أثر الاقتصاد في ملامح الشخصية القطيفية (الجزء الأول) – بقلم المهندس علي عبد المحسن الجشي

ملامح شخصية المجتمع على ضوء: الثقافة – الإقتصاد – الترابط الإجتماعي

تُرسم صورة أي مجتمع في الأذهان بالصفات الثقافية الغالبة له، ومن هنا تأتي أهمية بناء المجتمع بخصال محمودة تبرزُ بوضوح في مُجملِ ملامحِه الثقافية وتُشكِل طابعه العام وتساعد في خلق شخصيات مجتمعية وازنة فاعلة ترتقي به لينعم بحياة راقية مستدامة، فالمجتمع كائن حي، لأنه يتكون من أحياء، ولذا فهو يمر في دورات حياتية تتسم بالصعود والهبوط تبعًا لصحته البنيوية. 

مصدر الصورة: maropeng.co.za

فالعلاقة بين المجتمع وافراده علاقة تبادلية، اخذ‑و‑عطاء. المجتمع يبني شخصية الفرد، وينمي الفرد شخصية المجتمع ويعزز مكانته بين المجتمعات الأخرى ويساهم في الحفاظ على قوته ووعيه وأخلاقه وسلامة بنائه المجتمعي وحالته الثقافية والصحية والاقتصادية وهي ركائز أساس لمجتمع خلاق له شخصية سوية وقوية يجد له مكانة في العالم بين المجتمعات الأخرى ويساهم في خلق السلام الذي نحن في أمس الحاجة اليه في عالمنا المضطرب هذه الأيام وإن لم يخلو العالم من اضطراب، بالإطلاق، على مر العصور منذ نشأة الخليقة حين قتل قابيل هابيل { وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱبۡنَيۡ ءَادَمَ بِٱلۡحَقِّ إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانٗا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ يُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡأٓخَرِ قَالَ لَأَقۡتُلَنَّكَۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ (27) لَئِنۢ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقۡتُلَنِي مَآ أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيۡكَ لِأَقۡتُلَكَۖ إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (28) المائدة}.

فالصراع بين قابيل وهابيل مستمر في بني الإنسان، الا من رحم ربي، لا لشيء الا ليُشقي الأنسانُ نفسَه بنفسِه. الا أن السلام يسود في فترات من الأزمان بسبب وجود قيادات حكيمة تعمل على إفشائه، وما هذه القيادات الا نتيجة صلاح الفرد ومساعدة المجتمع الصالح في غرس بذرة الصلاح في أفراده.

سيكون من الصعب جدًا التحدث عن شخصية المجتمع ووصفها وصفًا دقيقا فالموضوع متشعب ولا يمكن حصره في مجموعة محددة يمكن تعريفها بصيغة يتم الاتفاق عليها، فهو موضوع لا متناهي ويصعب تحديده في دائرة واحدة لوجود تداخلات بين مجموعات العناصر التي تكون شخصية الفرد في المجتمع، وتشكل في مجملها شخصية المجتمع الذي تعيش فيه.

وليسهل علينا الدخول في هذا الموضوع الشائك سنحدد ملامح شخصية المجتمع في دائرتين تشكلان مركبين أساسيين هما الثقافة والاقتصاد ويتقاطعان ليكوِّنا الترابط الاجتماعي والعلاقات الانسانية التي نستطيع من خلالها أن نتعرف على شخصية المجتمع.

أهمية الاقتصاد في بلورة شخصية المجتمع

يلعب الاقتصاد دورا رئيسيا في تكوين وقوام نفسية الفرد داخل المجتمع وبالتالي في التأثير على شخصيته ليتعامل مع المجتمع بطرق توافق أنماطه وسلوكه.

كما أن المظهر العام لقوة المجتمع الاقتصادية وبنيته التحتية تنعكس في نظرة الآخرين له سواء أكان ذلك من خلال فنون إعمار المباني أم في نوعية الشوارع والطرقات ونظافتها أم في نوعية السيارات وموديلاتها أم في تنسيق الحدائق وجمالها أم في ملبس الرجال وقوامهم أم في مظهر المرأة وترتيبها أو حتى في الروائح التي تنبعث من المنازل كرائحة البخور والطيب والورود والطبيخ أو تلك الروائح الكريهة التي تنبعث من شبكات المجاري ومصبات تصريف الأمطار والبيارات المحلية ، وكذلك تنظيم الأسواق وعرض البضائع ووجود أسواق عامة وتجارة منظمة مؤتمنة ومراكز تسويق أنيقة ومطاعم راقية ومقاهي مريحة وتوفُر ممرات المشاة ومواقف السيارات، وأرصفة المباني والمنازل، ومنظر السيارات العامة ونوعية سيارات الأجرة والخدمات التي تقدمها ، ووجود خدمات اتصال فعالة وعمل اشارات المرور وتوفر لوحاته الارشادية، وتوفر شبكة المواصلات العامة وجودتها.

؛؛كل هذه المظاهر، التي تتحسن مع تحسن الاقتصاد وتدهور مع تدهوره، تؤثر في نفسيات الناس وسلوكهم وتنعكس في مظهر شخصياتهم التي تكون الانطباع العام عن شخصية المجتمع؛؛

الوضع الاقتصادي الجيد للأفراد يخلق مجتمع مرفه ينال احترام وتقدير الآخرين والعكس بالعكس فكلما ضعف الوضع الاقتصادي للمجتمع ولأفراده انتشر العوز وعم البؤس وبان الضعف والانكسار وانشغل الناس بأنفسهم وتعكرت نفسياتهم وساءت احوالهم وانعكس ذلك على سلوكهم وشخصياتهم “والفقر إبن الكسل” كما يقول المثل الأفريقي؛ وعن علي ابن أبي طالب عليه السلام:

– ثلاث تُورث ثلاثا: النشاط يورث الغنى، والكسل يورث الفقر، والشراهة تورث المرض –

وعنه عليه السلام “لو كان الفقر رجلا لقتلته” ، وقال لقمان الحكيم: نظرت الى كل ما يذل القوي ويكسره فلم أرى شيئًا أذل ولا أكسر من الفقر. وذلك لما للفقر من ضرر بالغ على المجتمعات. فضعف المجتمعات اقتصاديًا يرفع من معدلات الجريمة بأنواعها وتدني الأخلاقيات، ويزيد في انتشار الأمراض، ويُشعِر افراد المجتمع بضغوط نفسية تجعلهم في توتر دائم.

وقد حبا الله القطيف بوضع اقتصادي وفير لما توفر فيها من أسباب الرزق من ثروات زراعية وبحرية ومهن صناعية ومهارات حرفية ساهمت في ازدهار اقتصادها واستقرارها وانعدام الجريمة فيها فيما مضى من الزمان الى مستوى لا يُذكر، بل كان من العجب العجاب حدوث أي جريمة مروعة لكن هذا ايضًا لا ينفي ايضًا وجود حالات بؤس وامراض وأوبئة قاتلة ومزمنة وشظف عيش مقارنة بما نحن فيه الآن حيث ساد الأمن والأمان.

تصوير: الفنان محمد الخراري

قبل دخول الملك عبد العزيز اليها في عام ١٣٣١هـ، ١٩١٣م − كانت القطيف تقع تحت سلطة الدولة العثمانية وكانت تعيش في بحبوحة اقتصادية بسبب إزدهار الغوص، ورواج تجارة اللؤلؤ المستخرج من قاع الخليج، فكان الفلاح يشتغل في الفلاحة شتاء، ويمتهن الغوص صيفًا، وكان من الطبيعي أن يتبع ذلك ازدهار الحركة التجارية بسبب ارتفاع القدرة الشرائية، غير أن الازدهار الاقتصادي كان معرضًا لعدم استقرار أمني احيانًا بسبب تعرض البلاد لاعتداءات البداة، الذين يطّرهم العوز للاعتداء على أطراف المزارع ونهبها والتعرض للمسافرين واستغلالهم، وربما كانت هناك انواع من الابتزاز أو قطع الطرق ومضايقة الحجاج والزوار في بعض الأحيان، إذ لا يمكن مقارنة حياة البداوة المتقشفة خارج واحة القطيف آنذاك بالحياة الحضارية التي وهِبت لها بما حباها الله من خيرات، وهذا الوضع ساهم في خلق نوع من التوجس والتحسس والحذر في تعامل افراد المجتمع مع اولئك الذين هم من خارج محيطه.

المسار الاقتصادي

يبدأ المسار الاقتصادي بوجود المواد الخام الأولية، يلي ذلك عملية الإنتاج والتصنيع، ثم التجارة ويتبعها الاستهلاك اللازم لمعاش الناس، لتستمر ديمومة الدورة الاقتصادية. ولكل إنسان ومجتمع على وجه الأرض دور يساهم به في بناء اقتصاده والمساهمة في نمو اقتصاديات العالم.  وعلى كل منا أن يفهم دوره ووظائفه في محاور الاقتصاد العالمية ويعمل عل تطوير قدراته وامكانياته. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فنحن نساهم في فشل بناء نظام اقتصادي ننفع به وننتفع.

بلاد الخير

القطيف، كانت ولا زالت، بلاد الخير، وهي واحة من أقدم المناطق المأهولة في الخليج العربي، ويرجع تاريخها إلى الألفية الخامسة قبل الميلاد. نشأت على صعيدها حضارات وتعاقبت عليها دول، وشهدت أرضها الكثير من الأمم والأجناس.  وتعتبر من أهم الموائل الحيوية عبر تاريخ منطقة الخليج العربي.

القطيف واحة قل نظيرها في أرض الجزيرة العربية فهي قطعة خضراء وأرض زراعية غناء تتمتع بجمالها الطبيعي وبمنتجاتها المتنوعة وحبذا لو أُتخِد قرارًا فيما مضى بالمحافظة عليها كمحمية بيئية طبيعية وتم نقل التوسع العمراني الى غربها فيما وراء ساحتها الخضراء. لو حدث ذلك وكانت هناك رؤية تخطيطية ثاقبة واهتمام بالموارد حينها لكانت القطيف اليوم كما كانت سابقًا منطقة من افضل المناطق الزراعية المنتجة لأصناف التمور والخضروات والفواكه تساهم في سد حاجة الوطن بالمنتجات الغذائية الطبيعية الصحية ومنتجعًا ومحمية بيئية طبيعية تساهم في الأمن الغذائي للوطن بشكل أكبر وتنعش القطاع السياحي في البلاد بأفضل ما يكون على مستوى الخليج، وتوفر فرص عمل معيشية مستقرة ولكن حدث ما حدث، وهل يصلح العطارُ ما أفسده الدهرُ؟

أشجار القرم على إمتداد سواحل القطيف. مصدر الصورة: www.alriyadh.com

وللقطيف ساحل خلاب تزينه اشجار القرم الخضراء الكثيفة الجميلة ومياه ساحلية هادئة حبذا لو تم الاهتمام بها لمنع تلوثها وانبعاث الروائح منها لأنها سواحل ضحلة جدًا وتتحول بعض قيعانها أثناء الجَزر الى ارض ناشفة فلا تتحمل ما يرمى بها من مياه نتنة كما يحدث هذه الأيام فتصبح بعض الأمكنة على الساحل مناطق نتنة بدلًا من كونها اماكن استجمام طبيعية.

وفي القطيف جزيرة تاروت البديعة، وهي ثاني أكبر جزيرة في الخليج العربي بعد البحرين، ويقال، والعهدة على من روى، انها كانت اول اختيار ليكون مقرًا للجامعة العريقة، جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، التي تم انشاؤها ككلية، كلية البترول والمعادن عام 1961 في مقرها الحالي بالظهران؛ كما أنها حوت أول مطار انشئ في الساحل الشرقي للملكة العربية السعودية. عرف هذا المطار بمطار الرفيعة وتعود نشأته الى عام 1329هـ/1911-1912م ويقع في الأطراف الجنوبية لبلدة الربيعية.

موقع جزيرة تاروت – المصدر: خرائط قوقل

يمكننا القول إن المواد الخام الرئيسية، التي كانت متوفرة في القطيف كانت أساس اقتصادها في ذلك الوقت، وهي تشمل كميات غزيرة من المياه العذبة، كانت مجاريها تشبه الأنهار وتسمى سيَب ومفردها سيبة، وفي اللغة تعني مجرى الماء، والسائب يعني المُهْمَل، أو الفَائِض، فالسيبة في المصطلح القطيفي تعني مجرى الماء الفائض الذي ليس إليه حاجة، وهذا دليل على غزارة ووفرة المياه حينها في منطقة القطيف. ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (الأنعام 99)﴾.

كما كان ميناء القطيف التجاري ميناءً رئيسيًا في المنطقة ويعرف بالفرضة، وتم اغلاقه في نهاية الستينات الميلادية من القرن المنصرم. وبقي في القطيف ميناءان لصيد الأسماك، يساهمان في روافد المنطقة الاقتصادية احدهما في مركز القطيف وانشئت فيه سوق حديثة للأسماك وآخر في دارين وهو ميناء ضارب في القدم إذا جاء في شعر العرب:

يَمُرُّونَ بِالدَهناء خِفافاً عِيابُهُم…وَيَخرُجنَ مِن دارِينَ بُجرَ الحَقائِبِ
عَلى حين أَلهَى الناسَ جُلُّ أُمورِهِم…فَنَدلاً زُرَيقُ المال نَدل الثَعالِبِ

والندل معناه خطف الشيء بسرعة، وكلمة (اندل) فعل بمعنى اخطف خطفا سريعا، وكن خفيف اليد سريع الروغان، وربما جاءت من هذا المعنى كلمة نادل وهو من يقوم على خدمة القوم في الأكل أو الشراب والجمع نُدُل.

قريبا…. أثر الاقتصاد في ملامح الشخصية القطيفية (الجزء الثاني) ، وسيتحدث عن الماء والتربة في القطيف – القوة البدنية – الطبقية – البيئة الزراعية – البيئة البحرية….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *