أي مشروع يبدأ أولا بفكرة، والفكرة تكون هاجس عند الذي يفكر بها وتسيطر عليه وتنمو داخل عقله حتى تصبح فكرته منطقيه وقابله للتنفيذ وعندما يتم تجهيز هذه الفكرة بالشكل الصحيح تصبح فرصة عمل حقيقيه.
هذه الفكرة ما لم يتم تبنيها من قبل من يستطيع تطبيقها على ارض الواقع (خاصة إذا كانت هذه الفكرة تصب في مصلحة البلاد والمجتمع والأفراد) قد تنتهي هذه الفكرة الى الفشل مع أول إحباط وتموت قبل حتى ان تولد وتصبح خسارة فادحة قد تأخذ الكثير من السنوات الطوال حتى يتم تبنيها من قبل الجهات المعنية خاصة إذا كانت هذه الفكرة بيئية تصب في مصلحة البلاد، ومصلحة المجتمع والافراد وبالتالي كوكب الأرض على حد سواء.
في مقالي هذا سأتطرق الى مشكلة بيئية طالما كتبت الكثير من المقالات بخصوصها ولطالما ألقيت الضوء عليها لأهميتها القصوى على الانسان والبيئة وإعادة التوازن للبيئة البحرية التي دمرناها على مر نصف قرن من الزمان ، إما بشكل متعمد وإما لمصالح شخصية للأسف او لجهل البعض بأهميتها.
لقد دمرنا أكثر من 95% من أشجار القرم إبتدأ من صفوى شمالا ومرورا بالقطيف وتاروت وعنك وانتهاء بالدمام جنوبا، بل أكثر من ذلك، فبعض المناطق دمرناها بالكامل خاصة في منطقة القطيف وعنك حيث لا يوجد اثرا يذكر لهدة الشجرة على الاطلاق وذلك للتمدد العمراني الجائر خلال الخمسين عاما الماضية وسوء التخطيط والجهل البيئي.
كان من نتائج ذلك، تدمير البيئة البحرية مما اذى الى نقص حاد في ثروتنا السمكية التي تعيش عليها الكثير من الأسر. كذلك، فقدنا الكثير من الطيور المهاجرة التي كانت تعشعش على تلك الأشجار واختفاء الكثير من الاحياء البحرية التي لم نعد نراها او انقرضت من منطقتنا.
بالإضافة الى ما ذكرت, فقدنا الغطاء البحري الأخضر الجميل الذي كان يمتد على مد البصر والذي يعتبر عاملا من عوامل التوازن البيئي المهم لتخزين الكربون الأزرق الذي تمتصه أشجار القرم من الجو وتخزنه في التربة حيث وضحت الكثير من الدراسات الحديثة و التي نشر بعضها في مجلة (Nature Geoscience Journal) حيث بينت هذه الدراسات, أن غابات القرم (المانقروف) تخزن 456 طنًا من الكربون لكل فدان ، في المتوسط ، أو ما يقرب من ثلاث إلى أربع مرات أكثر من العديد من الغابات المطيرة المعتدلة والاستوائية أي ان هذه النباتات عامل مهم من عوامل التقليل من كمية الكربون في الجو مما ينتج عنه هواء نقي نظيف و ينتج عنة التقليل من المخاطر الصحية على الافراد و المجتمعات وكذلك كوكب الأرض على حد سواء.
وإذا لم تكن لديك فكرة عن ماهية تخزين الكربون فهو ببساطة القدرة على إخراج ثاني أكسيد الكربون، وهو غاز عديم اللون والرائحة، من الغلاف الجوي وتخزينه.
يمكن العثور على الكربون بشكل أو بآخر في جميع الكائنات الحية في التربة والنباتات والحيوانات والمياه والهواء ويتحرك بين هذه العوائل فيما يعرف بدورة الكربون.
هذه الدورة، تسمي الأماكن التي تطلق الكربون في الغلاف الجوي “مصادر” الكربون وتلك التي “تحبس” الكربون تسمى “أحواض” الكربون. هناك عدد من “المصادر” و “الأحواض” ولكن لتبسيط الأمور، سنركز على الدور الذي تلعبه النباتات في قصة الكربون.
يطلق على الغابات أحيانًا اسم “رئتي الكوكب” أي أن النباتات “تستنشق” ثاني أكسيد الكربون (CO2) من الهواء و “تتنفس” الأكسجين والفكرة العامة هي أن النباتات تستخدم ثاني أكسيد الكربون للمساعدة في إنتاج الطاقة التي تحتاجها للبقاء على قيد الحياة حيث يتم تخزين بعض من هذا الثاني أكسيد الكربون في النبات نفسه، وفي بعض الحالات، يتم نقل الكثير منه إلى التربة الموجودة تحته وبمرور الوقت، تتراكم رواسب التربة؛ تصبح الكتلة ثقيلة ومضغوطة. سريعًا إلى الأمام بضعة آلاف من السنين تتشكل المادة المتحللة في التربة في النهاية الى رواسب من الوقود الأحفوري مثل الفحم والنفط والغاز الطبيعي.
وتعتبر الأراضي الرطبة (المانقروف والأعشاب البحرية والمستنقعات) من أكثر أحواض الكربون النباتية فاعلية حيث تشير بعض الدراسات إلى أنها تمتص ما يصل إلى عشرة أضعاف ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي عن متوسط الغابات المطيرة وبينما تخزن معظم الغابات الاستوائية الكربون فوق الأرض، فإن الأراضي الرطبة تنقل أيضًا الكثير من الكربون إلى التربة.
المانقروف هو نظام بيئي رئيسي للأراضي الرطبة في المناطق الاستوائية وهي تحجز الرواسب والمواد العضوية التي تحركها التيارات المائية عبر جذورها لتشكيل طبقات سميكة من طين المانقروف. كما يتم احتجاز الأوراق المتساقطة وغيرها من المواد النباتية والحيوانية المتحللة داخل الركيزة الطينية الخانقة مما يزيد من كمية الكربون المرتفعة في تربة المانقروف.
وللأسباب التي ذكرت، دعونا ننسى ما مضى وننسى ما سببناه من تدمير للبيئة سواء كان في البحر او في الصحراء ونبدأ بجد وهمة لإعادتها الى ما كانت عليه او الى احسن حال مما كانت عليه, دعونا نحقق اهداف رؤية 2030 التي أطلقها الأمير الشاب ذو الرؤية الثاقبة صاحب السمو الأمير محمد بن سلمان حفظه الله ورعاه، ونمضي بجهود حثيثة نحو تحقيق قفزة نوعية ورائدة في مجال حماية البيئة وتنمية الغطاء النباتي كاستراتيجية وطنية تستهدف حماية البيئة، والتي ستنعكس آثارها على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي، في الحد من التصحر، وتعزيز التنوع الإحيائي، بما يحقق بيئة أكثر استدامة وترتقي بجودة الحياة في مختلف مكوناتها.
فجهود المملكة رائدة في حماية البيئة وتنمية الغطاء النباتي، وهي امتداد لجهودها في العناية بالغطاء النباتي والتشجير على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي، والذي بلورته مبادرة السعودية الخضراء ومبادرة الشرق الأوسط الأخضر، علاوة على المبادرة العالمية نحو الحد من تدهور الأراضي وتعزيز وحماية الموائل البرية لإصلاح الأراضي ووقف تدهور التربة، إضافة إلى المبادرة العالمية للحفاظ على الشعب المرجانية التي أُعلن عنها أثناء رئاسة المملكة لمجموعة العشرين في 2020، والمبادرة التي أطلقتها مؤخراً، “نيوم” بالتعاون مع المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر بزراعة 100 مليون شجرة محلية كجزء من العشرة مليارات شجرة التي ستتم زراعتها حول العالم، وإعادة تأهيل 1.5 مليون هكتار من الأراضي والمحميات الطبيعية وإصلاح موائل الحياة البرية في “نيوم”.
ولتحقيق هده الرؤية المباركة صار علينا لزاما ان نضع أيدينا جميعا افرادا ومجتمعات ومؤسسات حكومية وبيئية ذات صله لجعل هدا الحلم واقعا لينعم الجميع ببيئة صحية خالية من التلوث وبهواء نقي يعكس جودة الحياة. دعونا نضع استراتيجيات واضحة المعالم وعملية للقيام بما يجب القيام عليه ودعونا نرسم مستقبل واعد لأولادنا واحفادنا في بيئة نظيفة وجو نظيف خالي من الكربون والتلوث والذي ندفع له الكثير من المال والصحة ودعونا نرسم بيئة خالية من المخاطر الصحية والكوارث الأخرى لا سمح الله بكل وعي وهمة. ودعونا نساعد في تحقيق ما أخبر به رسول الله (صل الله عليه واّله) حيث قال: “لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا، وحتى يسير الراكب بين العراق ومكة لا يخاف إلا ضلال الطريق” ، فحب الوطن يجمعنا.
وفي مقالي هدا ادعو مسؤولي محافظة القطيف والمؤسسات البيئة ذات الصلة الى البدء في تأسيس مهرجان سنوي لإعادة استزراع شجرة القرم وذلك ما بين شهر أغسطس حتى نهاية شهر اكتوبر من كل عام وهي الفترة التي تنضج فيها ثمار شجرة القرم (المانقروف) كما دعوت في مقالات سابقة لتأسيس هدا المهرجان. هذا المهرجان السنوي يكون بمثابة مهرجان بيئي توعوي وفي نفس الوقت مهرجان لجمع ثمار هده الشجرة واستزراعها وزيادة مساحتها في موطنها الأصلي بحيث يتم مشاركة الجميع ومن كل طبقات المجتمع وبشكل تطوعي.
بإقامة هدا المهرجان السنوي كما ذكرت في مقالي السابق نكون قد حققنا الأهداف التالية:
- زيادة المساحة الخضراء
- إعادة التوازن الطبيعي للبيئة البحرية
- تحسين جودة الهواء في الجو
- تقليل الانبعاث الكربوني
- قطف ثمار القرم ودعوة العامة في المساهمة الى زراعتها وزيادة مساحتها
- انشاء غابات تشبه الغابات المطيرة الاستوائية وبذلك نسهم في تغيير الجو وجذب السحب الماطرة
- إقامة ندوات ومؤتمرات بيئية تدعى اليها النخب ذات الصلة بالشأن البيئي
- التشديد على إيقاف أي تعد سواء عمراني او بشري على هده الشجرة واتخاد الخطوات العملية وتشديد العقوبات على المتعدين
- الدعوة الي بيئة هده الأشجار وعلى مدار السنة وبث التوعية للعامة لأهمية نظافة البيئة البحرية
- تنشيط السياحة وجذب السياح
- تنشيط الاقتصاد المحلي
- إقامة أنشطة ترفيهية
- إعادة الحياة البحرية على ما كانت علية من منذ عقود
- إقامة مشاريع مصاحبة وخلق وظائف للسكان المحلية
- إقامة وانشاء ممرات مماثلة لما قامت به أرامكو السعودية
- إقامة صناعات ذات صلة بأشجار القرم
- إقامة مشاتل للإكثار من هده الشجرة على غرار ما قامت به أرامكو السعودية والاستفادة القصوى من تجربتها
- توسيع إقامة المناحل وتخصيص مناطق وسط أشجار القرم وبذلك نسهم في نمو الاقتصاد المحلي وتنويع مصادر الدخل والذي يكون داعما للاقتصاد العام للدولة
- انشاء أسماء مسجلة لكل المناحل وتصدير العسل المنتج الى دول الجوار وحتى العالم ويكتب عليه “أنتج في المملكة العربية السعودية”
هده المهرجانات المبتكرة تعتبر من المشاريع المحلية التي تهدف الى المحافظة على شجرة القرم (المانقروف) والتي يمكن ان تكون لها اثارا تنموية مستدامة إيجابية عن طريق حماية النظم البيئية المهددة وتحسين سبل عيش الأفراد والمجتمع المحلي وجعله نموذجا بيئيا يحتذى به ويعمم على بقية مناطق المملكة ذات الصلة بشجرة القرم (المانقروف). وكما دكرت في مقالاتي السابقة فان هدفي لفت الانتباه والتوعية لهدة الشجرة البالغة الأهمية للبيئة والكوكب وكلي امل ان يرى هذا المقال كمثلة من المقالات البيئية الاّذان الواعية واتخاذ الخطوات الملموسة والعملية لحمايتها ولنرى هده الأفكار والمشاريع على ارض الواقع لنحمي بلدنا من الكوارث البيئية وحماية الأجيال القادمة ولنضع خططا سنوية ما بين شهر أغسطس حتى نهاية شهر اكتوبر من كل عام لزراعة الآلاف من هده الشتلة سنة بعد سنة حتى نصل الى ما نطمح له ويطمح له صاحب السمو حفظه الله في رؤيته 2030.
واختتم مقالي بما ورد في موقع (https://ar.wikipedia.org) عن خليج تاروت:
“تعرضت سواحل خليج تاروت إلى الردم الجائر الذي أدى إلى تقليص واضمحلال أشجار القرم البحرية، وكان لذلك أثر كبير على البيئة البحرية، حيث انخفضت محاصيل الصيد واختفت العديد من أنواع الأسماك. وقد طالبت كثير من العوائل المعتمدة على مهنة الصيد لمورد رزقهم منع الرّدم، وتطرقت للأوامر السامية التي منعت الردم ومع ذلك الردم يستمر. وقد تم دفن العديد من تجمعات أشجار الشورى بالرمل أو بالنفايات، لتحويلها لأحياء سكنية كما في مدينة سيهات حيث دفنت أشجار الشورى التي يصل طولها لمترين بغمر الرمل عليها، وأدى إلقاء النفايات على التأثير السلبي لنمو هذه الأشجار وتوسعها.
تناقص المانجروف بنسبة 50% تقريباً، وذلك بمقارنة ومتابعة لغابات شجر القرم البحري في خليج تاروت عبر الأقمار الصناعية منذ عام 1973م، حيث كانت مساحة الغطاء من أشجار القرم البحري تبلغ 622 هكتاراً، وتقلصت هذه المساحة حتى وصلت عام 1999م إلى 390 هكتاراً، ومع استمرار عمليات الردم سيؤدي إلى تناقص المساحات المزروعة من الأشجار، مما سيسهم في اختلال التوازن البيئي البحري الذّي أداه ردم الخليج وتجريفه ورمي المخلفات ومياه الصرف الصحي فيه، حيث تُعتبر ذات الضرر الأكبر على غابات شجر القرم البحري. وتتزامن بيانات انخفاض مساحة غطاء أشجار القرم مع انخفاض كميات الصيد، حيث انخفضت من 200 طن للمركب الواحد في آواخر الستينات لتصل إلى 60 طن للمركب الواحد في أوائل ثمانينات القرن العشرين الميلادي”.
المصادر:
- https://www.audubon.org/news/measuring-carbon-mangrove-forests-important-climate-change-consideration
- https://www.arabnews.com/node/1953386/saudi-arabia
- https://wwf.panda.org/wwf_news/?210971/Sinks-and-Sources—Awesome-Mangroves
- http://mangrovesforfiji.com/mangroves/carbon-sequestration
- https://www.alriyadh.com/803720
- https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AE%D9%84%D9%8A%D8%AC_%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%88%D8%AA
- https://www.qatifscience.com/2022/07/23/%d8%af%d8%b9%d9%88%d8%a9-%d9%84%d8%aa%d8%a3%d8%b3%d9%8a%d8%b3-%d9%88%d8%a5%d9%82%d8%a7%d9%85%d8%a9-%d9%85%d9%87%d8%b1%d8%ac%d8%a7%d9%86-%d8%b3%d9%86%d9%88%d9%8a-%d9%84%d8%a5%d8%b9%d8%a7%d8%af%d8%a9/
مواضيع بيئية ذات صلة لنفس الكاتب:
- https://www.qatifscience.com/2022/01/20/الشجرة-التي-دمرناها-بأيدينا-بقلم-المه/
- https://www.qatifscience.com/2021/12/14/أثر-رمي-النفايات-العشوائي-على-الصحة-ال/
- https://www.qatifscience.com/2021/12/07/أوقفوا-تدمير-بيئتنا-البحرية-المتعمد-ب/
- https://www.qatifscience.com/2021/12/03/مناحل-شجرة-القرم-بقلم-المهندس-صادق-علي/
- https://www.qatifscience.com/2021/11/29/مهرجان-شجرة-القرم-السنوي-بقلم-المهندس/
- https://www.qatifscience.com/2021/10/08/نحو-استراتيجية-واحات-خضراء-وإعادة-ما-د/
- https://www.qatifscience.com/2021/09/28/حان-الوقت-لتأسيس-صناعة-بحرية-وبيئية-فا/
- https://www.qatifscience.com/2021/07/14/إعادة-استزراع-أشجار-المانجروف-القرم-و/
- https://www.qatifscience.com/2021/03/20/أشجار-المانجروف-القرم-وسبل-المحافظة-ع/
- https://www.qatifscience.com/2022/07/23/%d8%af%d8%b9%d9%88%d8%a9-%d9%84%d8%aa%d8%a3%d8%b3%d9%8a%d8%b3-%d9%88%d8%a5%d9%82%d8%a7%d9%85%d8%a9-%d9%85%d9%87%d8%b1%d8%ac%d8%a7%d9%86-%d8%b3%d9%86%d9%88%d9%8a-%d9%84%d8%a5%d8%b9%d8%a7%d8%af%d8%a9/