علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان تمر في مراحل أربع تشبه الى حد كبير تطور علاقته بأي تقنية جديدة يتم الإعلان عنها، وهي ذاتها المراحل التي تمر بها أي ثقافة حين تتعرف على ثقافة أخرى. لعل هذا يكشف عن طبيعة النفس الإنسانية التي نريد أن نلقي الضوء عليها حتى نجيد التعامل معها فنستفيد من نقاط قوتها ونعالج نقاط ضعفها. وسنذكر هنا أمثلة عملية من التقنية والأسرة والإدارة والثقافة لتوضيح هذه المراحل الأربع.
علاقة الإنسان بالتقنيات الجديدة
نشرت مؤسسة غارتنر الاستشارية دراسة حول مراحل استخدام أي تقنية منذ الاعلان عنها وحتى تقبلها وانتشارها وهذا ما يسمى “Gartner Hype Cycle” (هايب غارتنر)، وهو ما يلي:
فحين الإعلان عن اختراع او تقنية جديدة، ينبهر الناس بها وترتفع توقعاتهم الى القمة (مرحلة الإنبهار)، ثم يبدأ الخبراء في استخدامها فتنكشف الكثير من سلبياتها وحدود استخدامها، مما يؤدي الى انحدار التوقعات وخيبة الأمل او الصدمة (مرحلة اكتشاف السلبيات)، ثم تصبح التوقعات أكثر عملية وتبدأ المراجعة (مرحلة التنوير وتصويب الرؤية) حتى يتم البرهنة على حدود تطبيقاتها وفوائدها الاقتصادية والعملية ويتبنى الكثيرون استخدامها ويرفضها آخرون لأنها لا تلبي طموحهم (مرحلة الاستقرار والانتشار).
العلاقة بين الأفراد
العلاقة بين أي شخصين قد تمر في عدة مراحل منها:
١) مرحلة الإنبهار العاطفي (الاعجاب)،
٢) مرحلة التعقل (اكتشاف السلبيات)،
٣) مرحلة المراجعة وتصويب الرؤية،
٤) مرحلة الإستقرار (القبول أو الرفض).
لعل العلاقة بين الزوجين مثال عملي يستحق التأمل فيه لفهم هذه المراحل، حيث تتميز مرحلة شهر العسل وقبلها بالإنبهار والإعجاب والعاطفية وهي مرحلة قد تستمر لعدة أشهر تطول أو تقصر. بعد هذه المرحلة، ونتيجة القرب والاحتكاك والظروف الحياتية، يتعرف كل من الزوج والزوجة على الآخر بالتفصيل وتبدأ بعض النقاشات وتختلف بعض الآراء فتنقشع مرحلة الاعجاب وتظهر بعض السلبيات وهي مرحلة التعقل.
وقد يتضح في هذه المرحلة، لا قدّر الله، لأحد الطرفين أن الطرف الآخر لم يكن جاداً او مخلصاً في هذه العلاقة الزوجية، أو أنه ليس بالأهلية والكفاءة لإدارة الأسرة في بحر الحياة المتلاطم. ثم تبدأ المرحلة الثالثة التي تقتضي المراجعة والنظرة الشاملة وتصويب الآراء والتنازل عن بعض المثاليات والتغافل عن بعض السلبيات والنزول الى واقع الحياة، ليصل الطرفان الى المرحلة الرابعة، حيث يفترض ان تكون الحكمة سيدة الموقف فيصل الطرفان الى الاستقرار والتأقلم والقبول بعد المناقشة والتفاوض والتعاون بينهما.
؛؛ان الصبر والحكمة لعبور هذه المراحل ضرورة قصوى لحياة أسرية مستدامة وسعيدة؛؛
يجدر الذكر، أن الكثير من الأسر السعيدة قد تتجاوز المرحلتين الثانية والثالثة فتنتقل من مرحلة الانبهار مباشرة الى مرحلة التقبل والاستقرار، فتتجنب مخاطر المرور او البقاء طويلا في خضم المرحلة الثانية الخطيرة وتقلباتها.
لذا يجب على كل متقدم للزواج أن يعي أن العلاقة مع الطرف الآخر تمثل رحلة عظيمة لبناء أعظم بيت في هذه الحياة وهو بيت الزوجية وأنّ هذه الرحلة تمر في عدة مراحل تحتاج الى الصبر والحكمة وبعد النظر والتأني في علاج الاختلافات لتصل الأسرة الى برّ الأمان وهي المرحلة الرابعة حيث التأقلم والاستقرار بعد الاتفاق على مستوى طموح وعملي لتلبية توقعات الطرفين.
إن العجلة في الانفصال وتحطيم بيت الزوجية بعد انقشاع مرحلة الانبهار وأثناء المرحلة الثانية نتيجة انكشاف بعض السلبيات أمر خطير وسلبي وبعيد عن الحكمة، اذ أنّ المفروض هو التأني والدراسة والتصويب والمراجعة والتفاوض أثناء المرحلة الثالثة للوصول الى مرحلة الـتأقلم – والاستقرار في المرحلة الرابعة. وإذا لم يتم الوصول الى نتيجة بعد مضي هذه المراحل كاملة، وبعد محاولات عديدة للوصول الى تفاهم إيجابي، فقد يكون للطرفين العذر عند ذلك لأن آخر الدواء الكي.
الإدارة: علاقة رئيس الشركة مع الموظفين (خطة المائة يوم)
حين يتم تعيين رئيس جديد للشركة، ينظر له الموظفون بإعجاب وانبهار خلال المرحلة الأولى، لذا عليه أن يرتقي لمستوى التحديات ويعرض رؤيته الطموحة ويوضح خطته العملية للتغيير المطلوب ويبدأ بتنفيذها خلال المائة يوم الأولى، فإن لم يفعل، سيصاب العاملون بخيبة أمل وهي المرحلة الثانية وسيكون من الصعب عليه رفع المعنويات بعد ذلك.
إنّ نظرة العاملين لرئيس الشركة تمر بهذه المراحل الأربع أحيانا، حتى يستقر في المرحلة الأخيرة على حالة قبول معقولة بعد أن يتعدى بعض المشاكل ويتجاوز التحديات بنجاح. وقد يخفق بعض رؤساء الشركات وتبقى الشركة تراوح مكانها في مرحلة خيبة الأمل دون أن تصل الى مرحلة القبول والاستقرار.
علاقة مجتمع الشرق مع الحضارة الغربية
خلال القرنين الماضيين، ونتيجة التطور العلمي والاقتصادي والحضاري الغربي، تعرّض المجتمع الشرقي الى زخّات كثيفة من النظريات الثقافية الغربية التي تهدف الى هندسة ثقافة الشرق وترويضه فكريا للحفاظ على المصالح الغربية. لذا مرّت هذه العلاقة بأربع مراحل تاريخية وهي:
١) مرحلة الانبهار بتطور الغرب العلمي والاقتصادي ، حيث انطلقت الدعوات في بعض مناطق الشرق الى التحرر من الدين وإطلاق العنان للحاق بالحضارة الغربية التي حققت نجاحها بعد أن أفلتت من قيود الكنيسة،
٢) مرحلة الصدمة الثقافية نتيجة الاختلاف الرهيب خاصة خلال الخمسين سنة الماضية التي انحدرت فيها القيم الغربية عبر تأسيس نظريات فكرية ثقافية تبرر العلاقات الغير مشروعة والمحرمات القانونية في الغرب سابقا، والحقيقة أن البعض يشعر بعظم هذه الصدمة على كرسي الجامعة وهو يسمع المادة الفكرية التي تدرس حاليا في علم الاجتماع مثلا، حيث يتم التطرق الى الجوانب الجنسية والجندرية وتعريف معنى الأسرة الذي تغير تبعا لشطحات القانون الأسري الغربي (يعرف بعض الغربيين الآن الأسرة بأنها اجتماع فردين في مكان واحد وضمن تفاهم اقتصادي معين وعلاقة جنسية مشتركة، فيشمل هذا التعريف تحت مسمى الأسرة الشذوذ والمثلية، أي أنه قد يتبنى الطرفان الشاذان المثليان المقيمان في منزل واحد ابنا او بنتا، ولست أدري حين يكبر الأطفال في هذه الأجواء، ماذا سيخبرون زملاءهم في المدرسة عن أسرتهم!!!! ارجو ان يكون واضحا مدى الصدمة الثقافية حيث تشوه وتلوّث مفهوم الأسرة الذي عاشته البشرية منذ الاف السنين بهذه الأفكار الغربية الصادمة). لذا يجب مناقشة هذه النظريات الاجتماعية الغربية التي شطحت بعيدا مستخدمة بريق العلم والجامعات لتسويقها. إن على المختصين محاكمة هذه النظريات بحسب المنهج العلمي الغربي لإثبات فشلها،
٣) مرحلة مراجعة القيم والثقافة الغربية وهي مرحلة نعيشها حاليا، ولا نزال في خطواتنا الأولى، إذ أنها تحتاج الى دراسة كاملة للعلوم النفسية والاجتماعية الغربية وتمحيصها للوقوف على تحيزها المعرفي الذي يدسّه المفكر عمدا او لا شعوريا نتيجة حياته وخلفيته الثقافية. من الجدير ذكره، أن الثقافة الغربية متحركة وليست ساكنة فقد انتقلت منذ عصر الحداثة حيث تمجيد العقل والعقلانية الى عصر ما بعد الحداثة حيث فقد العقل بريقه فأصبح تفكير الإنسان وتصرفاته أسير ميوله الجنسية المكبوتة كما يراها فرويد، او نتيجة وضعه الاقتصادي الاجتماعي كما يراها ماركس او تحت تأثير منصبه في سلّم المجتمع حيث إرادة القوة وأخلاق الأقوياء كما يراها نيتشه،
٤) مرحلة الاستقرار حيث القبول والرفض: يجب أن نحدد بكل وضوح القيم الغربية التي نقبلها مثل طلب العلم واحترام العمل وإقرار القانون وحفظ الحقوق وتقدير الكفاءات وغيرها ونحدد القيم الغربية التي يجب ان نرفضها كالشذوذ والتسيب والانحلال وتحطيم البيت الأسري والفردانية المادية والأنانية البغيضة وغيرها. ان رسم الخطوط الفاصلة ضرورة قصوى في هذا العصر الذي عصفت فيه العولمة الفكرية والهندسة الثقافية بالمفاهيم وكسرت الحواجز.
الخاتمة
لا نستطيع تعميم المراحل الأربع على جميع العلاقات، فهناك من يبهر قلبك عاطفيا ويملك عقلك فكريا وتزداد اعجابا به كلما عشت معه وازددت قربا منه. لكن الغالب العام في العلاقات الإنسانية ان تمرّ عبر المراحل الأربع المذكورة والتي ذكرنا شواهد عليها من التقنية والأسرة والإدارة والثقافة.
؛؛من المهم أن نتذكر أنّ مرحلة الانبهار غالبا يتبعها مرحلة خيبة أمل ثم تليها مرحلة الدراسة والتصويب حتى نصل في النهاية الى مرحلة الاستقرار؛؛
لذا من الحكمة التأني وعدم العجلة في الحكم على الأمور او الانخراط في علاقات غير مشروعة نتيجة كلام عاطفي معسول سيترك خلفه لامحالة خيبة أمل مدوية، او الاستعجال في إنهاء علاقة زواج أسرية نتيجة خلاف بسيط يمكن التفاهم عليه والوصول الى مرحلة هدوء وتوافق مستقرة، او الوقوع ضحية الهندسة الثقافية الغربية والتخلي عن القيم والفضائل الأخلاقية كالشرف والعفة والنزاهة سعيا وراء سراب لا حقيقة وراءه.
سأترك للقارئ الكريم، مهمة التعمق أكثر في هذه المراحل لدراسة جوانب قوتها (فمثلا مرحلة الانبهار العاطفي توفر فرصة عظيمة للزوجين للتوافق والتفاهم قبل مرحلة خيبة الأمل، وتوفر بالمثل فرصة لرئيس الشركة لينفذ خططه وأفكاره في زخم الفرصة التاريخية بعد تعيينه قبل ان يخبو الحماس وهكذا دواليك في المراحل الأخرى)، فلكل مرحلة خطط عمل مناسبة، يجب أن نستفيد من فرصها الايجابية وأن نتجنّب مخاطرها السلبية، والحمد لله رب العالمين.
موضوع شيق و تحليل رصين .. بوركت و بوركت كتاباتك .
تحليل منطقي للسلوك البشري يجسد الواقع والحقيقة في العلاقات البشرية ويضع منهجا للتعامل بشكل منطقي صحيح لمشاكل العلاقات ووضعها في المسار الصحيح.
سلمت يداك وانار الله بفكرك العقول
مقال رائع جدًا ومقاربة اكثر روعة وأسلوب سهل ومشوق. نفع الله الناس بعلمك👍🌹
أجاد الدكتور مشكوراً في مقالته الرائعة والماتعة في وصف علاقة الانسان بأخيه الانسان ومسار تطورها من مرحلة الاعجاب والانبهار مرورا بمرحلة التعقل والمراجعة إلى مرحلة القبول أو الرفض وأورد مصاديق وشواهد لمسار هذه العلاقة الانسانية وكيف تكون العلاقة مع الآخر المختلف وذكر مثالاً لذلك وهو العلاقة مع الغرب وحضارته المتقدمة التي لا ينكر أحد فضلها وإشعاعاتها الحضارية والعلمية والتقنية التي نتفيأ ظلالها ولا نتصور كيف نعيش بدونها ولكن الانفتاح عليها لا يكون على حساب الهوية والثقافة الوطنية وإنما ينبغي النهل والاغتراف من مناهلها الصافية والمفيدة وتجنب سلبياتها وإفرازاتها المضرة بمراجعة هذه العلاقة وأبعادها المختلفة ولا سيما منظومتها الثقافية وكذلك التمييز بين الغرب الحضاري الإنساني والغرب الاستعماري الذي تقوده الرأسمالية المتوحشة والليبرالية الجديدة.