من أين تأتي هواجسنا: كيف تؤثر المشاعر الدقيقة على الهواجس العفوية – ترجمة عدنان أحمد الحاجي

Where our thoughts come from: How microemotions affect spontaneous thought
(بقلم: فرانسوا ريشر، برفسور علم النفس العصبي ، جامعة كيبيك بمونتريال – Francois Richer)

هواجسنا [خواطرنا، وهي أفكار عابرة تمر على الذهن سريعًا، في جزء من الثانية، وتذهب، مع أن هناك من يرى أن ما ثبت من صور من هذه الهواجس في الذهن فقط يسمى خواطر] هي بمثابة مسرح خاص بنا، وبحد ذاتها يمكن أن تبهرنا.  وفي بعض الأحيان لا يمكن توقع متى تأتي وأحيانًا تأتي صدفةً في اللحظة المناسبة. خواطرنا تفاجئنا، وتحفزنا، وتبعثتا على العمل وأحيانًا تدفعنا إلى البكاء.  بقدر ما تستطيع هذه الخواطر أن تثير مشاعرنا، فمشاعرنا تستطيع أيضًا أن تثير خواطرنا: مشاعرنا تؤثر فيما يُعرض على مسرحنا العقلي / الذهني.

الصور والعبارات العابرة في أذهاننا جزء كبير من حياتنا.  وفقًا لبعض التقديرات المستندة إلى انتقال الدماغ بين حالات تلوية (meta-state) [كانتقاله بين أحداث فيلم سينمائي أو رواية(1)] في بيانات التصوير العصبي، قد يكون لدينا من أربعة خواطر إلى ثمانية في الدقيقة الواحدة(1).  حتى مع الأخذ في الاعتبار بعض فترات التعب أو الفتور واللامبالاة والعديد من الفترات التي نقضيها في الاحساس بالمدخلات الحسية (كالقراءة أو الاستماع)، يمكن أن تتراكم إلى ما يصل إلى عدة آلاف من الخواطر في اليوم الواحد.

تنجم عن العديد من الاضطرابات النفسية تغييرات في حبل الأفكار.  غالبًا ما تؤدي حالات الهوس واضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة (ADHD) والقلق إلى تسارع وتزاحم الخواطر(3) [المترجم: كما يحدث في اضطرابات المزاج (4)]، في حين أن الاكتئاب والخرف غالبًا ما يقللان من تسارع الهواجس(5).

هواجس لا إرادية / عفوية

يمكن تصنيف العديد من الهواجس على أنها عفوية أو لا إرادية. تتبادر إلى الذهن.  ولا تبدو أنها مقصودة.  قد يكون بعضها فِكَرًا “ideas” (جمع فكرة) أو حدسًا متعلقًا بحالة قائمة، أو هواجس اقتحامية(6) مرتبطة بانشغالات تستحوذ على التفكير، أو “التداعي الحر(7)”حين يكون هناك شرود ذهني. بعضها عبارة عن استعادة للسيرة الذاتية(8، 9) بالاقتران مع تجارب / ممارسات حدثت مؤخرًا. [المترجم: الفرق بين الخواطر (thoughts) والفِكَر (ideas) هي أن الأولى هي عملية ذهنية مستمرة وغير منقطعة تقريبًا، بينما الثانية هي عمليه أو خطة تجري في الذهن وتتعلق بإنجاز مهمة أو عمل معين، وتعتبر الأولى مقدمة للثانية (10، 11)].

من أين تأتي الخواطر العفوية؟ المصدر الواضح لهذه الخواطر لابد أن يكون الإثارة البيئية [المترجم: ومنها الإثراء البيئي(12)]:  الخواطر التي يستدعيها كل ما نراه وما نسمعه. بيد أنه غالبًا ما تظهر الخواطر العفوية عندما تكون البيئة المحيطة مستقرة نسبيًا، في مثل المشي في طريق مألوف أو الجلوس في حافلة.

تلعب المشاعر دورًا رئيسًا في العديد من أنواع الهواجس العفوية

غالبًا ما تنبثق الهواجس العفوية من الذاكرة طويلة الأمد(13)، عبارات اصطلاحية وصور وأفعال وفِكَر تسفر عن أحلام.  تعتبر لبنات البناء الذهنية هذه: النشاط الجماعي لشبكات الخلايا العصبية في المادة الرمادية في الدماغ والتي قويت روابطها من خلال العديد من التجارب والممارسات.

عادة ما تكون هذه الشبكات العصبية غير نشطة، ولكن عندما تُثار بسبب نشاط دماغي آخر، مثل وجود مثير، كخاطرة ذات علاقة أو حالة جوع، فإنها تتنافس للدخول إلى حالة الوعي بحسب قوتها.  تتأثر القوة التنافسية لهذه الشبكات بأهميتها لمقتضى حالتنا ووضعنا، ولكنها أيضًا تتأثر بأهدافنا أو احتياجاتنا أو اهتماماتنا أو مشاعرنا.  نفكر تلقائيًا في الطعام عندما نحس بالجوع ولكن أيضًا عندما يكون لدينا عشاء مهم يتعين علينا الإعداد له.

تلعب المشاعر دورًا رئيسًا في العديد من أنواع الخواطر العفوية.  على سبيل المثال ، الهواجس الاقتحامية تفرضها علينا مشاعرنا، لذلك نركز على المعلومات التي لها أولوية عالية وكأنها تهديدات أو إحباطات أو فرص(14). غالبًا ما ينجم عن القلق هواجس اقتحامية لافتة للانتباه إلى تهديدات حقيقية أو متصورة.  في حالة الكرب التالي للصدمة (PSTD)، يمكن أن يتسبب ذلك في استرجاع ذكريات الماضي واجترار الأفكار(15).

على الرغم من أن المشاعر السلبية تجعلنا نركز على المحتوى الذي له أولوية عالية، يبدو أن المشاعر الإيجابية تيسر الاقترانات البعيدة أو غير العادبة بين الأشياء، مما يقوي الذاكرة ويرفع من مستوى الإبداع.  أثناء الابتهاج / النشوة(16) – وهي السعادة الشديدة أو المتعة الشديدة التي قد لا تتناسب مع دواعيها / مسبباتها – غالبًا ما تتضمن الخواطر الاقتحامية توقعات متفائلة وفِكَرًا خيالية.  الشغف يبعث على الخواطر العفوية الإيجابية(17).

المشاعر الدقيقة 

حتى أثناء الأنشطة اليومية الخالية من الأحداث، فإن المشاعر الضعيفة أو المشاعر الدقيقة (microemotion)، مثل الهموم أو الرغبات أو الامتعاض أو الضغط النفسي أو الإندهاش أو الاهتمام كلها معنية بتوجيه الكثير من خواطرنا(18).

المشاعر الدقيقة سريعة وغالبًا ما تكون عفوية / لا إرادية. المشاعر تثير بشكل أساس الحركات الدقيقة، مثل شد العضلات أو تعبيرات الوجه الدقيقة(19) وتصدر استجابات فسيولوجية صغيرة بما فيها إفراز الأدرينالين واستجابات القلب والأوعية الدموية (20).

غالبًا ما يُثير الخوفُ الشديدُ من الأشياء الصغيرة (Micro-fears) خواطرَ وهموم(21) مسألة “ماذا لو” [ مثل، ماذا لو حدث هذا أو حدث ذاك] التي تُبقي على القلق مستمرًا من خلال حلقة ارتجاع إيجابية [المترجم: عبارة ايجابية هنا تعني زيادة في القلق](22)؛ هذا بدوره يمكن أن يكون مصدرًا للأرق(23).  الرغبات تولد الخواطر بانتظام وكأنها أهداف ورغبات ومحاور حوار.

يثير الشعور الدقيق [المترجم: كما قلنا: الدقيق هنا بمعنى السريع جدًا – في غضون جزء من الثانية] بالذنب أو الشعور الدقيق بالفخر حدسًا أخلاقيًا(24) لرفض الآخرين المتوقع أو قبولهم، وهو أمر ضروري لتطوير السلوك المحابي للمجتمع، مثل التعاون والمساعدة وأنواع سلوكيات أخرى تفيد الآخرين.  قد يؤدي الشعور بالملل / بالسأم الدقيق(25) أو التوق للاثارة إلى تشتت الانتباه أو شرود الذهن وقد يكمن وراء بعض أعراض نقص الانتباه(26).

الصورة: تُحفز المشاعر الدقيقة نفسها من خلال الادراك الحسي أو بفكرة ، غالبًا ما تكون عفوية، والتي تكون مهمة بما يكفي لتنشيط الأنظمة الانفعالية بشكل غير ملاحظ. 

تؤثر المشاعر الدقيقة في هواجسنا بعدة أوجه(27).  فهي تصرف انتباهنا عن موضوعها القائم،  وتستثير جهاز الإدراك الحسي(28) لملاحظة الأشياء المتعلقة بمحورها السائد وتسهل من استرجاع الذكريات ذات الصلة بهذا المحور.  تثار المشاعر الدقيقة نفسها بالادراك الحسي أو بفكرة، غالبًا ما تكون عفوية، والتي تكون مهمة بما يكفي لتنشيط الأنظمة الانفعالية بشكل غير ملاحظ [الأنظمة الانفعالية توجد تحت الفص الدماغي في الثديات ومنها: السعي وراء الاثارة، والغضب والخوف والشهوة الجنسية(29)].

اللوزة الدماغية

تستطيع الانفعالات أن تنشط الخواطر العفوية من خلال العديد من  الدارات (circuits) الدماغية التي تتمركز حول محور يسمى اللوزة الدماغية.  يتمتع هذا المحور بإمكانية الوصول إلى رغباتنا ودوافعنا التي تُنشَط في الأجزاء المنخفضة من الفص الأمامي.  ويستطيع هذا المحور أن يفسر أهمية الادراكات الحسية أو الذكريات المُستَرجعة لإثارة المشاعر، ويمكن أن تؤثر المشاعر في هذه الادراكات الحسية أيضًا.

الصورة: تتمتع اللوزة الدماغية بإمكانية الوصول إلى رغباتنا واندفاعاتنا التي تُفعل  في الأجزاء المنخفضة من الفص الأمامي.

يُنشِّط مركز اللوزة أيضًا مقويات الاشارات العصبية في جذع الدماغ التي تغذي المادة الرمادية، مثل الأدرينالين والسيروتونين.  تعمل هذه الأنظمة على زيادة مستوى النشاط العصبي وتوجيهه نحو المحور / الموضوع الذي يتوافق مع المشاعر. عندما تكون الهواجس المثارة بحد ذاتها مثيرةً للمشاعر، تنشأ دورة ذاتية الاستدامة بين الخواطر وبين المشاعر التي لا يوقفها إلّا الإلهاء / التشتت أو العمليات المعرفية(31).

مصادر من داخل وخارج النص:
1- https://www.nature.com/articles/s41467-020-17255-9
2-https://orbi.uliege.be/bitstream/2268/189899/1/Piguet_toughts_mood_JAD_2010.pdf
3- https://orbi.uliege.be/bitstream/2268/189899/1/Piguet_toughts_mood_JAD_2010.pdf
4- https://ar.wikipedia.org/wiki/اضطراب_مزاجي
5- https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/13825589708256645
6- https://www.differencebetween.com/difference-between-idea-and-vs-thought/
7- https://ar.wikipedia.org/wiki/تداع_حر
8- https://royalsocietypublishing.org/doi/10.1098/rstb.2019.0693
9- https://ar.wikipedia.org/wiki/تدخل_(علم_النفس)
10- “ذاكرة السيرة الذاتية: هي نظام ذاكرة يتكون من حلقات مأخوذة عن حياة الفرد، تستند إلى مزيج من الذاكرة العرضية (التجارب الشخصية والأشياء المحددة، والأشخاص والأحداث المجربة في وقت ومكان معين) والذاكرة الدلالية (المعرفة العامة والحقائق حول العالم المحيط). ولهذا تعد نوعاً من الذاكرة الصريحة” ، مقتبس من نص ورد على هذا العنوان: https://ar.wikipedia.org/wiki/ذاكرة_السيرة_الذاتية
11- https://www.ba-hammam.com/ar/طبيعة-الفكرة،-وأنواع-الأفكار
12- https://ar.wikipedia.org/wiki/إثراء_بيئي
13- http://www.christofflab.ca/wp-content/uploads/2017/10/Christoff_2004_Cortex.pdf
14- https://journals.sagepub.com/doi/10.1177/2167702615577349
15- https://onlinelibrary.wiley.com/doi/abs/10.1023/B%3AJOTS.0000029266.88369.fd
16- “الابتهاج (euphoria) حالة السعادة الغامرة (النشوة) وهي عكس حالة الانزعاج أو عدم الارتياح، تعرّف طبياً على أنها حالة ذهنية وعاطفية يشعر فيها الشخص شعورًا شديدًا بالسعادة والفرح والإثارة والانتشاء والشعور بالذات.  وبشكل أدق فإن الابتهاج هو مجرد إحساس، ولكن المصطلح عادة ما يستخدم للدلالة على أقصى حالات السعادة المصاحبة للشعور التام بالرضا.   كما عُرفت على أنها: إحساس مبالغ فيه من السعادة والشعور بالذات” ، مقتبس من نص ورد على هذا العنوان: https://ar.wikipedia.org/wiki/ابتهاج
17- https://link.springer.com/article/10.1007/s10608-016-9755-3
18- https://www.frontiersin.org/articles/10.3389/fpsyg.2013.00415/full
19- “التعبير الدقيق (microexpression) هو تعابير الوجه والتي تستمر للحظة قصيرة فقط.  حيث أنه نتيجة فطرية للاستجابة الانفعالية الإرادية  واللاإرادية التي تحدث في وقت واحد وتتعارض مع بعضها البعض.  وتحدث عندما تقوم اللوزة (مركز المشاعر في الدماغ) بالاستجابة بشكل مناسب للمحفزات / المنبهات التي يمر بها الشخص ويرغب في إخفائها.  هذا يؤدي إلى إظهار الشخص مشاعره الحقيقة لفترة وجيزة ومن ثم يتبعها برد فعل انفعالي مزيف.  المشاعر / الانفعالات البشرية هي ردود فعل بيلوجية نفسية اجتماعية لا إرادية تنشأ في اللوزة الدماغية والتي تستمر عادة لفترة 0.5- 4.0 ثانية، على الرغم أن التعبير الجزئي عادة ما يستمر أقل من نصف ثانية.  بخلاف تعبيرات الوجه العادية، من الصعب جداً أو يكاد أن يكون مستحيلاً إخفاء هذه التعبيرات الدقيقة.  كما أنه من غير الممكن التحكم في التعبيرات الدقيقة لأنها تحدث في جزء من الثانية، ولكن من الممكن التقاط تعبيرات شخص ما بكاميرا عالية السرعة وإعادة تشغيلها بسرعات أبطأ بكثير.  التعبيرات الدقيقة هي عبارة عن سبع مشاعر: الاشمئزاز، والغضب، والخوف، والحزن، والسعادة، والإزدراء والمفاجأة. ومن ناحية أخرى، قام بول إيكمان -في فترة التسعينات- بتوسيع قائمة المشاعر الخاصة به التي تشتمل على مجموعة من المشاعر الإيجابية والسلبية التي لم تُرمز كلها في عضلات الوجه. حيث تتضمن هذه المشاعر: المتعة، والإحراج، والقلق، والشعور بالذنب، والفخر، والراحة، والرضا، والسرور، والعار” ، مقتبس ببعض التصرف من نص ورد على هذا العنوان: https://ar.wikipedia.org/wiki/التعبير_الدقيق
20- http://www.gruberpeplab.com/3131/8.2_Levenson_2003_Bloodsweatfears.pdf
21- http://www.staff.city.ac.uk/%7Esc318/PDF%20files/daveyhampton1992.pdf
22- https://ar.wikipedia.org/wiki/ارتجاع_إيجابي
23- https://ar.wikipedia.org/wiki/أرق
24- https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0928425707000642?via%3Dihub
25- https://ar.wikipedia.org/wiki/سأم
26- https://journals.sagepub.com/doi/10.1177/1087054719865781
27- https://www.frontiersin.org/articles/10.3389/fpsyg.2013.00415/full
28- https://ar.wikipedia.org/wiki/جهاز_الإدراك_الحسي
29- http://www.asdn.org/wp-content/uploads/1-Motivated-Brain-Excerpt-pgs.pdf
30- https://psycnet.apa.org/doiLanding?doi=10.1037%2Fa0026187
31- https://ar.wikipedia.org/wiki/وظائف_تنفيذية

المصدر الرئيس:
https://theconversation.com/where-our-thoughts-come-from-how-microemotions-affect-spontaneous-thought-177241

الأستاذ عدنان أحمد الحاجي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *