[الإنسان كائن محاكي – واللغة صناعة بشرية]
منشأ اللغة محاكاة
اللغة بما هي لغة (ألفاظًا ونحوًا) هي صناعةٌ بشرية. فالألفاظ التي نطق بها الإنسان في كل اللغات التي تكلم بها هي من صنعه. فالبَشَرُ وَحْدَهُمْ هُمْ صَانِعُوا لُغَاتِهم. وكانت بدايةُ اللغةِ مُحاكاةَ الإنسانِ لأصواتِ الطبيعةِ مِنْ حَولِهِ. مِنْ الصَعبِ تحديدُ زمنِ البداية لكن المحاكاة كانت تنمو بشكل متوازي لمسار تطور حياة الإنسان الإجتماعية وتشكل كياناته البشرية.
وعندما تجذرت محاكاة تلك الأصوات في حياته وأصبحت ممارسة يومية أو شبه يومية ، تبلورت إلى مستوى من التعبير اللغوي البدائي فكانت البذور الأولى التي منها نَبَتَتْ اللُغَاتُ في شكل ألفاظ بسيطة البنية الصوتية وبدائية النطق. نمو المجتمع البشري في بدايات أمره كان نموًا بطيئًا جدًا وربما كان متعثرًا أيضًا ، كما أنه إستغرق عصورًا طويلة. فمع بداية وجود الإنسان لم يكن هناك مجتمعات بشرية على الإطلاق ، كل ما كان موجودا هو أفرادٌ يماثلون الإنسان شكلا ويغايرونه حياةً ، فلا مسكن ولا لغة ولا ملبس بل كان وجوده كما عَبَّرَ عنه القرءان الكريم: “لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا” [الانسان – 1].
وهذا الطور من حياة البشر أشبه ما يكون بمرحلة الجنين من حياة الفرد. إلا أنها مرحلةٌ طويلةٌ جدا نما فيها الكيان البشري ببطءٍ شديدٍ وإتسعَ إنتشارُه على سطحِ الأرضِ فَتَفَرَّقَ إلى أجزاءٍ غيرِ متواصلةٍ. فكانت تلك الأجزاءُ تنمو بإستقلالٍ تامٍ عن بعضِها البعض، فتفاوتَتْ في سرعةِ النموِ حتى إذا بَلَغَ الجُزْءُ مِنْها مُسْتَوىً مِنْ النموِ إِكتسبَ معها خصائصَ جديدةً أَهَلَتْهُ تدريجيا للإنتقالِ إلى الطورِ الذي يليه. حتى إذا بلغت حياة الإنسان الإجتماعية طورًا أخذت فيها محاكاته للأصوات تتحول إلى اللبنات الأولى لبناء اللغة.
وذلك حين بلغت ممارسةُ الإنسانِ للمُحاكاةِ أن أصبحت جُزءًا أساسيا مِن حياتِه اليومية. ومِن هذه اللبنات وهي الأصواتُ المحاكاةُ، ولكلِ لغةٍ أمٍ لبناتها الخاصة بها والتي أَثْمَرَتْهَا بِيئَةُ مَسْقَطِ رَأْسِها، نَبَتَتْ الجذورُ اللغويةُ وهي ألفاظٌ بسيطة البناء وأحاديةُ الدلالةِ.
؛؛إن من أوضح الأدلة على محاكاة الإنسان الأول لأصوات من بيئته مكونًا منها لغتَه الأولى هي تعددُ لغات البشر وتباينها في أصواتها؛؛
فلكل لغة أو مجموعة من اللغات أصوات تنفرد بها دون غيرها. بل إن عدد لا بأس به من الأصوات في مختلف اللغات ليس عليه إجماع بين كل اللغات، وكل صوت لا تَتفق جميع اللغات على إستعماله دليل على أن ذالك الصوت صوت محاكى وليس صوتا بشريا من الأساس. فمثلا صوت العين “ع” تخلو منه كثير من اللغات، فلو أنه كان من أصوات الإنسان الفطرية لوجد في جميع اللغات.
قدرة الإنسان على النطق
الإنسان مذ كان وهو لديه القدرة على النطق، تماما كما كانت لديه القدرة على التمييز وكذلك كانت لديه القدرة على المشي وكانت لديه القدرة على إستعمال يديه للإمساك بالأشياء وحملها ونقلها من موضع إلى آخر. كل هذه القدرات وغيرها كانت لدى الإنسان منذ كان إنسانًا.
وإن كان هناك كائنٌ يماثلُ الإنسانَ في الشكل والهيئة وليس لديه هذه القدرات من النطق والتمييز وإستعمال اليد والمشي وغيرها فهو ليس بإنسان وإن ماثلَ الإنسان في البناء الجسدي وشاكله في المظهر الخارجي. فالإنسان هو كائن يمتلك القدرة على النطق والتمييز منذ يومه الأول ، ولكن ذلك لا يعني أن اللغات البشرية وُجِدَتْ مع الإنسان منذ أن وجد.
؛؛اللغة لم تخلق مع الإنسان وتعطى له ، بل هو مَنْ أوجدها؛؛
هناك أشياء كثيرة أوجدها الإنسان كما أوجد اللغة. فعلى سبيل المثال لا الحصر ، الأواني التي يستعملها الإنسان لطعامه وشرابه لم تخلق معه. مع أن الإنسان لا بد وأنه كان يأكل ويشرب منذ أن وجد إلا أنه مضت عليه حقب مديدة قبل أن يصنع الآنية وقبل أن يعرف إعداد الطعام وتخزينه وطهيه.
فقد مرت على الإنسان حقبٌ من الزمن مضت فيها أجيالٌ بعد أجيال وهو لا يعرفُ الأواني ولا إعداد الطعام ، ثم أوجدها وبدأ معها في إعداد طعامه. منذ أن وُجِدَ الإنسانُ وهو يراكم الخبرات عن الحياة ويستثمرها في تكييف حياته مع البيئة التي يعيش فيها.
وفي هذا السياق، كان نطقه يتماشى مع ذالك التكيف من منطلق أن تعاطيه مع الحياة كان تعاطيا جماعيا وليس فرديا. فالجماعية لدى الإنسان فطرة فرضت عليه التواصل بين أفراده وكانت تلك الغريزة المحرك الرئيس لقدرته على النطق (لقدرة النطق لديه) لتستخرج من الأصوات الموجودة في البيئة خيوط التواصل اللغوي البسيطة ولينسجها شيئا فشيئًا لغةً.
اللغة صناعة بشرية متجددة بإستمرار
ظهور اللغة ونموها وتطورها مرتبط بالحالة الإجتماعية للإنسان ونموها وتطورها. فاللغة ظاهرة إجتماعية حالها في ذلك حال غيرها من ظواهر التواصل الإجتماعي تماما كالكتابة والتعليم ووسائل الإتصال الحديثة وغيرها. فكلها نتاج تطورات الحالة الإجتماعية للإنسان وليست ناتجة عن تطور لطبيعة الإنسان (عضويا أو نفسيا). فالإنسان ما بعد الكتابة هو الإنسان ما قبل الكتابة، فكذالك الإنسان ما قبل المحاكاة لا يختلفُ في طبيعته عن الإنسان ما بعد المحاكاة والذي هو أيضًا لا يختلف في طبيعته عن الإنسان المعاصر.
؛؛فتنوع الأمثلة اللغوية (العربية، الهندية، الإنجليزية، …..) وتطورها دليل على أنها أي اللغة ظاهرة إجتماعية بحتة وليست وليدة تغيرات في بنية الإنسان أو طبيعته؛؛
فالإنسان الأول الذي لم يكن لديه أي معرفة على الإطلاق بهذه الأمثلة اللغوية لا يعني أنه لم يكن لديه لغة خاصة به ناهيك عن أن يكون ذا طبيعة تختلف عن طبيعة الإنسان المعاصر أو عن طبيعة أي إنسان كان يتحدث بأي لغة من اللغات التي عرفتها البشرية طيلة إمتداد وجودها.
كل ما في الأمر أن الإنسان الأول كان تواصل أفراده فيما بينهم يتم بحركات يحدثها بعضو واحد من أعضاء جسده أو بأكثر من عضو أو بالسير أو القفز وبإصدار أصوات بدائية ليست ألفاظًا. لم تكن تلك الأصوات ذات معاني راسخة في الوعي. وكانت تلك الأصوات أيضًا قليلة جدّا ربما صوتان أو ثلاثة. فكيفية التواصل لدى كل أبناء الجنس البشري ما قبل المحاكاة هي واحدة عند الجميع تقريبًا وهي كما قلت ليست لها صورة واحدة إنما هي كانت تصدر عن إنفعالات الإنسان الطبيعية المنسجمة مع فطرته من قبيل إنفعالات الخوف أو الغضب أو الفرح وغيرها من الإنفعالات الفطرية لا عن توافق عليها وتفاهم مسبق بكيفية أدائها.
وقد إنتشر الإنسان الأول (الإنسان الأول هو الإنسان الذي لم يحاكِ، فكانت لغته لغة الفطرة لا تعرف تعدد الأصوات) على رقعة واسعة من المعمورة، فتفرقت أفراده وحدانا وجماعات وقد باعدت بينهم المسافات وفصلت بينهم التضاريس وعملت البيئات التي إستوطنتها أفراده وجماعاته ومناخاتها المختلفة على فرض واقع لكل جماعة مختلف عن الآخر مما حتم على كل واحدة منها التكيف مع بيئتها حسب معطيات واقعها المعاش.
الإنسان
الحديث عن اللغة لا يمكن أن يكون تاما من دون الحديث عن الإنسان الذي هو صانعها. وهنا يلزم التذكير بأنه لا ينبغي الخلط بين اللغة والقدرة اللغوية. فاللغة شيء متغير لأنها من معطيات الحياة الإجتماعية وهي إحدى سماتها الأبرز ، بينما القدرة اللغوية هي إحدى خصائص الإنسان التي يمتاز بها عن ما سواه من الكائنات الحية.
فالقدرة اللغوية وُجِدت مع الإنسان منذ أن كان إنسانا بغض النظر عن المستوى المدني لحياته ، ولم يكن الإنسان يوما ما خاليًا منها أو بدونها ، وإن كان وُجِدَ كائنٌ مماثل للإنسان من حيث الشكل والهيئة ولم تكن من خصائصه القدرة اللغوية التي يمتلكها الإنسان المعاصر ، فإن ذالك الكائن لم يكنْ إنسانًا وإن شابهَ الإنسان مشابهة تكاد تكون تامة.
؛؛فالإنسان متواصل لغويا منذ أَنْ نَشَأَ لكن لغةَ تَواصلِه هي التي تَتغير من حين لآخر مواكبة لسياق تطور حياته الإجتماعية مدنيًا؛؛
الإنسان الفطري هو إنسان يحمل جميع خصائص الإنسان المعاصر العضوية والعصبية. فهو من حيث البنية الجسدية والوظيفة العضوية كالإنسان المعاصر تماما وكذلك كان جهازه العصبي في مستوى الجهاز العصبي للإنسان المعاصر. بل يمكن القول بكل إطمئنان أنه لم يطرأ أي تعديل على كيان الإنسان منذ الأيام الأولى للإنسان الفطري.
المحاكاة
المحاكاة إحدى صفات الإنسان وهي الأبرز من بين صفاته التي يمتاز بها عن جميع الكائنات الحية الأخرى. فالإنسان كائن محاكي، و لو أريد وصف الإنسان بوصف واحد يكون جامعا مانعا فلن يكون إلا أنه كائن محاكي. فبالمحاكاة صنع الإنسان ولا يزال يصنع حياته بدءً من الماضي السحيق حيث كان أول إنسان حتى يومنا هذا وإلى آخر أيامه على وجه الأرض.
فحاكى الطبيعة فزرع ، وحاكى الحيوان فلبس ، وحاكى البيئة فبنى المنازل ، وحاكى تأثير بعض النباتات عليه فصنع العقاقير الطبية ، وحاكى وحاكى و ….. وحاكى تجاربه في الحياة فبدأ مشواره العلمي ، وحاكى بعضه بعضًا آخر فكانت عملية التأثر بين الأفراد والمجتمعات وتبادل التجارب وكانت المحاكاة البداية لعمليتي التربية والتعليم.
فكل جوانب الحياة البشرية بدأت بالمحاكاة ولا تزال هي مستمرة على نفس المنوال. فالمنطق بدأ محاكاةً والصناعات بدأها الإنسان محاكاةً والعلوم بجميع أقسامها بدأت وتطورت ولا تزال تنمو بالمحاكاة.
أللغة والحاجة إليها
إن حاجة الإنسان إلى التواصل بأبناء جنسه حذا به لمحاكاة الأصوات التي كان يسمعها في بيئته مستعينا بها في تكوين لغة خطابه الأولى. فقد كانت حاجة الإنسان إلى التواصل بين أفراده تُلِحُ عليه دائمًا لإيجاد وسيلة أرقى مما كان متوفرا لديه ولا يزال الأمر كذلك وسيبقى. إذ أن حاجة الإنسان إلى الرقي بوسائل التواصل بين أفراده متجددة ومتغيرة بتجدد الحياة وتغيرها. وبدأت محاكاة الإنسان للأصوات الأخرى لغرض التواصل اللساني أي عن طريق اللسان بين الأفراد.
فبالتواصل اللساني إستطاع أن يوفر على نفسه الكثير من الجهد وأراحها عن كثير من العناء وفتح أمامها أفاقًا أرحب للتعبير عن مقاصده بشكل أوضح وأيسر. وكانت البداية أن تحولت هذه الأصوات المحاكاة إلى أسماء لعناصر في بيئته. وهكذا دخل الإنسان مرحلة تصنيع اللغة. فلم يعد النطق بها محاكاة بل أصبح تكلمًا بأسماء أشياء معلومة.
*الأستاذ حسين جاسم الدبيسي ، أحد رواد العمل التطوعي ، له إهتمامات في التاريخ العميق واللغة وألفاظ الذكر الحكيم.
احسنت فالإنسان خلق مزودا باستعدادات فطرية متنوعة لتخدمه في الحياة ومن جملتها التأهيل في تكوين اللغات وهذه الاستعدادات بسبب تزويده بأجهزته بيولوجية خاصة بالنطق وتعرف بجهاز اللغة وهو جهاز صوتي يمكن له اصدار اصوات متنوعة وله القدرة التحكم في تشكيلها ونوعية النبرات والتحكم في دراجات ارتفاعها وخفضها حسب التكوين اللغوي المطلوب، وإن أعضاء هذا الجهاز تشترك في تأدية وظائف أخرى كالأكل والشرب والتنفس والقطع والتذوق وغيرها، وإن هذا الجهاز الصوتي الذي وهبه الله الانسان يختلف عن كافة الكائنات الحية ومن جملة اعضاء هذا الجهاز الصوتي الصانع لتلك اللغات الرئتين والحنجرة واللهاة واللسان والاسنان والأنف والحنجرة أو المري او الضلع السنخي اوغيرهم، وإن أول ما يبدأ أي مجتمع انساني في تكوين لغته عن طريق محاكاتة أصوات طبيعة تحيط به فأول لغة يصنعها الأنسان تكون عن طريق محاكاة ماحوله وتقليد تلك الأصوات وهي مايُعَرِّفها علماء اللغة والصوتيات بال Onomatopoeia Language وهي لغة تقليد ومحاكاة لأصوات الطبيعة والأشياء بل وحتى محاكاة أصوات الحيوانات ومن ثم يبدأ في اشتقاق الافعال والصفات والاسماء والحروف المساعدة في اللغة ولكن ظروف كل مجتمع انساني تقحمه في طبيعة لغة تخصه وتكون متأثرة ومؤثرة بنوعية بيئته فمنها تتولد نوعية الأصوات حسب طبيعة تلك البيئة، كما أن البيئة التي أثرت في اشكال البشر أيضا لها دور في تكوين نوعية اللغة، فذوي الشفاة الغليظة أو الحناجر الواسعة أو الأنوف الكبيرة فيها يفرض ذلك التكوين دور كبير في اتخاذ مسارات صوتية معينة للغتهم، وحتى الأصوات التي تبدو صعبة في لغة ما نجدها تتكون بكل أريحية في لغة مجتمع آخر بينما تصعب في لغة أخرى لكون هذه اللغة بعيدة عن هذا المسار فالضاد والعين -مثلا لاحصر- ليست من صعوبة الأصوات البشرية المنطوقة وليست من شواذها وانما هي صناعة بيئية نشأت فيها تلك اللغة وفق ظروف وأجواء بيئية خاصة بها.
ممكن شرح عن اكتساب و تنمية اللغة