرافهم وغيرها أثرها السلبي في توظيف وترقية الأفراد المنتمين اليهم، مما يترك أثرًا مدمرًا على المؤسسات العقلانية وانتاجيتها ويفقدها طابعها العقلاني.
الكاريزما المؤثرة:
أخذت الكاريزما موقعها اللغوي والاستعمالي بعد أن إستخدمها ماكس فيبر قبل قرنٍ تقريبًا، ولعلّها بدأت من دراسة الأثر الكبير الذي تركه الرسل وصلتهم بالله وقدرتهم الفائقة على تبليغ رسالاتهم والتأثير في صفوف أتباعهم، حيث يمتثل الأتباع لأوامر الرسول ويحبّونه ويضحون من أجل نشر الرسالة التي جاء بها، ليس لأجرٍ مادي بل لأجرٍ أخروي موعود. ثم توسّع استخدام كلمة الكاريزما، فأصبحت تطلق على الصفات الشخصية الفوق اعتيادية والمؤثرة جدًا في الآخرين.
؛؛الكاريزما ليست سلعةً تباع وتشترى، ولكنّها بذرةٌ يسقيها الفرد بالحكمة والتجربة وبعد زمنٍ طويلٍ تنبت الشجرة وتثمر بالكاريزما الموعودة؛؛
فتتحقّق عندما يحسّ الأخرون بصدق الفرد واخلاصه وكفاءته وقدرته الفائقة في تقديم الحلول الناجعة للمشاكل الاجتماعية وتحقيق الإنجازات الكبرى ونسج العلاقات الإنسانية بين البشر. وتستمر الكاريزما أحيانًا حتى يموت الفرد وتبقى حيةً في أقواله وآثاره وكل شيءٍ يدّل عليه فيقصدها الناس ليذكروا عظمته وتاريخه وإنجازاته فهو مشعلٌ وقّاد لم ينطفئ رغم مرور الزمن، فمكانه الذي ولد فيه او عاش فيه او توفي فيه، يصبح وهّاجًا يتلألأ بالتأثير على من يزوره ويصل اليه.
أمّا البعض فقد تتحقق له الكاريزما فترةً من حياته ثم تضمحل وتتلاشى لأنّه فشل في تحقيق وعوده التي أطلقها. والمهم أن يعرف الجميع أنّ الكاريزما ليست حكرًا للأخيار، بل قد يتسّم بها البعض فيستخدمها في التأثير السلبي على الآخرين.
أمثلةٌ على التأثير:
ينفعل أحدنا بالآخر على مستوى العواطف والأفكار والسلوك، وهذا الانفعال قد يكون ايجابيًا بناءً او سلبيًا هدّامًا، ويختلف الانفعال شدّةً وضعفًا حسب الظروف المحيطة. وقد ناقشنا فيما سبق التأثير في المؤسسات التقليدية حيث يتأثّر الفرد بشخصيات عديدة كالأب والأمّ والمدرّس والصديق، والتأثير في المؤسسات العقلانية حيث يتأثر الفرد بزملائه ومديره، والتأثّر بشخصيات كاريزمية اجتماعية او إدارية. وهكذا تنفعل المجتمعات ببعضها والأمم ببعضها، فبعضهم يؤثّر كثيرًا بينما يتأثّر الآخر كثيرًا. والحياة زاخرةٌ بالأمثلة الإيجابية والسلبية للتأثير، وسنورد هنا بعضًا منها لتوضيح الفكرة:
أمثلة التأثير السلبي:
- سلوك القطيع: عندما يكون تأثير المجتمع او الغوغاء قويًا على الفرد، فيفقد قدرته على اتخاذ القرار المناسب ويتبنّى رأي الجماعة التي ينتمي اليها دون تمحيصٍ وتفكير،
- الهندسة الثقافية: حين تنبهر الأمم الضعيفة بالأمم المتقدمة فتتبنّى أفكارها وتقتدي بمشاهيرها، وتصبح تبعًا يحافظ على مصالح الأمم القوية ويقتات على فتات حضارتها،
- اختطاف الفرد: حين تحاصر مجموعة من الأفراد الشخص المطلوب فتمطره بوابل أفكارها التي تتبناها وتعزله عن بيئته وأسرته حتى يتبنى فكرها ويصبح فردًا منها،
- الإغواء الغريزي الجنسي او المادي: ينتشر عبر وسائل التواصل حيث تختطف الصورة الفاضحة او الكلمة المعسولة قلوب البعض وتستهوي أنفسهم فتتسلل الى مخادعهم، حتى إذا ما انزلقوا في الرذيلة ووقعوا في الفخّ، أصبحت الضحية عرضةً للإبتزاز المادي والعاطفي في يد الشخصية الماكرة الخبيثة. وخيرُ علاجٍ لها، ان تقف الأسرة والمجتمع في صفّ الضحية لإنقاذه من براثن المكر الذي نصب له،
- الدعاية الاستهلاكية: لا نعني هنا الدعاية التسويقية للمنتج او الخدمة في حدود التعريف به والتي نعتبرها مقبولة ما دامت الوسائل مشروعة، بل نعني المبالغة في عرض الإيجابيات وإخفاء السلبيات واستخدام وسائل الإغراء والجذب الغريزية الغير مشروعة التي تدفع الى مزيدٍ من الاستهلاك الغير مبرّر اقتصاديًا واجتماعيًا.
أمثلة التأثير الإيجابي:
- تشعر بشعاعٍ عاطفي يجمعك مع قلبٍ كبيرٍ لأخٍ او صديقٍ او مدرّسٍ او مديرٍ تحسّ منه الودّ والاحترام، ويتضاعف ذلك إذا كان ذا فكرٍ وقّادٍ يقنعك بنور فكره، ويبلغ القمّة حين تراه يتصّرف بأخلاقٍ وحكمةٍ ويصنع القرار المناسب، وكأنّ أنهار التأثير الثلاثة (العاطفة والفكر والسلوك) تصب كلّها في بحر قلبك فترى فيه القدوة والطموح والكمال،
- حين تقرأ تاريخ العظماء او تشاهد فيلمًا عن حياتهم او تسمع قصةً تعبّر عن قيمهم او تزور مكانًا إحتضن عظمتهم او تمشي في مناسبةٍ تحيي آثارهم، تنبعث فيك طاقةٌ حيةٌ وينبلج في قلبك شعاعٌ نوراني يضيء لك الطريق فتقطع المسافات وتحقّق الإنجازات.
أسأل الله أن يرزقنا ملكة التأثير الإيجابي ويجنّبنا التأثير السلبي، والحمد لله ربّ العالمين.
دائمًا ما تكون مقالاتك رائعة وملهمة ومعلمة نستفيد منها كثيرًا في ربط الاشياء ببعضها بعض سيما فيما يتعلق بالسلوكيات البشرية والتي هي محل اهتمامي
احسنتم دكتور واجدتم في طرح هذه المواضيع العلمية الراقية
أظن انه لكي نفهم ما يحدث بالفعل في التأثير والتأثر لا بد أن نفهم او على الاقل نعرف دور علم الأعصاب في السلوك ومدى أثره في العلاقات الاجتماعيةُ سلبًا أو إيجابًا ، إلى ان تردى الحال ووصل الى ما يسمى بـ neuromarketing
وكأضافة لما تفضلتم به عزيزنا الدكتور، اسمح لي ان اضيف هذا المقال علك تجد فيه ما يرتبط بموضوع مقالكم الرائع
https://adnan-alhajji.blogspot.com/2021/02/blog-post_15.html?m=1
احسنت عزيزي. انا من يستفيد من اضافاتك الموسوعية. دمت ذخرا.