لماذا ينبغي أن نثق بالعلم؟ مع أنه لا يثق بنفسه – ترجمة عدنان أحمد الحاجي

Why should we trust science? Because it doesn’t trust itself
(بقلم: جون رايت، زميل أبحاث فلسفة مستخلف، جامعة لا تروب، استراليا – John Wright)

الكثير من الناس يسلِّم بأن العلم مرشد يُعتمد عليه فيما يجب علينا أن نصدق ونعتقد بصحته – ولكن ليس جميعنا يسلِّم بذلك.

عدم الثقة بالعلم يؤدي إلى الشك في العديد من القضايا المهمة، من نكران / رفض التغير المناخي(1) إلى التردد في أخذ اللقاحات أثناء جائحة كوفيد. وبينما يميل معظمنا إلى رفض مثل هذه الشكوك باعتبارها غير مبررة، فإنها تثير السؤال التالي: لماذا يجب علينا أن نثق بالعلم؟

مصدر الصورة: cosmosmagazine.com

بصفتي فيلسوفًا يركز على فلسفة العلم، فإن هذا السؤال يثير اهتمامي بشكل خاص.  كما اتضح، فإن الغوص في أبحاث المفكرين العظماء يمكن أن ينفع في تقديم إجابة على هذا السؤال.

الحجج السائدة

يعتقد أحدهم أنه قد يتبادر إلى الذهن في البداية أنه يجب علينا الوثوق بالباحثين العلميين لأن ما يقولونه صحيح.

لكن هناك مشاكل مع هذا الاعتقاد.  المشكلة الأولى هي تتمثل في السؤال عما إذا كان ما يقوله الباحث هو الحقيقة في الواقع. الثانية هي أن المشككين عادة ما يذكرون أن الباحثين العلميين مجرد بشر وبذلك سيبقون عرضة لارتكاب الأخطاء(2).

أيضًا، لو نظرنا إلى تاريخ العلم، نجد أن ما اعتقد باحثو العلم في الماضي بصحته غالبًا ما تبين لاحقًا أنه غير صحيح.  وهذا يشير إلى أن ما يعتقد الباحثون بصحته في الوقت الحالي قد يتضح في يوم من الأيام أنه غير صحيح.  بالنتيجة، كان الناس في الماضي يعتقدون أن الزئبق يمكن أن يعالج مرض الزهري(3)، وأن البروزات في جمجمة المرء قد تكشف عن سمات شخصيته (الفينورولوجيا)(4).

الصورة: فراسة الدماغ(4) الذي كان علمًا زائفًا شائعًا في القرن التاسع عشر ادعى أن بروزات الجمجمة يمكن أن تكشف عن سمات المرء العقلية.

طرح آخر جذاب بشأن لماذا علينا أن نثق بالعلم هو أنه مرتكز على “حقائق ومنطق”. قد يكون هذا صحيحًا، ولكن لسوء الحظ لا ينفع إلَّا بشكل محدود في إقناع شخص يُؤْثِر رفض ما يقوله الباحثون العلميون.  يدعي كل طرف من طرفي النزاع أن الحقائق هي لصالحه؛ لكن من المعروف أن منكري تغير المناخ يقولون إن ظاهرة الاحتباس الحراري هي مجرد “نظرية”.

كارل بوبر (Popper) والطريقة العلمية

إحدى الإجابات المؤثرة في سؤال لماذا علينا أن نثق بأهل العلم هي أن هؤلاء الباحثين يوظفون المنهج العلمي.  وهذا بالطبع يثير التساؤل التالي: ما هو المنهج العلمي؟

من المحتمل أن يكون التفسير الأكثر شهرة هو الذي قدمه الفيلسوف في فلسفة العلوم كارل بوبر(5)، الذي كان له تأثير في عالم الفيزياء الرياضية الحائز على جائزة آنيشتاين(6)والحائز على جائزة نوبل في علم الأحياء(7) وفي الفسيلوجيا والطب(8).

 البريطاني النمساوي كارل بوبر (1902-1994) كان من بين أكثر فلاسفة العلم تأثيرًا في القرن العشرين. 

بالنسبة لبوبر(9)، يتقدم العلم عن طريق ما يسميه بـ “الحدس(10) والدحض”.  يواجه الباحثون بعض الأسئلة، ويقدمون إجابة ممكنة عليها.  تعتبر هذه الإجابات حدسًا، بمعنى أنه، على الأقل في البداية، لا يُعرف ما إذا كانت هذه الاجابات صحيحة أم غير صحيحة.

يقول بوبر إن العلماء يبذلون قصارى جهودهم لدحض هذه الحدسية أو إثبات خطأها.  عادة ما تُدحض وتُرفض وتُستبدل بحدسية أخرى أفضل منها.  هذه الحدسية الجديدة تخضع أيضًا بعد ذلك لعمليات الاختبار، وتستبدل في النهاية بحدسية أفضل منها.  بهذه الطريقة يتقدم العلم.

في بعض الأحيان يمكن أن تكون هذه العملية بطيئة جدًا.  توقع ألبرت أينشتاين وجود موجات ثقالية(11) قبل أكثر من 100 عام، كجانب من نظريته في النسبية العامة(12).  لكن في عام 2015 فقط تمكن العلماء من رصد هذه الموجات الثقالية( 13).

يمكن نقض عبارة “كل البجع لونه أبيض” وعدّها افتراضاً قابلاً للدحض، لأن الدليل على وجود بجعات لونها أسود يثبت ذلك، 
وهذا الدليل متوفر، غير أن العبارة السابقة إن كانت صحيحة بالفعل، سيصعب إثبات صحتها.

بالنسبة لبوبر، فإن جوهر المنهج العلمي هو محاولة دحض أو نقض النظريات، وهو ما يسمى بـ “مبدأ الدحض(14)“.  إذا لم يتمكن الباحثون من دحض إحدي النظريات في غضون فترة طويلة من الزمن، على الرغم من بذلهم قصارى جهودهم، إذن، فإن صحة النظرية باتت “مؤكدة” ، وفقًا لمصطلحات بوبر.

وهذا يشير إلى واحدة من الإجابات الممكنة على سؤال لماذا يجب علينا أن نثق بما يخبرنا به الباحثون العلميون. ذلك لأنهم، على الرغم من بذلهم قصارى جهودهم، لم يتمكنوا من نقض / دحض الفكرة التي أخبرونا بصحتها.

حكم الأغلبية (15)

في الآونة الأخيرة، تم توضيح الإجابة على السؤال بشكل أكثر تفصيلًا في كتاب لمؤرخة العلوم نعومي أوريسكس (Naomi Oreskes) عنوانه: “لماذا تثق بالعلم(16) أقرت أوريسكس فيه بالأهمية التي يوليها بوبر لدور محاولة دحض النظرية، لكنها أكدت أيضًا على العنصر الاجتماعي والتوافقي للممارسة العلمية.

بالنسبة إلى أوريسكس، نحن نملك سببًا للثقة في العلم لأنه، أو إلى حد ما، هناك إجماع في وسط المجتمع العلمي (ذي العلاقة) على صحة ادعاء معين – بعد أن بذل نفس المجتمع العلمي قصارى جهده لدحضه وأخفقت جهوده.

فيما يلي صورة موجزة لما تمر به الفكرة العلمية عادة قبل ظهور إجماع على أنها صحيحة:

قد يعطي أحد الباحثين ورقة علمية عن إحدى الأفكار لزملائه، وبعد ذلك يقومون بمناقشتها.  أحد أهداف هذه المناقشة هو أن يبحثوا  عن شيء غير صحيح فيها.  لو نجحت الورقة في اجتياز عملية المناقشة هذه، فقد يكتب هذا الباحث ورقة قد راجعها الزملاء حول نفس الفكرة.  إذا اعتقد الأقران [الذين توكل لهم مراجعة الورقة من قبل محرر المجلة للحكم علي صلاحيتها للنشر] أنها جديرة بما يكفي، سيصار إلى نشرها.

بعض الباحثين الآخرين قد يخضعون الفكرة بعد ذلك لعمليات اختبارات تجريبية.  إذا اجتازت عددًا كافيًا من عمليات الاختبارات هذه، فقد يخرج إجماع على أنها فكرة صحيحة.

خير مثال على نظرية تخضع لهذه النقلة هي نظرية الاحتباس الحراري ومدى تأثير البشر فيها.  ترجع الفكرة القائلة بأن زيادة مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي للأرض قد تؤدي إلى الاحترار العالمي إلى أوائل عام 1896.

في أوائل القرن العشرين، ظهرت نظرية أخرى مفادها أن هذا لم يكن هو فقط ما يحدث، ولكن ثاني أكسيد الكربون المنبعث من الأنشطة البشرية (أي حرق الوقود الأحفوري) يمكن أن يسرع من ظاهرة الاحتباس الحراري. حصل هذا الطرح على بعض الدعم في ذلك الزمان، لكن معظم الباحثين ظلوا غير مقتنعين(17).

بيد أنه طوال النصف الثاني من القرن العشرين وحتى الوقت الحالي من القرن الحادي والعشرين، اجتازت نظرية تغير المناخ الناجم عن النشاط البشري بنجاح عمليات الاختبار الجارية لدرجة أن إحدى الدراسات التلوية الأخيرة وجدت أكثر من 99٪ من المجتمع العلمي ذي العلاقة يقبل بواقعية العامل البشري في تغير المناخ(18).  ربما بدأت هذا النظرية بكونها مجرد فرضية، واجتازت عملية الاختبار بنجاح على مدى أكثر من مائة عام، واكتسبت الآن قبولًا شبه شمولي.

خلاصة القول 

هذا لا يعني بالضرورة أنه يجب علينا قبول كل ما يقوله العلماء دون تمحيص.  هناك بالطبع فرق بين باحث واحد معزول أو مجموعة صغيرة من الباحثين تقول بصحة أمر، وبين إجماع داخل المجتمع العلمي على صحة أمر.

وبالطبع، ولأسباب متنوعة – بعضها عملي، وبعضها مالي، وبعضها لا هذا ولا ذاك – ربما لم يبذل العلماء قصارى جهودهم لدحض فكرة ما.  وحتى لو حاولوا مرات عديدة، لكنهم أخفقوا، في دحض نظرية معينة، فإن تاريخ العلم يشير إلى أن هذه النظرية قد تبقى غير صحيحة حين تظهر أدلة جديدة الى العلن في المستقبل.

إذن متى يجب أن نثق بالعلم؟ يبدو أن،وجهة النظر هذه التي جاءت من بوبر وأوريسكيس وكُتّاب آخرين في هذا الحقل العلمي،  هي أن لدينا سببًا جيدًا، ولكنه لا يخلو من أخطاء، لنثق بما يقوله العلماء، على الرغم من جهودهم في محاولة دحض إحدى الأفكار [للتي هي موضوع المناقشة]، حين لا يزال هناك إجماع على أن هذه الفكرة صحيحة.

مصادر من داخل وخارج النص:
1- https://ar.wikipedia.org/wiki/نكران_التغير_المناخي
2- https://www.scientificamerican.com/article/if-you-say-science-is-right-youre-wrong/
3- https://pharmaceutical-journal.com/article/opinion/syphilis-and-the-use-of-mercury
4- “فراسة الدماغ (phrenology) أوالحِصَافة وصاحبها الحصَّاف علم زائف قديم يقوم على أساس تقسيم الدماغ إلى ملكات فكرية، وتكون كل ملكة مسؤولة عن صفة معينة مع اعتبار أن الجمجمة تتكيف مع حجم الدماغ يفترض في الفرينولوجيا أن الملكة المسؤولة عن الغدر مثلًا ستكون دافعة للجمجمة مما سيؤدي لبروزها ومعرفة أن منطقة الغدر كبيرة عند هذا الشخص.  وقد ربطها البعض بما يشبه الشعوذة، وهي أقرب إلى الفراسة إلا أن جزءً بسيطاً منها يرتبط اليوم بعلم الأعصاب، وعلى الرغم من قلة المراجع العربية التي تناولت هذا العلم إلا أنها تعرف أحياناً «بفراسة الدماغ»، ويعتبر الطبيب الألماني فرانز جوزيف غال (1758 – 1828) من أهم مؤسيسيها وروادها.  يُعد علم فراسة الدماغ اليوم علمًا زائفًا.  كانت الصرامة المنهجية لعلم فراسة الدماغ موضع شك حتى بالنسبة لمعايير عصرها، نظرًا لأن العديد من المؤلفين اعتبروا علم فراسة الدماغ علمًا زائفًا في القرن التاسع عشر.  كان التفكير الفرينولوجي مؤثرًا في الطب النفسي وعلم النفس في القرن التاسع عشر.  يعتبر افتراض بأن الشخصية والأفكار والعواطف تقع في مناطق معينة من الدماغ تقدمًا تاريخيًا مهمًا نحو علم النفس العصبي”. مقتبس من نص ورد على هذا العنوان:  https://ar.wikipedia.org/wiki/فراسة_الدماغ
5- https://ar.wikipedia.org/wiki/كارل_بوبر
6- https://ui.adsabs.harvard.edu/abs/1991FoPh…21.1357J/abstract
7- https://royalsocietypublishing.org/doi/10.1098/rsnr.2013.0022
8- https://www.innovation-intelligence.com/bios/john-carew-eccles
9- https://view.officeapps.live.com/op/view.aspx?src=https%3A%2F%2Ffacelab.org%2Fdebruine%2FTeaching%2FMeth_A%2Ffiles%2F2009%2FPopper_1957.doc&wdOrigin=BROWSELINK
10- https://ar.wikipedia.org/wiki/حدسية_(رياضيات)
11- https://ar.wikipedia.org/wiki/موجة_ثقالية
12- https://ar.wikipedia.org/wiki/النسبية_العامة
13- https://www.ligo.caltech.edu/news/ligo20160211
14- ttps://ar.wikipedia.org/wiki/قابلية_دحض
15- https://ar.wikipedia.org/wiki/حكم_الأغلبية
16- https://press.princeton.edu/books/hardcover/9780691179001/why-trust-science
17- https://press.uchicago.edu/ucp/books/book/distributed/C/bo8670161.html
18- https://iopscience.iop.org/article/10.1088/1748-9326/ac2966

المصدر الرئيس:
https://theconversation.com/why-should-we-trust-science-because-it-doesnt-trust-itself-188988

الأستاذ عدنان أحمد الحاجي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *