“الإحساس الغائب في كينونة الألم الجسدي الحاضر”
قد أبدع شعراء الأدب العربي القديم في وصف حالات النفس بطرق عدة وقد يكون من أجملها ما قيل في هذا الموضع:
قَد يَقتلُ الهمُّ قَلبًا كَانَ يحملُهُ
مَا أضعفَ القلبَ إن زَارتهُ بلْواهُ
لَا شيءَ يُفنِي هُمومَ القَلبِ إن جثمَت
إلَّا اتِّكالٌ عَلَىٰ ربٍّ عبَدناهُ
وقد يمر الإنسان في مرحلة من مراحل حياته بمعاناة من الألآم الجسدية والعضلية التي يٌعتقد بأن لا مبرر واضح لوجودها ولكن قد لا يعلم بأن قلبه التائه وعقله الذي تجرد من الوعي قد ألقاه في هاوية تلك المعاناة التي تمثلت جلية على شكل ألام جسدية مزمنة.
فإن مداواة المشاعر وتحريرها أمر لابد منه حتى يعيش الشخص حياة سليمة باعثها التوازن، أما إذا عمدنا إلى مداواتها بالتجاهل فهو كاستخدامنا لإبرة مسكنة تبعث على الراحة المؤقتة من الثمل وتلك الحالة يُعبر عنها في الجانب العلمي بمسمى ( الخُدر العاطفي )
هذه الحالة عبارة عن شعور الشخص بأنه منفصل عن أفكاره العقلية ومشاعره الوجدانية فيبدأ بالشعور بالفراغ فيأنس بالعزلة والابتعاد عن مخالطة المجتمع فيُصبح صديقاً لألآمه التي يتذمر منها تارة ويتعايش معها تارةً أخرى.
إن محاولة تجاهل المشاعر وتخديرها سواءً كان عن طريق العمد أم لا، يُعتبر مسكناً موضعياً للألم ما إن ينتهي مفعوله حتى تهجم عليك مشاعر الحزن والقلق والفراغ من جديد فلا تتوارى عنك حتى تُعمي عقلك عن التركيز لتُشعرك بأنك بلا هدف في الوجود وتُدمي قلبك فلا يكاد يستطعم الفرح وتنهش جسدك فيعاني من زفرات الألم المزمن عديم السببية في فحوصات وأشعة الأطباء.
وما قد نغفل عنه بأنه عند التعمد لاستخدام تكنيك تخدير المشاعر فإنه لا يمكن اختيار مشاعر بعينها فنتجاهلها ظناً منا بأن ذلك هو الحل الأمثل لاكمالنا الحياة بمشاعر أفضل وهذا ما أشار له الباحث برين براون في كتابه (The Gifts of Imperfection): “لا يمكننا تخدير المشاعر بشكل انتقائي”. “عندما نخدر المشاعر المؤلمة ، فإننا نخدر المشاعر الإيجابية أيضًا”.
وبالتالي فإن المشاعر الإيجابية لن يكون لها محطة في حياتك بعد ذلك لنومها مع مثيلتها من المشاعر السلبية فستبدأ حينها بفقدان الراحة للعيش حياة متوازنة خالية من الألم الجسدي والنفسي معاً.
فقد يكون التساؤل الآن: كيف نقود أنفسنا لطريق تلك الألآم الجسدية عن طريق تجاهلنا لمشاعرنا ؟!
على ضوء الأبحاث العلمية فقد تعددت أسباب الإصابة بالخدر العاطفي فقد يكون بسبب التعرض لصدمة عاطفية قوية كفقدان عزيز أو فقدان وظيفة مهنية كنت متعلقاً بها حينها قد يعاني الفرد من بعدها بحالة تسمى بـاضطراب ما بعد الصدمة (Post Traumatic Stress Disorder – PTSD) وهي حالة تعتري الشخص فتحفز له ذاكرة الألم عندما يرى مكاناً أو شخصاً أو رائحةً مرتبطة بالحدث حتى لو بعد مدة طويلة تمتد لسنوات مابعد الصدمة التي كان يعتقد بأنه قد تشافى منها فيعمد حينها لكتم ذاكرته العقلية والقلبية بتخدير تلك المشاعر وإظهار اللامبالاة.
أو قد يتولد شعور الخدر العاطفي من اللاشيء ومن العدم في وسط حياتك اليومية الروتينية فيحولها إلى فراغ خصوصاً عندما تكون الحياة يعتريها الروتين وتفتقد للتجدد وخالية من الأشخاص الايجابيين والداعمين من حولك حتى يضفوا عليها من لمساتهم ورتوشهم الباعثة للحياة.
إن تلك الحالة من تجنب التعامل مع المشاعر السلبية والهروب الدائم منها سيبدأ بتكوين بعض العقبات والتغيرات في الخريطة العقلية في الدماغ فسيخلق منك انساناً متردداً في اتخاذ القرارات وقلقاً بشأن كل جديد يطرأ في حياتك بما فيها تجاهلك لألامك الجسدية لخوفك من التعامل معها ونتيجة لذلك ستصبح أسيراً لتلك المخاوف التي ستلعب في ذاكرة الألم حتى تجعلها جزءً لا يتجزأ منها ولن يرضى الدماغ للتخلي عنها بسهولة حتى وإن قررت العلاج حينها.
فضلاً عن ذلك إن تخديرنا للمشاعر يجعلها أكثر قوةً مع مرور الوقت فهي بمثابة تربيتك لوحش مفترس في قُعر جسدك، وبطبيعة الحال قد يكون مظهر من المظاهر المنتشرة في مجتمعاتنا هو تنشئة الأشخاص منذ طفولتهم على سلوكيات تخدير الألم والعيب من مواجهة المشاعر وبالتالي تبرمجت الأجيال السابقة بشكل طبيعي على هذا النمط الغير صحي فتولدت من هذه التراكمات ألاماً جسدية نفسية المصدر.
إذن كيف تعرف بأنك في مواجهة أعراض الخدر العاطفي ؟!
عندما تسمع خبراً سعيدأ أو محزناً فإنك لا تتفاعل معه وتشعر بالتبلد اتجاه الأحداث والأشخاص، الشعور بفقدان الشهية، المعاناة من الأرق، نوبات الذعر والقلق المتكررة من دون سبب واضح، النسيان، الشعور بأن أبسط المتطلبات اليومية في حياتنا هي شبه مستحيلة كالقيام من السرير، أداء الأعمال المنزلية، الرد على الهاتف، تأنيب الضمير بسبب خذلاننا المتكرر لمن حولنا فكل هذا قد يتحول إلى ألآم جسدية مزمنة.
حينها يجوب الشخص بين الأطباء ويضيع بين مختلف التشخيصات لألآمه الجسدية بينما الواقع هو كل مايحتاجه للتخلص من هذه المعاناة اللجوء لإختصاصي سلوكي ونفسي ليتخطى هذه المرحلة بمساعدته لمواجهة مشاعره وجهاً لوجه ومداواتها.
فلا تشغل فكرك بما أمره وتدبيره لدى الله بل إفعل ما عليك وتحرر من أي موقف سلبي يواجهك في حينه ثم انساه وأكمل طريقك وهذا ما نصحنا به سيد الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الشريف: ( إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وخذ من دنياك لأخرتك ومن حياتك لموتك ومن صحتك لسقمك فإنك لا تدري ما إسمك غداً ).
فدمتم بمشاعر الصحة والإيجابية ..
*أخصائي أول عظام علاج طبيعي
جميل جدا ويعبر عن واقع مرير لكثير من الناس يعيشون حولنا شكرا أستاذا هبه