الفيزياء تقود إلى التوحيد – د. جاسم حسن العلوي

يتخذ الإلحاد المعاصر طابعا علميا، ويعلن للعالم أن الإلحاد إنما هو نتاج الحقائق العلمية التي تراكمت بشكل مذهل في العصر الحديث. ولكن هذه الحقائق المتراكمة لا تصب في صالح هذا الإلحاد بل هي كما سنرى ذات دلالة ترجيحية عالية على أن لهذا الكون صانعا مقتدرا وعليما. وعند إستجلاء حقيقة هذا التراكم العلمي باستخدام المسطرة الفلسفية والرياضية، فإننا سنكتشف أن هذا الإلحاد إنما يتخفى وراء مقولات العلم و يقفز فوق دلالات هذه الحقائق الوجودية. وما يعزز من دور الإلحاد ويمنحه قوة يبث بالإستناد اليها أفكاره في المجتمعات الإنسانية، ان كبار الفيزيائيين يتبنون عقيدة الحادية، وعملوا على توجيه  معطيات العلم الحديث نحو التفسيرات التي تقصي الإله، لكنهم من أجل ذلك يرتكبون أخطاء منهجية فادحة. فهولاء العلماء وإن كانوا كبارا في ميدان الفيزياء لكنهم في واقع الأمر صغارا في ميدان الفلسفة. ولمن يقرأ “التصميم العظيم” لكاتبه ستيفن هوكينغ أحد أكابر الفيزيائيين في العصر الحديث سيتبين له مدى الضعف والهشاشة الفلسفية الذي يتمتع بها هذا الفيزيائي الكبير.

إن الإلحاد المعاصر يستفيد من الحالة الضبابية في المشهد العلمي، فالنظريات العلمية الحديثة وخصوصا تلك التي ترتبط بالفيزياء الكمومية وفيزياء النسبية تقبل تفسيرات متعددة، فيعمد هؤلاء العلماء الملاحدة إلى الإنتقائية الغير مبررة معرفيا فيختارون من هذه التفسيرات ما يهدم البنية الأساس في الفلسفة العقلية وما ينفي الحقيقة الميتافيزيقية بالكامل. وعندما يتم نفي الحقيقة الميتافيزيقية فإن الإلحاد يحاول أن يغلق النافدة التي نطل منها على عوالم ما فوق المادة ونستكشف علتها الأولى. ولقد إتخذت العقلانية المؤسِسة للأنوار الأوربية منحنا ظل يتصاعد تدريجيا في إقصاء الفلسفة العقلية (الميتافيزيقا)، فمنذ نقد العقل الخالص لكانط مرورا بالنزعة الوضعية العلموية وحتى تيارات ما بعد الحداثة التي وجهت سهامها للعقل الذي أنتج الحداثة الغربية ومحاولتها تتبع بقايا الميتافيزيقا في الفلسفات التي سبقتها والقضاء عليها. وهي إذ تقصي الميتافيزيقا فهي تقصي الأسئلة الباحثة عن معنى الوجود الإنساني، والدلالات المستترة خلف الظواهر الكونية.

 

ومع إقصاء الميتافيزيقا التي تمثل إمكانات هائلة لأنطولوجيا تتعالى على المادة و أبيستمولوجيا قادرة على إضفاء المعنى لنشاطات الإنسان المعرفية، فإن الحياة تصبح بكاملها فاقدة للمعنى وتدخل البشرية مع طوفان التكنولوجيا الذي يغرق العالم في أزمة حقيقية وعميقة، كان من آثارها تزايد حالات الإكتئاب ومعدلات الإنتحار وظهور الحروب البشعة التي يقتل فيها الإنسان بكل قسوة والتي تحيل الحياة الى ركام من الخراب والدمار دون اكتراث لمستقبل الإنسان على الأرض. إن البشرية تمر اليوم بمرحلة فريدة في التاريخ، إذ يواكب التطور العلمي الهائل في شتى المجالات نظرة ضيقة جدا تقول لنا ليس ثمة إله وليس ثمة حقيقة خارج الوجود المادي وليس ثمة عقل يمكن أن يفكر خارج صندوق التجربة.  فكيف إذا كان من يؤمن بهذه النظرة التي تستحيل أفق الحياة وتقصرها على الوجودات الصماء إلى علماء كبار ساهموا بنظريات عظيمة فحينئذ ماذا بقي للجمهور الفاقد للحس النقدي إلا الإستسلام لأرائهم والاعتقاد بخلو الحياة من الوجودات المجردة التي تقف مسستترة عن النظر الحسي. وهنا تدخل الإنسانية في أزمة ضياع المعنى وتصبح الحياة برمتها تلتهمها نيران العبثية فنصبح كالقشة في مهب الريح نهوي الى حيث لا قاع نستقر فيه، إنه الضياع الكامل حيث لا أمل في النجاة.

كشف ادموند هوسرل في كتابه “أزمة العلوم الأوربية والظواهر المتعالية” عن أزمة عميقة تعيشها العلوم الأوربية ، إذ هي عاجزة بذاتها واستقلالا عن الفلسفة عن تخطي فضاء المادة واختراق فضاء الروح الإنساني الواسع التي يسكنها سؤال المعنى، سؤال الماهية، سؤال المآل وأسئلة ملحة تتعلق بعمق التجربة الإنسانية. إن أزمة العلوم لا تكمن في نجاحها وفي منهجيتها بل في فقدان الدلالة، الدلالة المتعلقة بالمعنى والتي وضعت الحضارة الأوربية في طريق النهاية والأفول. إن روح أوروبا التي تأسست على ثنائية العلم والفلسفة والتي يرتبط مصيرها الحضاري بهذه المزاوجة بين العلم والفلسفة سوف تحتضر لأنها تستنفذ مع إقصاء الفلسفة من حياتها دورتها الحضارية وتضعها في سكة الموت الحضاري. وإن مصير أوروبا المحتوم في نظر هوسرل السقوط في العدمية إن استمرت في إقصاء الفلسفة فاسحة المجال للعلم والتقنية أن تتلبس كيانها، حيث لا سبيل لخروجها من هذه الأزمة التي تجتاح كيانها الحضاري إلا بإحياء روح الفلسفة التي تمنح المعنى لهذه العلوم ” إن أزمة الوجود الأوربي لا يمكن أن تعرف إلا نهايتين: إما أفول أوروبا في الإغتراب عن المعنى العقلي الخاص لحياتها، السقوط في عداء الروح وفي البربرية، وإعادة إحياء أوروبا إنطلاقا من روح الفلسفة، بواسطة بطولة للعقل تتجاوز نهائيا كل نزعة طبيعية” ( 1 ، ص 84).

يشخص هوسرل الأزمة بحسب ذيل النص السابق في سيادة النزعة الطبيعية في الثقافة الأوربية، تلك النزعة الوضعية العلموية المتطرفة التي تفسر كل الحياة وظواهر الكون بحسابات العدد والكم مع غياب كامل للعقل المتجاوز. هي أزمة يلخصها هوسرل في تطبيع  الشعور الإنساني والفكر الإنساني، ” إن ما يميز المذهب الطبيعي في جميع صوره خاصيتان: تطبيع الوعي (الشعور) من ناحية، ومن ناحية أخرى تطبيع الافكار، وبالتالي سائر المثل العليا والمعايير المطلقة ” ( 1، ص 85).

فيلسوف الكينونة، هيدغر، يشخص الأزمة في رؤية أنثروبولوجية سادت في الفكر الغربي ترى الإنسان ذاتا في مقابل الطبيعة “الموضوع” القابل للإستحواذ والهيمنة ( 1، ص 224). وقد أدخلت هذه الرؤية الإنسان والطبيعة في حرب لا هوادة فيها، فقد الإنسان بها المعنى لحياته وانتهت به الى العدمية. لقد تملكته ذات الأدوات التي حارب بها الطبيعة وسقط في قبضتها فلم يعد يرى الوجود إلا من خلالها وبحساباتها. فكل شيء أصبح كماً، وحتى الإنسان نفسه أصبح يقاس بالكم. هنا يكمن سر أزمة الإنسان وسقوطه في قبضة التقنية التي أسرت عقله وأفضت الى نسيان ذاته والوجود. تقوم فلسفة هيدغر على إستعادة سؤال طرحه أرسطو ما الوجود؟

وفي هذا السياق النقدي للحضارة الغربية تأتي النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت التي وجهت نقدها اللاذع للعقل العلمي و الخلفية الأيدلوجية – النفعية التي أفرزت كل مظاهر إستلاب الإنسان لإنسانيته ( 1 ، ص219).

وما يعزز من الإلحاد المعاصر هو الدور الكبير الذي تلعبه الرياضيات في الفيزياء الحديثة، وهذا يفضي إلى الخلط بين المفاهيم الرياضية التجريدية التي هي صنيعة العقل وحده وبين مفاهيم الواقع الفيزيائي. فالمفاهيم الرياضية تحمل إمكاناتها العقلية والتي قد لا تحمل إمكاناتها في الواقع الفيزيائي. فليس كل ما هو ممكن عقلي هو ممكن واقعي. فهذا الخلط بينهما هو رياضي عقلي وبين ما هو فيزيائي تجريبي هو خلط بين منهجيتين ينتج عنه أخطاء في التوظيف الفلسفي لهذه المفاهيم. ويعمد أنصار الإتجاه الإلحادي إلى تعظيم دور العقل الرياضي في الفيزياء الحديثة وتوظيف منتجاته المفاهيمية بطريقة خاطئة في نفي الصانع.  فمثلا يتحدث الفيزيائي “لورنس كراوس” في كتابه “كون من لا شيء” عن خطأ الإعتقاد ببطلان التسلسل اللانهائي للعلل والذي يسميه كراوس ” بالإرتداد اللانهائي”، فيخبرنا كراوس في هذا الكتاب: “أن عقولنا قد لا تستوعب فكرة اللانهائيات بسهولة لكن ذلك لا يعني أنها غير موجودة، قد لا تستطيع عقولنا استيعاب اللانهائيات بسهولة على الرغم من أن الرياضيات التي أنتجتها عقولنا، تتعامل معها بجمال أكثر، لكن هذا لا يخبرنا أن اللانهائيات غير موجودة، وقد يكون كوننا لانهائيا مكانيا أو إلى حد مؤقت” (2، ص17).

ورغم وجود فجوة معرفية عند كبار الفيزيائيين ذات طابع عقلي فلسفي بين معطيات العلم الحديث وبين مدلولات هذه المعطيات على النحو الذي يقود إلى نتائج خاطئة بل هي كارثية على مستوى الرؤى الكونية للإنسان والوجود، فإننا بحاجة ماسة لمعرفة ما إذا كانت الفيزياء وبالإعتماد على معطيات العلم يمكن لها أن تقرر المصير الإنساني عبر رؤية كونية للوجود أم أنها بناءً على منطقها الداخلي تفتقد في ذاتها هذه القدرة وتعجز عن رسم تصور فلسفي للوجود يمكن للعالم أن يتبناه ويقرر بواسطته مصير الإنسان!!! إن ما يدعيه كبار الفيزيائيين من أصحاب الإتجاه العلموي الوضعي من أن ما يحدد جوهر فلسفة الإنسان ورؤيته للكون والحياة هي التجربة العلمية، فنحن إذن بحاجة ماسة لفهم البعد البنائي في النظرية العلمية وبالخصوص النظرية الفيزيائية على اعتبار أن الفيزياء الحديثة هي ملكة التأثير في الرؤى الكونية للإنسان وهي أحد روافد العقل الإنساني الفلسفي بما تثيره تجاربها ونظرياتها من إشكالات تتجاوز أحيانا حدود المعقول وتدفع بالتالي الحالة الفلسفية إلى أقصى مدى ممكن. لنجتهد في البحث عن إمكانات النظرية الفيزيائية من خلال ما يقوله علماء الفيزياء أنفسهم ومن ثم نقرر ما إذا كان يمكن للفيزياء بذاتها واستقلالاً عن العقلانية الفلسفية أن تضع تصورها للوجود والذي يتضمن تقرير المصير الإنساني ورسم طريقه في هذه الحياة. وسنجتهد في الإجابة عن جملة من التساؤلات تضعنا على حقيقة الموقف من النظرية الفيزيائية وإمكاناتها الذاتية. ومنها: ما هي مهمة النظريات الفيزيائية؟ وهل المعرفة العلمية هي معرفة يقينية تكشف عن الواقع أم هي معرفة نسبية ومؤقته ومحصورة في مجال الظواهر الحسية؟ هل مهمة النظرية الفيزيائية هو تفسير الظواهر الطبيعية في محاولة للوصول الى الواقع الموضوعي لهذه الظواهر؟، أم أن مهمة النظرية الفيزيائية ينحصر في التوصيف الرياضي لمعطيات التجربة و ليست تفسيرا للواقع؟.

النظرية الفيزيائية و التصور الفلسفي للوجود

لقد رافق العلم الحديث اتجاهات عديدة متباينة في الدور والمهام المنوطة بالنظريات الفيزيائية. ويمكن حصر هذه الإتجاهات المتباينة في اتجاهين هما الإتجاه الوضعي والإتجاه العقلاني. ولكل من هذين الإتجاهين أنصار ومؤيدون من فلاسفة وعلماء. قبل أن نفصل القول في هذين الإتجاهين دعونا نستعرض الجذور التاريخية التي تشكّل على ضوءها هذين الإتجاهين.

تمتد جذور هذين الإتجاهين الكبيرين إلى بدايات العلم الحديث منذ المحاكمة الشهيرة لجاليلو حيث انقسم الفلاسفة في بداية الأمر ولحقهم بعد ذلك العلماء حول علاقة الفكر بالواقع والدور الوظيفي الذي يقوم به العلم. لقد كان جاليلو كغيره من العلماء يعتقدون بأن مهمة العالم هو الوصول إلى الحقيقة الموضوعية للعالم وهذه الحقيقة هي هدف العلم، ولكن عندما اصطدم العلم بالنص والنقل بالتفسير الكنسي للنص الديني بدأ يتبلور تفسير جديد للنظرية العلمية. هذا التفسير ولّدته حاجة الكنيسة لإنقاذ نفسها من التصادم مع تطورات العلم. هذا التفسير الجديد يقصر مهمة النظرية العلمية في بناء نماذج رياضية للمشاهدات التجريبية والمفيدة من الناحية العملية كما ترى أن النظرية العلمية عاجزة عن الحقيقة الواقعية أي الوصول الى الواقع كما هو. ويسمي كارل بوبر هذا التفسير بالتفسير الآلي للنظرية العلمية ويقابله التفسير الذي يرى في أن مهمة النظرية العلمية هو في الوصول إلى الحقائق الموضوعية لهذه الظواهر، ويطلق كارل بوبر على هذا التفسير بالتفسير الجوهري للنظرية العلمية حيث أن مهمة النظرية العلمية هو الكشف عن الجواهر المنتجة لهذه الظواهر.

استمر هذان التفسيران يتصارعان على الساحة الأوربية ويتأثران بالتطورات الحاصلة في ميدان الفيزياء ويتفرع عن كل تفسير إتجاهات أخرى متباينة. تشكّل من هذا الصراع الفلسفي على امتداد التجربة العلمية في أوروبا إتجاهان كبيران هما الإتجاه الوضعي الذي يدعو إلى التقيد بالظواهر ومعطيات التجربة والإبتعاد عن كل محاولة تفسيرية تتعدى الظواهر إيمانا منها بإن العلم لا يستطيع بلوغ حقيقة الواقع. ومن أبرز الذين يصنفون في هذا الإتجاه الفيزيائي بيير دوهيم الذي يرى أن النظرية الفيزيائية تكون صحيحة لا لأنها تقدم تفسيرا للظواهر الحسية المطابقة للواقع بل لأنها تتوافق مع القوانين التجريبية. وتكون النظرية خاطئة لا لأنها تمتلك فروضا لا واقع لها بل لأنها لا تتوافق مع القوانيين التجريبية. ويرى بيير أن كل محاولة تفسيرية للظواهر الحسية تهدف إلى فهم الواقع الذي ينتجها سيدخلنا في الميتافيزيقا وبالتالي فإن النظرية الفيزيائية ستظل تحت وصايتها. ويلتقي دوهييم مع الفيزيائي ارنست ماخ في مهمة النظرية الفيزيائية، إلا أن ارنست ماخ يتبنى اطروحة باركلي الفيلسوف الإنجليزي في إنكار الواقع الموضوعي للأشياء. فالأجسام لا تتمتع بأي وجود موضوعي بل مجرد مجموعة من الإحساسات البصرية والسمعية واللمسية. وبعبارة أخرى إن الواقع الموضوعي يساوي الواقع المحسوس ( 3 ، ص295).

من ضمن الإتجاه الوضعي نزعة يطلق عليها النزعة الإسمية وهذه النزعة ترى أن الحادث العلمي حادث مصطنع أي يخلقه العالم في مختبره، فهو لا يوجد كما في الطبيعة وبالتالي هناك فرق بين القانون كما هو في الطبيعة والقانون الفيزيائي الذي هو إنعكاس لحادث علمي مصنوع. من هنا فإن أصحاب هذه النزعة ينظرون إلى الحوادث العلمية والقوانين العلمية بأنها من إنشاء الفكر وليست تمثلا أو تصورا للأشياء كما هي في الواقع ( 3، ص 297).

يفترق الإتجاه العقلي في تفسير النظرية العلمية عن الإتجاه الوضعي في أن الإتجاه العقلي يضع هدف نهائي للعلم هو معرفة العالم الخارجي الواقعي، هذا العالم الذي يقف وراء إحساساتنا. وبما أن العالم الفيزيائي لا يتاح له وسائل معرفة هذا الواقع إلا من خلال ما تمده به التجارب فإنه ينشىء لنفسه صورة عن هذا الواقع.

من أنصار هذا الإتجاه المناهض للإتجاهات الوضعية العالم الالماني ماكس بلانك صاحب نظرية الكوانتا. يرى ماكس أن حصر العلم في هذه المعطيات العلمية يؤدي لهدم العلم وإلغاء موضوعية الفيزياء ( 3، ص 300).

يقسم الإتجاه العقلي العالم إلى ثلاثة أقسام:

  • العالم الخارجي الواقعي الموضوعي الذي يجب التسليم بوجوده.
  • عالم الأحاسيس، أي الظواهر الحسية والمعطيات التجريبية.
  • العالم الفيزيائي وهو الصورة التي تقدمها الفيزياء عن العالم. وهذه الصورة هي متغيرة باستمرار وتتحسن باستمرار.

ويمكن النظر إلى مهمة النظرية الفيزيائية من زاويتين: زاوية العالم الخارجي وزاوية عالم الإحساسات والظواهر.

فبالنظر إلى الزاوية الأولى تكون مهمة النظرية الفيزيائية هي الحصول على معرفة كاملة عن هذا الواقع الخارجي وبالنظر الى الزاوية الثانية فإن مهمة النظرية الفيزيائية تقديم وصف بسيط لها من خلال مجموعة من القوانين (3، ص 300).

لكن الذي ساد وانتصر في الفكر العلمي الغربي بالتحديد هو الإتجاه الوضعي أو الآلي كما يسميه بوبر. ويعزي بوبر هذا الإنتصار إلى بروز النظرية الكمية وصعوبة تفسير هذه النظرية.

بعد عرض هذين الإتجاهين ينبغي أن ندرك أنه من الخطأ بناء تصور فلسفسي للوجود بناء على النظريات العلمية.

ذلك لأن النظرية الفيزيائية بحسب الإتجاه الوضعي لا تتطابق مع عمل الطبيعة، وبحسب الإتجاه العقلي أن النظرية الفيزيائية هي صورة تحاول أن تقدمها الفيزياء عن الواقع وهذه الصورة تتحسن باستمرار وليست شكلا نهائيا.

ومادامت النظرية الفيزيائية قاصرة عن معرفة الواقع الطبيعي على دعوى هذين الإتجاهين فإننا لا نملك معرفة يقينية عن الواقع الطبيعي، فإن الفيزياء وبقية العلوم لا تصلح أن تكون مقدمات في الأدلة الإستقرائية أو مقدمات صغرى في الأدلة القياسية -الإستنباطية وهما طريقتا الإستدلال في الفكر البشري. وبالتالي تعجز الفيزياء بذاتها عن بلورة تصور فلسفي للوجود لأنها تفتقد المقدمات الصحيحة المطابقة للواقع.

ويلح التساؤل الآتي على الأذهان، هل أن المعرفة بالواقع الطبيعي ممكنة أو هي مستحيلة؟

في الحقيقة إن الفلسفة الإسلامية تقدم نسقا منسجما ومتماسكا ومستقلا عن هذه الإتجاهات المتباينة عن طبيعة المعرفة البشرية. وهذه النسق الفلسفي يتبنى نظرية خاصة في المعرفة.

تنظر الفلسفة الإسلامية إلى أن العلم هو مطابقة الفكر للواقع وأن حقيقة العلم هو الكشف عن الخارج. وبالتالي فإنها أي الفلسفة الإسلامية ترى بإمكان المعرفة اليقينية بهذا الواقع. أما لماذا هذا موقفها فهذا يحتاج إلى بيان مفصل لكن ممكن أن نوجزه. إن المعرفة اليقينية بالواقع ترتكز على نقطتين:

  • العلم الحضوري بالأشياء يكفل لنا المعرفة اليقنية.
  • اليقين في القضايا النظرية يتم بالإستنتاج والإنتزاع من البديهيات الأولية.

وبالتالي حتى نحصل على اليقين في القضايا النظرية يجب أن نعتمد الدليل الإستنباطي الذي يكون فيه  خط السير الفكري من الكليات إلى الجزيئات.

تقسم الفلسفة الإسلامية العلم إلى حضوري وحصولي. والعلم الحضوري هو الإتصال الوجودي بين العالم والمعلوم، بحيث لا تكون حقيقة المعلوم محتجبة عن العالم. أما العلم الحصولي فهو العلم بالأشياء عبر صورها ومفاهيمها.  فنحن نعلم بأنفسنا بالعلم الحضوري لأنها حاضرة لذواتنا ونعلم بأحوالها وشؤونها بالعلم الحضوري. ومن خلال هذا الشهود لأنفسنا تمكنا من اكتشاف البديهيات الأولية في الفكر البشري كمبدأ العلية ومبدأ عدم التناقض. فمرد هذه البديهيات الأولية إلى هذا الشهود الباطني للنفس. لكنها تظل هذه البديهيات في حالة مبهمة إلى أن يتمكن العقل من تكوين مفهوما لها. والحقيقة أن نظرية المعرفة في الإسلام تعطي أملا بإمكان المعرفة اليقينية بالواقع ويمكن لنا أن نفتح من هذه المعرفة نافذة نطل منها ونستكشف مظاهر الوجود المختلفة.

إن إمكان اليقين في المعرفة العلمية في نظرية المعرفة الإسلامية ممكنا ولكنه مشروط بدقة تطبيق هذه البديهيات الأولية أو المبادىء الضرورية على التجربة العلمية. ولذا يمكن الحصول على نتائج قطعية في الميتافيزيقا والرياضيات لأن تطبيق هذه المبادىء الضرورية يتم بصورة مباشرة، أما في حالة الطبيعيات فإن هذا التطبيق يتوسطه التجربة العلمية التي يتوقف عليها شروط التطبيق. فكلما كانت التجربة العلمية دقيقة وتستوعب كل إمكانيات الظاهرة الطبيعية فإنها تكون ملائمة أكثر لتطبيق المبادىء الضرورية والحصول على نتائج قد تكون في بعضها نهائية وقطعية ( 4، ص142-143).

وحتى مع إمكان اليقين في النظرية الفيزيائية فإنها في ذاتها وبناء على منطقها الداخلي تعجز عن نفي السبب المجرد الخارج عن دائرة التجربة العلمية. فالعلم الطبيعي يمكن أن يثبت أو ينفي الأسباب المادية التي تتعلق بالظاهرة الطبيعية، لكنه لا يستطيع أن ينفي على نحو الجزم السبب المجرد. فالتجربة العلمية إنما تستطيع الإحاطة بالسبب المادي، أما السبب المجرد فهو فوق التجربة العلمية ولا يمكنها أن تقطع بنفيه. فإذا إدعى الإلهي أن هناك سببا مجردا وراء الطبيعة وما يحدث فيها من تطورات، لم يكن للمادي أن ينفي هذا السبب المجرد باستخدام المنهجية العلمية. وتظل الطبيعيات وفي مقدمتها الفيزياء عاجزة عن قول كلمتها الفصل النافية للسبب المجرد والذي يدعي الإلهي أنه علة الوجود الأولى.

وما دام إمكان اليقين في المعرفة العلمية قائما فإن الفيزياء وبقية العلوم تصلح أن تكون مقدمات جزئية في الدليل الإستقرائي أو مقدمات صغرى في الدليل القياسي – الإستنباطي. ومن هنا يمكن أن ندقق النظر في نتائج العلم الحديث لنتمكن من وضع نتائجه كمقدمات في الإستدلالات المنطقية نبني على ضوءها تصورنا الفلسفي للوجود. ومن أهم نتائج الفيزياء الحديثة ظاهرة يطلق عليها ظاهرة الضبط الدقيق، وهي ظاهرة حيرت العلماء كثيرا وأسست لمناقشات فلسفية علمية طويلة. لقد تراكمت المعلومات بشكل مذهل في القرن العشرين حول الدقة المتناهية ذات المدى الضيق جدا للثوابت الفيزيائية والشروط الإبتدائية للإنفجار الكوني وميكنزمات التطور البشري بحيث أن الإنحراف الضئيل جدا عنها لن يؤدي إلى تشكل كوننا الحالي ولن يؤدي إلى تطور الحياة فيه. فما هي ظاهرة الضبط الدقيق؟ وماذا يقول العلماء بشأنها؟  

ظاهرة الضبط الدقيق

بعد أن حقق العلم قفزات نوعية مع بداية القرن العشرين وتوفرت لدى الإنسان معلومات هائلة، بدا جليا لدى العلماء وبشكل مدهش إلى أن ثمة شيئا غيرعادي يتعلق بالإحتمال الضعيف للغاية في إمكان تشكّل هذا الكون وتطوره بحيث يحوي الحياة الذكية. فقابلية الكون للتشكل والتطور بالطريقة التي يكون بها صالحا لتشكّل الحياة يعتمد على شروط وخصائص دقيقة جدا و إن أي إنحراف ولو ضئيل، بالقدرالذي سنبينه لاحقا، لن يؤدي إلى تشكّل الكون ولا الحياة. ويمكن أن يقال بثقة كبيرة أن هذا الكون قد ضبط بصورة دقيقة وفائقة من أجل الحياة. ولقد أثارت هذه الظاهرة جدلا كبيرا بين العلماء والفلاسفة، ويتركز الجدل في التفسير العلمي – الطبيعي المحتمل والذي يحقق شروط الفرضية العلمية الصحيحة.  لكن هذه الدقة التي يقوم عليها الكون والحياة تفرض بجدية بالغة التفسير الماورائي الذي يقف حول هذه الظاهرة المحيرة. فعندما يقول أحد كبار الفيزيائيين شون كارول Sean Caroll بأن هذه الظاهرة هي أفضل برهان يمكن أن يقدمه أنصار الإتجاه التوحيدي فإن هذا يعني أن هذه الظاهرة قد فتحت الباب للتفكير الجدي في فرضية غير طبيعية يحتمل جدا أنها تفسرها. لنعرف أولا هذه الظاهرة ثم نسوق عددا من الأمثلة عنها حتى يتضح للقارىء الكريم الدقة الكبيرة والمحيرة التي يقوم عليها الكون والحياة.

إن ظاهرة الضبط الدقيق تعني أن الثوابت الأساسية للطبيعة تقع في نطاق ضيق جدا لدرجة أن التغيرالطفيف لهذه الثوابت لن يؤدي إلى بناء المادة وتطورها لاحقا من أجل قيام الحياة فيها. وقبل أن نسوق الأمثلة على هذه الظاهرة، يجدر بنا أن نصنع بعض المقدمات العلمية التي تهيء القارىء الكريم لإستيعاب الأمثلة.

كما هو ثابت فإنه يوجد في الطبيعة أربعة قوى رئيسية هي: أولا قوة الجاذبية وهي القوة المسؤولة عن بقاء الإنسان والأشياء على الأرض وهي المسؤولة عن الإمساك بالكواكب وحركتها في مسارات محددة ودقيقة في الأنظمة الشمسية وهي المسؤولة كذلك عن تكوين  المجاميع النجمية الكبرى -المجرات- وحركتها ضمن المجرة الواحدة أو حركتها مع المجرات الأخرى. ثانيا القوة الكهرومغناطيسية وهي القوة التي تؤثر على الجسيمات الكهربائية وهي المسؤولة عن الإمساك بالإلكترونات وحركتها حول أنوية الذرات. وثالثا القوة النووية الضعيفة وهي القوة المسؤولة عن النشاط الإشعاعي والإنشطار النووي في الجسيمات دون الذرية. ورابعا القوة النووية القوية  وهي القوة التي تربط البروتونات داخل أنوية الذرات.

وعند مقارنة القوة النسبية لهذه القوى الأربع، فإننا سنجد أن قوة الجاذبية هي أضعفهم على الإطلاق. فالقوة النووية القوية  أقوى ب 137 مرة من القوة الكهرومغناطيسية ، وهي أقوى بمليون مرة من القوة النووية الضعيفة ولكنها أقوى من قوة الجاذبية ب 1038 مرة. وعند قياس قوة هذه القوى للجاذبية سنجد أن القوة النووية الضعيفة أقوى من الجاذبية ب 1032مرة ، وإن القوة الكهرومغناطيسية أقوى من الجاذبية ب 1036 مرة، وأما القوة النووية القوية فهي أقوى ب  1038 مرة.

العالم الفيزيائي مارتن رييز يحدثنا في كتابه الشهير “فقط ستة أرقام” يشرح من خلال هذه الأرقام ودقتها الكبيرة حالة الكون الحرجة جدا التي يرتكز عليها الكون والحياة. إذ أن التغيرالطفيف في هذه الأرقام الستة يجعل الكون والحياة فيه مستحيلة.  وأحد هذه الأرقام التي يشير اليها رييز في كتابه هو نسبة قوة الكهرومغناطيسية إلى قوة الجاذبية وهو كما ذكرنا يعادل 1036 ويقول لو أن هذا الرقم يحتوي على أصفار أقل بقليل لما تشكّل هذا الكون الضخم ولكان لدينا كون صغير بحيث لن تنمو فيه الكائنات الحية بأزيد من الحشرات ولن يكون هناك متسع من الوقت لعملية التطور ( 5 ، ص 2).

ويشير أيضا إلى نسبة القوة النووية القوية إلى القوة الكهرومغناطيسية وهو كما ذكرنا واحد إلى 137 ويساوي 0.007 ، وهذا الرقم هو المسؤول عن تماسك أنوية الذرات وعن صنع كل ذرات العناصر الموجودة على الأرض.  ولو كان هذا  0.008 بدلا من 0.007 ، فإن الإندماج النووي في النجوم بين أنوية ذرات غاز الهيدروجين سيكون سريعا لدرجة أن الهيدروجين سيستهلك بالكامل في هذه العملية ولن يتوفر لدينا هذا العنصر، وهذا يعني أن النجوم التي تزودنا بالطاقة لن تكون موجودة.

ولو كان هذا الرقم 0.006 بدلا من 0.007 فإن ذلك سيضعف من القوة النووية، وهذا يمنع من ربط البروتون والنيترون ببعضهما وبالتالي لن تتشكل نواة الديوتيريوم (تتكون نواة الديوتيريوم من بروتون واحد ونيوترون واحد) وعندما لا تتشكل نواة الديوتيريوم لن تتكون العناصر الثقيلة التي يتم تصنيعها في الشمس بما في ذلك عنصر الكربون الذي هو العنصر الرئيسي للحياة وعندئذ لن تتكون الحياة على الأرض ( 5، ص49 ).

كما أشار مارتن رييز إلى حقيقة اكتشفها العالم فرد هويلي الذي سوف نتحدث عنه بعد قليل وهي إذا تغيرت القوة النووية بمقدار أربعة في المئة فقط (يعني مثلا أن يكون الرقم 0.00672 بدلا من 0.007) سيكون تكون الكربون مستحيلا في النجوم وستصبح الحياة مستحيلة (5 ، ص50).

ولما كانت جميع العناصر تتكون في النجوم بما في ذلك عنصر الكربون الذي يحتل أهمية خاصة في تشكل الحياة على الأرض، فإننا سنوجز في ما يلي كيفية تشكل الكربون في النجوم وكيف إكتشف فرد هويلي الضبط الدقيق في تكوينه.

التصنيع النووي في الشمس والضبط الدقيق لأصل الحياة

 إن فرضية الإنفجار الكوني هي الأكثر قبولا في الوسط العلمي. وبعد لحظة الإنفجار الكوني العظيم بدأ الكون يتمدد وكلما تمدد قلت درجة حرارته. وفي الفترة الأولى للإنفجار وقبل عملية التصنيع النووي التي تتم داخل النجوم، تكونت عناصر الهيدروجين والهليوم والليثيوم في الثلاث الدقائق الأولى، حيث كانت درجة حرارة الكون مناسبة لتكون مثل هذه العناصر. وكل العناصر الأثقل من الليثيوم لا يمكن أن تتكون في تلك الفترة. فعنصر البريليوم الذي عدده الذري أربعة وهو يزيد عن العدد الذري لعنصر الليثيوم بواحد هو إلى حد كبير غير مستقر. فما أن يتشكل حتى ينحل إلى عنصر الليثيوم في زمن قدره 16- 10 من الثانية وهو زمن قصير للغاية. وبالتالي فإن جميع عناصر البريليوم التي تكونت في المرحلة الأولى للإنفجار ستتحول إلى عنصر الليثيوم في ظرف زمن قصير جدا. وهنا برزت معضلة تشكّل الكربون والأكسجين وبقية العناصر الثقيلة في الكون.  ولقد واجه العلماء هذا السؤال المحير، كيف وأين تكون الكربون الذي هو أصل الحياة في هذا الكون؟ إذا أخذنا بالإعتبار العمر القصير جدا للبريليوم.

 تتكون العناصر في النجوم نتيجة الإندماج النووي بين أنوية الهيدروجين. الإندماج النووي لا يحدث في الظروف العادية بل يحتاج حرارة عالية جدا حتى يمكن لهذه الأنوية من التغلب على قوة التنافر الكهربائي بين أنوية العناصر. توفر النجوم التي هي أشبه بفرن نووي كبير هذه الحرارة الكبيرة وتجبرها على الإندماج لتكون أنوية عناصر أثقل منها. وبهذه الطريقة يتم تصنيع أغلب العناصر الموجودة على الأرض. لكن؛ كيف يتخلصوا من معضلة الزمن القصير جدا لعنصر البريليوم حتى يمكن ان يتشكل الكربون؟

في عام 1952 اقترح سال بيتر Salpeter أن الكربون يتشكل في العملاق الأكبر وهو نجم كبير أشد لمعانا من الشمس ويطلق طاقة ضوئية هائلة ويتكون هذا النجم نتيجة إضمحلال غاز الهيدروجين في النجم مع مرور الزمن حيث تندمج أنوية الهيدروجين مكونة الهيليوم. عندئذ تصل درجة حرارة مركز النجم الى 100 مليون درجة كالفين. هذه الدرجة من الحرارة تجعل من تكون البريليوم ومن ثم إندماجه مع الهيليوم لتكوين الكربون ممكنا. حيث معدل تصادم وإندماج أنوية الهليوم والبريليوم في مثل هذه الدرجة من الحرارة أكبر من معدل إنحلاله.

 تفاعل الرنين

في عام 1957 اكتشف فريد هويلي أن تصنيع الكربون في النجم العملاق ينطوي على ضبط دقيق. الكربون يتكون نتيجة إندماج ثلاثة أنوية من الهليوم ولكن هناك إحتمال ضئيل جدا أن يتكون الكربون مباشرة نتيجة إندماج ثلاثة أنوية من الهليوم، وإنما يتكون الكربون  بتوسط عملية أخرى وهي التي أشرنا اليها حيث تندمج نواتي عنصر الهليوم لتكون البريليوم ثم يندمج البريليوم مع نواة الهيليوم ليعطي هذا الإندماج: الكربون. اكتشف هويلي أن هناك خاصية مميزة لنواة الكربون وهو وجود مستوى من الطاقة محدد يسميها ” الرنين ” وهذا المستوى من الطاقة يعزز من فرص إندماج البريليوم والهليوم قبل فترة إنحلال البريليوم. إذن حتى يكون إنتاج الكربون ممكنا يجب أن يكون تفاعل الهليوم والبريليوم يحقق هذا المستوى من الطاقة حتى ينتج الكربون. ومستوى الرنين يتأثر بالقوة النووية، فإذا اختلفت بمقدار أربعة بالمئة فإن الكربون لن يتشكل ولن تتشكل الحياة على الأرض.

كتب هويل « لا اعتقد أن أي عالم يختبر الأدلة سيعجز عن التوصل لإستنتاج أن قوانين الفيزياء النووية قد صممت بشكل متعمد نظرا للتتبعات التي تنتجها داخل النجوم» ( 6، ص191 ).

ظاهرة الضبط الدقيق والمحتوى المادي للكون

المصير النهائي للكون يمكن أن يحدده كمية وطبيعة المادة التي يحتويها. وأحد أهم النتائج الغير متوقعة في علم الكون الحديث: أن معظم كتلة الكون غير مرئية وتختلف عن طبيعة المادة العادية، المادة المظلمة.

معامل الكثافة هو نسبة كثافة الكون الفعلية إلى الكثافة الحرجة:

إذا كان معامل الكثافة مساوٕ للواحد فإن الكون يستمر في التوسع وإذا كان أكثر من واحد فإن الكون ينهار، وإذا كان أقل من واحد فإن الكون سيتسارع وتنفصل أجزائه عن بعضها البعض وثم يبرد وينتهي.

الكثافة الحرجة الحالية للكون:

الأبحاث تميل إلى أن معامل كثافة الكون تقترب جدا من الواحد !! هذا يجعل الكون في وضع إستثنائي جدا. إن المحتوى المادي المختلف للكون يجعل من هذا المعامل يساوي واحد تقريبا. يوجد في هذا الكون المادة العادية المعروفة وهي تشكل أربعة بالمئة من مادة الكون الكلية ويوجد ايضا المادة المظلمة وهي مادة غير معلومة ونسبتها من المادة الكلية 23 بالمئة، أما الطاقة المظلمة فإنها تسهم ب 73 بالمئة من مادة الكون. وإذا كان معامل الكثافة الحالي يقترب من الواحد هذا يلزم إن كان في السابق وعند لحظة الإنفجار الكوني واحدا ايضا، وهذا ما يعرف بمشكلة التسطح. لكن المذهل حقا والذي تعجز عن وصفه الشعور بالدهشة جميع لغات العالم أن هذا الواحد ليس فقط واحد بل هو رقم دقيق للغاية.

الحسابات تعطينا تصورا دقيقا لمشكلة التسطح التي رقمها الواحد. إن معامل الكثافة في اللحظة الأولى للإنفجار ( زمن بلانك ) يجب أن يقع في هذا المدى وإلا لن يتشكل الكون ( 7، ص24):

وقبل أن ننهي من وصف هذه الظاهرة لنستمع إلى ستيفن هوكينغ المكافح عن الإلحاد، يقول في كتابه التصميم العظيم:

« فمعظم الثوابت الأساسية في نظرياتنا تبدو مضبوطة بدقة، بمعنى أنها لو عدلت بمقادير بسيطة، فإن الكون سيختلف كيفيا وسيكون في حالات عديدة غير ملائم لتطور الحياة»  ( 6 ، ص192).

الإستنتاج: الأدلة التجريبية تشير إلى أن وجود حياة ذكية هو إحتمال ضعيف للغاية إلا إذا كان هناك ضبط دقيق إلى الثوابت الأساسية والشروط الإبتدائية وميكانيزم للتطور.

التفسيرات المحتملة لظاهرة الضبط الدقيق والجدل الفلسفي القائم

بول ديفيز في كتابه “الله والفيزياء الحديثة” يقول:

« يمكن إعتبار المصادفة العددية، الضرورية لوجود كون يحوي بشرا، كدليل على المصمم الذكي»  (  8، ص189 ).

يتحدث بول ديفيز عن أن الكون قد تم تصميمه من قبل مصمم ذكي لأجل هدف وغاية محددة وهذا يفسر هذه المصادفات العددية الضرورية لوجود كون يحوي بداخله حياة ذكية. إن بول ديفيز يتحدث عن علة غائية لهذا الكون الذي يحوي الحياة القادرة على إدراكه واكتشافه وإن هناك من خٙطط عن سابق قصد  لكون يتطور وفق شروط إبتدائية خاصة جدا وقوانين وثوابت ذات موازين دقيقة جدا حتى يكون صالحا لحياة فريدة من نوعها قادرة على استكشاف هذا الكون ومعرفة أسراره.

هذه العلة الغائية للكون التي أوصلتنا إليها دلالات هذه الظاهرة الكونية والتي تحدث عنها بول ديفيز في النص السابق لا تقع في دائرة الإهتمام العلمي. فالعلوم التجريبية تسعى لفك شفرة هذا الكون والتعرف على علله الطبيعية الفاعلة والتي تفسر ظواهره. وبتعبير آخر إن هدف العلم التجريبي هو معرفة العلة الفاعلية – المادية التي تقف وراء ظواهر الكون، أما العلة الغائية لهذه الظواهر فإنها ليست من شأن العلم التجريبي وتقع في دائرة إهتمام الفلسفة والدين.

ولكن عندما تعجز النظرية عن التوصل إلى العلة المادية الفاعلة أو عندما ندرك أن لا سبيل لتفسير الظاهرة بالإعتماد على المنهجية العلمية فإنه لا مناص  إلى فهم الظاهرة بالإعتماد على المنهجية الفلسفية. ومن هنا يمكن أن نعطي للظاهرة الطبيعية تفسيرا ما ورائيا يأخذ بجدية بالغة العلة الفاعلية المجردة، كما سنرى فيما بعد. والآن سوف نستعرض مختلف الفرضيات الطبيعية التي تفسر ظاهرة الضبط الدقيق. وبعد مناقشة هذه الفرضيات وباستخدام نظرية التأكيد التي هي الأساس في قبول أو رفض  الفرضية وفق المنهجية العلمية سنجد أن هذه الفرضيات الطبيعية لا تصلح لتفسير هذه الظاهرة وسنجد أنفسنا منساقين وراء فرضية الإله القادر والعليم، إذ هي وحدها التي تحقق إحتمالية أكبر تعزز من وجود الظاهرة.  وكذلك العكس فإن فرضية الإله يزداد إحتمالها بوجود هذه الظاهرة.

ولكن قبل أن نستعرض مختلف التفسيرات المحتملة لهذه الظاهرة، يجدر بنا أن نسأل لماذا يجب أن يكون هناك تفسيرا للظاهرة؟ ما الذي يدفعنا لإيجاد تفسير لهذه الظاهرة؟ وبتعبير آخر هل تحتاج ظاهرة الضبط الدقيق إلى تفسير؟

بالتأكيد، لأن لا شيء يحدث من غير سبب. فلكل ظاهرة سبب وبالتالي فإننا ملزمون بما توحيه هذه السببية القوية التي تؤكد لنا أن ما من شيء يحدث إلا وله سببه الخاص بالتحرك من أجل معرفة السبب الذي أنتج الظاهرة الطبيعية. ولكن لا حاجة في الواقع إلى هذه الدرجة من القطعية والقوة بوجود سبب يقف وراء الظاهرة بل يكفينا نوع آخر أقل درجة من هذه السببية وهي تلك السببية التي لا نجد في أنفسنا مبررا قبليا لنفيها. فهذا النوع من السببية يجعل من السبب الخاص في وجود الظاهرة درجة من الإحتمال  ولكن لا على نحو القطع واليقين كما هي الحال في السببية القوية، وهذا الإحتمال يكفي كي يدفعنا تلقائيا لبدل كل الجهد في التعرف على ذلك السبب. ومادام لا يوجد المبرر المنطقي الذي ينفي السببية فإننا ملزمون بحكم العقل كما في السببية القوية لإستقراء كل الفرضيات المحتملة للظاهرة ودراستها وتحديد أيا منها الأرجح في تفسير الظاهرة.

يوجد عدد من الفرضيات الطبيعية التي تحاول أن تستوعب هذه الظاهرة ضمن الإطار الطبيعي ووفق ما توصل إليه العقل العلمي من نظريات. وهناك فرضيات التفسير الغير طبيعي وسنحصرها في فرضية الإله. وسنخضع كافة هذه الفرضيات للمعيار العلمي لنرى أيا من هذه الفرضيات يحقق بدرجة أكبر شروط الفرضية العلمية.

في فرضيات التفسير الطبيعي يحاول العالم أن يكشف عن السبب الطبيعي الذي ولّد هذه الظاهرة، أما في التفسيرالماورائي وبالتحديد فرضية الإله فإن لدينا برهان نطلق عليه برهان التصميم، وهذا البرهان كما نص عليه أحد الفلاسفة على أن ظاهرة الضبط الدقيق للكون بهدف وجود الحياة فيه يحتاج إلى تفسير، وأن أفضل تفسير هو أن الله خلق وصمم هذا الكون من أجل أن يكون حاويا للحياة « الذكية» ولذلك يوجد سبب معقول جدا للإيمان بان الله هو علة الكون الأولى ( اليانصيب الكوني ، ص2).

وسنتعرض فيما يلي للفرضيات الرئيسية في تفسير ظاهرة الضبط الدقيق.

  فرضية الصدفة Chance Hypothesis

يعتقد البعض أن ظاهرة الضبط الدقيق يمكن أن تحدث صدفة رغم كون مثل هذا الإحتمال ضئيلا جدا، إلا إنه لا يساوي صفرا.

وأحد ممثلي هذا الإتجاه الفيلسوف وي هنغ وونغ Wai Hung Wong . كتب وونغ ورقة بعنوان “اليانصيب الكوني” (Cosmic Lottery ( ونشرها في مجلة مختصة بفلسفة الأديان، يقول فيها إن برهان التصميم يعتمد على افتراض أن ظاهرة الضبط الدقيق للكون التي تسمح بقيام الحياة فيه تتطلب تفسيرا. يقول وونغ إن هذا الإفتراض خاطىء. وإن بعض هؤلاء الفلاسفة الذين يدعمون هذا الإفتراض أي حاجة هذه الظاهرة إلى تفسير، هم يشبهون في ذلك شخصا طُلب منه أن يسحب قشة معينة من بين عدد كبير جدا من القش حتى لا يقتل. أما الفلاسفة الأخرين الذين لا يرون أن هناك حاجة إلى تفسير مثل هذه الظاهرة هم يشبهون حالة الفوز بورقة اليانصيب. وفي هذه الورقة حلل ونغ كلا التشبيهين واستنتج أن هذه الظاهرة لا تحتاج إلى تفسير وهي أشبه بفوز شخص بورقة اليانصيب. ( 9 ، ص 1)

إن هدف وونغ من هذه الورقة هو إثبات أن ظاهرة الضبط الدقيق لا تحتاج إلى تفسير وبالتالي فإن برهان التصميم الذي يستند اليها يمكن رفضه لأنه لا يملك مبرراته (اليانصيب الكوني ، ص3). يقوم برهان التصميم على أن إحتمال وجود الكون الذي يسمح بوجود الحياة لهو إحتمال ضئيل جدا، وإذا كان إحتمال حدوث شيء ضئيلا للغاية ثم يحدث فهذا يتطلب تفسيرا. وبالتالي نحن بحاجة أن نسأل لماذا حدث هذا الشيء الذي يملك إحتمالا ضئيلا جدا؟ وهذا التساؤل له ما يبرره منطقيا لأننا لن نكون بحاجة عند عدم الحدوث أن نسأل لماذا لم يحدث هذا الشيء؟ فالتفسير البسيط لعدم الحدوث هو أن حدوثه يقترب من الإستحالة. ولكن عندما يتحقق هذا الذي يقترب من الإستحالة فنحن بالتاكيد بحاجة لفهم لماذا حدث هذا الشيء.

إن وونغ لا يرى في هذه الأرقام التي تقع في نطاق ضيق جدا والتي تتأسس عليها الحياة والحياة الذكية إلا ضربة حظ وهي تشبه تماما فوز أحد الأشخاص بورقة اليانصيب. فليس ثمة لغزا محيرا في مثل هذه الدقة المتناهية لهذه الأرقام التي لو اختلفت لاستحال الكون واستحالة الحياة. يقول وونغ لو افترضنا أنني فزت بورقة اليانصيب، هذا يعني أنه حدث على نحو الصدفة إن تم إختيار الأرقام الموجودة على كرتي والأرقام الأخرى الغير مختاره كان يمكن بسهولة إختيارها. إنني فقط كنت محظوظا بفوزي بورقة اليانصيب وليس ثمة شيئا محيرا ويحتاج إلى تفسير، وحده الحظ أو الصدفة يفسر فوزي بورقة اليانصيب. فإذا كان برهان التصميم يعتمد على ضئالة إحتمال تشكل الكون والحياة فيه فهذا لا يبرر لنا البحث عن تفسير، فكما أننا لسنا بحاجة أن نفسر فوزي بورقة اليانصيب حيث إحتمال الفوز بها ضئيل، فكذلك لسنا مضطرين لتقديم تفسير لهذا الكون الذي يسمح بقيام الحياة فيه وهو واحد من ضمن عدد من الأكوان المحتملة ( 9، ص 3-4).

بيتر فان peter van Inwagen  فيلسوف الأديان والميتافيزيقا الأمريكي يعترض على الطريقة التي استدل بها وونغ في عدم حاجتنا إلى التفسير، ويعطي تشبيها آخر. لنفترض أنه لكي أتجنب عقوبة القتل طلب مني أن أسحب قشة من بين مليون قشة مختلفة الأطوال. وإن هذه القشة التي علي أن أسحبها يجب أن تكون الأقصر. ألا يدعو الأمر إلى الدهشة والتساؤل عندما اختار هذه القشة الأصغر من بين المليون قشة. وسيكون من الغباء أن نقرر أن ذلك لا يتطلب تفسيرا. ولكن وونغ يحتمي بنفس الفكرة السابقة، إن سحب القشة الأقصر هو في نفسه إحتمال ضعيف للغاية ولكن إحتمال سحب القشة مثلا القشة السابعة من حيث القصر هو أيضا إحتمال ضعيف للغاية وهذا يشبه الفوز بورقة اليانصيب، إنها ضربة الحظ ولا شيء غير ذلك. (9 ، ص 4-5).

لكن وونغ يخطو خطوة متقدمة ويسأل متى نضطر إلى تقديم تفسير لهذا الكون الذي يسمح بالحياة. ويقدم من أجل ذلك برهان اليانصيب الكوني، فما هو هذا البرهان؟

برهان اليانصيب الكوني The Cosmic Lottery Argument

يقرر وونغ في هذا البرهان أن الكون الذي يسمح بالحياة يحتاج إلى تفسير فقط:

أ-  إذا كانت الأكوان التي ليس بها حياة لا تختلف عن بعضها البعض بحيث يمكن أن نقسم كل الأكوان المحتملة إلى مجموعتين أكوان تسمح بالحياة وأكوان لا تسمح بها.

لكنه يرى أن هذا التقسيم غير صحيح وينطلق من مركزية بشريه ويعمينا عن حقيقة أن الأكوان المحتملة والتي لا تسمح بالحياة تختلف عن بعضها البعض، لذلك (أ) غير متحققة ( 10 ، ص 69-70).

ب- إذا كان الكون الذي يسمح بالحياة يتمتع بخصائص كونية نادرة حتى لو اختلفت الأكوان التي لا تسمح بالحياة عن بعضها البعض.

لكن من المعقول أن تتمتع الأكوان التي لا تسمح بالحياة بخصائص كونية نادرة أيضا، إنه يشبه عملية سحب كرة عشوائية من بين 1000 كرة مرقمة. فإذا سحبت كرة عليها الرقم واحد فهذا لا يجعلها تتمتع بخصائص مختلفة عن بقية الكرات وبالتالي لا نحتاج الى تفسير. ولذلك (ب) غير متحققة ( 10 ، ص69-70 ).

النتيجة : بما أن أ و ب غير متحققتين فإن ظاهرة الضبط الدقيق لا تحتاج إلى تفسير سوى الصدفة.

 دحض برهان اليانصيب الكوني Refutation of the Cosmic Lottery Argument

إن فرضية الصدفة تتناقض ومبدأ السببية في صورته القوية، ومبدأ السببية هو أحد المبادىء الضرورية في الفكر البشري. فإذا كان الكون بكل ما فيه من ذرات ومجرات وحياة يحدث مصادفة وبدون سبب فإن ذلك أشد صور التناقض مع أحد ركائز التفكير البشري. ورغم أن فرضية الصدفة لا تتناقض تماما مع السببية في صورتها الضعيفة، فهذه السببية تمثل درجة من الإحتمال في أن يكون للظاهرة سبب وهذا الإحتمال لا يرقى إلى اليقين بل درجة أقل من اليقين، فمن الممكن حينئذ أن يكون للظاهرة سبب ومن الممكن أن لا يكون لها سبب، إلا أن القول بفرضية الصدفة هو القول السهل ولكنه ليس الأبسط وربما يعني أن نكف عن البحث وإجهاد العقل في التعرف على سبب الظاهرة وهذا بمثابة رفع راية الإستسلام أمامها. إن القول بأن كل تلك الدقة التي يتأسس عليها الكون والحياة هو محض صدفة سيؤدي إلى توقف العقل عن التفكير والجمود على فكرة الصدفة كتفسير لكل الظواهر الطبيعية. وإذا ما تعمقنا في فرضية الصدفة إلى أقصى مدى ممكن فسنكتشف بعد قليل من التأمل أن هذه الفرضية تشكل خطورة على حركة العلوم وتطورها. فإذا كان هذا الكون الكبير وبكل ما فيه يحدث على نحو المصادفة فإن جميع الظواهر التي تبدو لنا تحدث أيضا على نحو المصادفة وعندئذ لا حاجة للبحث عن أسبابها وهذا يهدم الأساس الذي تقوم عليه العلوم. وبغض النظر عن مآلات القول بفرضية الصدفة، دعونا نناقش وونغ في برهان اليانصيب الكوني وما ساقه من أمثلة.

برهان اليانصيب يعتمد على تخطئة الفقرة (أ) والفقرة (ب) من البرهان ويستلزم منه عدم الحاجة الى تفسيرللظاهرة سوى الصدفة.

ففي الفقرة (أ) حتى لو افترضنا وجود أكوان محتملة تختلف كثيرا عن بعضها البعض كوجود كون من الثقوب السوداء أو كون من النجوم النيوترونية فلماذا ذلك لا يستلزم تفسير الكون الذي يسمح بالحياة . الحاجة الى التفسير لا تتعلق بطبيعة الأكوان التي لا تسمح بالحياة ( 10 ، ص 70).

وفي الفقرة (ب) يحاول ونغ في هذا الجزء من البرهان تقويض الفارق بين الحياة واللاحياة وهو الأمر الذي لا يقبله العقل، فالكون الحاوي للحياة عند وونغ لا يختلف عن الكون أو الأكوان التي لا تحوي الحياة وبالتالي لا نضطر الى تقديم تفسير للظاهرة ( 10 ، ص70).

على أن كوننا لا يحوي الحياة فقط بل يحوي درجة من الحياة غير عادية، إنه يحوي الإنسان الكائن الذكي القادر على المعرفة وهو كذلك الكائن الذي يختزن بداخلة مشاعر وأحاسيس وطاقة روحية هائلة. كل هذه الحياة والحياة النوعية الذكية في هذا الكون تجعله بالتأكيد كونا فارقا ومختلفا جدا عن الأكوان التي لا تحوي الحياة. إن ظاهرة الضبط الدقيق التي تتأسس عليها الحياة لا تدعم من فرضية الصدفة بل تجعل إحتمال هذه الفرضية بعد إكتشاف هذه الظاهرة في وضع صعب جدا. فإذا كان لفرضية الصدفة درجة من الإحتمال القبلي فإن هذه الدرجة من الإحتمال تضعف بعد اكتشاف هذه الظاهرة وهذا يعني أن هذه الفرضية تسقط من الإعتبار العلمي.

إن برهان اليانصيب الكوني يلغي الفوارق بين الأكوان المختلفة، فليس هناك تميز خاص أو خصائص فريدة في كوننا تجعله متميزا عن الأكوان الأخرى التي لا تسمح بالحياة. فجميع الأكوان تملك خصائصها الفريدة ومميزاتها الخاصة بحيث تقع جميعها في مستوى واحد.

لكن وونغ يناقض نفسه عندما لا يفرق بين الأكوان المختلفة ويسوق لنا مثال ورقة اليانصيب أو مثال الكرات المرقمة. إن فضاء العينة الذي يحوي كل النواتج  للأكوان المحتملة تصبح في نظر وونغ فضاء يضم نواتج ممكنة متشابهة وبالتالي فإن احتمال إختيار أحد هذه النواتج لا يصبح –  بناء على تشابهها – ضئيلا للغاية بل يصبح في الواقع مؤكدا. إن وونغ يقول لنا إن هذه الأكوان لا تتميز عن بعضها البعض لأنها لو تمايزت وجب علينا تقديم تفسيرا للكون الذي يسمح بالحياة وبما أنها في نظره تقع في مستوى واحد فإن فضاء العينة لديه يصبح بالتعبير الرياضي يضم المجموعة التالية من الأكوان ( س، س، س، …) و بالتالي فإن أي اختيار سيكون احتماله مؤكدا وليس ضئيلا.

ثمة أمر غفل عنه وونغ وهو يسوق لنا هذه الأمثلة، ففي مثال ورقة اليانصيب ثمة من يختار الأرقام وفي مثال الكرات المرقمة هناك شخص يسحب أحد هذه الكرات، بمعنى أن هناك دائما من يختار ومن يقوم بعملية ترجيح أحد هذه الورقة من اليانصيب عن غيرها أو ترجيح أحد الكرات المرقمة على غيرها. وهنا نسأل وونغ من قام بعملية ترجيح في إختيار الكون الذي يسمح بقيام الحياة فيه، لابد أن يكون هناك من مرجح قام عن قصد بالترجيح. لقد إهتم كون بالمرجح (بفتح الجيم) وغفل عن المرجح (بكسر الجيم) وفي كل هذه الأمثلة نسي أن يذكر لنا من هو المرجح الذي يقوم بالإختيار. إن فرضية الإله تقول لنا إن الذي قام بعملية الترجيح إله عليم ومقتدر بينما تقول لنا فرضية الصدفة إن كل ما يحدث هو مجرد صدفة عاجزة وعمياء. من ترانا نصدق أكثر الصدفة العاجزة العمياء أم الإله المقتدر العليم!

وأخيرا إن الأمثلة التي ساقها وونغ هي أمثلة مضللة، وذلك إن مثال ورقة اليانصيب لا ينطبق تماما مع فرضية الصدفة. هذا المثال يضعنا أمام عدد محدود من النواتج الممكنة التي تحتل فضاء العينة ولكن الحقيقة إن فضاء العينة لكل الأكوان المحتملة هو فضاء لا نهائي وليس محدودا، وهذه الأكوان جميعها تحتمل ذات الإمكانات وبالتالي فإن إحتمال أحدها يساوي صفرا بحسب قانون الإحتمالات.

فرضية القانون الفائق

إن فرضية القانون الفائق تفترض أن يكون للطبيعة قانون فائق بحيث يجبر كل الثوابت الأساسية باتجاه المنطقة التي تسمح بالحياة. ويمثل هذا الإتجاه الفيزيائي إدورد وتن أحد أكابر الفيزيائيين المعاصرين. ويعتقد أصحاب هذا الإتجاه بأن نظرية الأوتار الفائقة هي الواعدة في فهم ظاهرة الضبط الدقيق. ولكن لماذا نظرية الأوتار الفائقة هي المؤهلة لفهم هذه الظاهرة، فذلك يحتاج إلى بيان مطول لا يسع المجال هنا للتطرق اليه. ولكننا سنعطي تصورا للفكرة التي يرتكز عليها أصحاب هذا الإتجاه دون الدخول في تفاصيل دقيقة.

إن ما يميز نظرية الأوتار الفائقة هي كونها نظرية ذات عشرة أبعاد. أربعة أبعاد زمكانية مفتوحة وممتدة وستة أبعاد مكانية مدمجة ومنغلقة. ويمكن وصف هذه الأبعاد الستة رياضيا بـ فضاء يسمى كلابي ياو Calabi –Yau وهو فضاء صغير جدا لا يمكن مشاهدته وربما لن يكون لنا القدرة على مشاهدته.  وعند لف أو دمج هذا الفضاء بطرق مختلفة نحصل على ملايين الملايين من الحلول لمعادلات الأوتار وكل حل لهذه المعادلات يمثل كون بمواصفات خاصة. ( parallel world ، ص 207-208).

دحض فرضية القانون الفائق

إن نظرية الأوتار الفائقة ليست ثابتة علميا، حيث تم بناء هذه النظرية على التناظرالفائق. وهذا التناظرالفائق يفترض وجود جسيمات رفيقة للجسيمات الحالية. وهذه الجسيمات الرفيقة لم نتمكن بالمسارعات النووية أن نكتشفها.  وحتى لو افترضنا صحة النظرية، وأنها قادرة على تفسير هذه الظاهرة فإننا لازلنا بحاجة أن نسأل: لماذا لدينا هذا القانون الذي يضبط هذه الثوابت الأساسية ضبطا دقيقا؟ و من أين جاء؟

إن نظرية الأوتار الفائقة مبنية على فضاء كلابي ياو وهو فضاء يمكن دمجه بطريق مختلفة، وكل طريقة نتبعها تعطينا حلا لمعادلات النظرية وهذا الحل يمثل كونا خاصا. إذن إن هذه النظرية بها محتوى رياضي عبارة عن هذا الفضاء الذي يمكن ضبطه بدقة حتى نتمكن من الحصول على هذه الثوابت ذات ضبط دقيق والتي تمثل الكون الذي نعيش فيه. وهنا نقلنا موضوع الضبط الدقيق إلى النظرية نفسها وهذا لا يفسر الضبط الدقيق بل يعيدنا الى المربع الأول. فإذا كان لهذه النظرية إحتمال قبلي معين، فإن هذا الإحتمال لا يتقوى مع وجود ظاهرة الضبط الدقيق بل هو مساو لها في أحسن الأحوال. والنتيجة أننا نقلنا الحاجة الى تفسير هذه الظاهره الى القانون الفائق، ولم نصل بعد إلى تفسير نهائي للظاهرة.

فرضية المبدأ الإنساني

وضع الفيزيائي براندن كارتر مبدأ إنسانيا للكون في عام 1974. ولهذا المبدأ صورتان، الأولى تسمى المبدأ الإنساني القوي والأخرى تسمى المبدأ الإنساني الضعيف. الصورة الضعيفة من هذا المبدأ: أن الحوادث المشهودة تستلزم وجود المراقب الذكي. بمعنى أن الملاحظة تستلزم وجود الملاحظ الذكي. أما الصورة القوية من هذا المبدأ تنص على أن قوانين الطبيعة والثوابت يجب أن تكون مناسبة لظهور الحياة.  تقول لنا هذه الفرضية أننا لا يجب أن نتفاجأ بظاهرة الضبط الدقيق، لأنه إذا كانت هذه الثوابت الأساسية لا تقع في المدى الذي يحقق الحياة، فإننا لن نكون موجودين لرصدها. والنتيجة المتحصلة من هذه الفرضية وهي إذا لم تتوفر الشروط التي تسمح بالحياة، فلن نكون موجودون ولكننا موجودون، إذن يجب أن تتحقق الشروط التي تسمح بالحياة (ص75 ).  هذه الفرضية تقول لنا إن إحتمال ظاهرة الضبط الدقيق بناء على وجودنا هو إحتمال مؤكد، ولذلك لا ينبغي أن نتعجب من هذه الظاهرة. وبتعبير آخر إن ذات وجودنا يضمن أن تقع هذه الثوابت الأساسية والشروط الإبتدائية في النطاق الذي يسمح بالحياة.

السجين وفرقة إطلاق النار

يقدم جون ليزلي الفيلسوف الكندي مثالا يحاول به أن يهدم فرضية المبدأ الإنساني. يقول لنا ليزلي في هذا المثال لنفترض أن سجينا يتعرض لفرقة إطلاق النار تتكون من 12 رامي يطلقون عليه 144 رصاصة ، لكن كل هذه الرصاصات تخطىء السجين. فهل سيعتبر هذا السجين أن الأمر طبيعي وأن عليه أن لا يتعجب وليس له  أن يفهم ما الذي جعل هؤلاء الذين أطلقوا عليه 144 رصاصة لا يصيبونه في مقتل ؟ فعلى ضوء التفسير الذي تقدمه لنا فرضية المبدأ الإنساني، ليس على السجين أن يصاب بالذهول عندما تتخطاه 144 رصاصة ، لأنه لو أصابته هذه الرصاصات لن يكون موجودا ليشاهد هذا الخطأ الغير متوقع، ولكنها لم تصبه ولذلك هو موجود ليشهد هذه الحادثة.

ويستنتج ليزلي من هذا المثال أن هناك إحتمال لتفسير هذا الخطأ، أحدهما الصدفة وهذا إحتمال ضعيف للغاية، وثانيهما أن هذا الخطأ كان متعمدا ومخطط له مسبقا. والنتيجة التي يخلص اليها ليزلي عن التفسير الذي يقدمه المبدأ الإنساني خاطىء تماما وأن نجاة هذا السجين تعتمد على الضبط الدقيق وليس الضبط الدقيق يعتمد على نجاة السجين. (ص 76)

تأثير الإختيار الرصدي

إيليت سوبر فيلسوف العلوم يقترح تأثيرا يسميه التأثير الإنتقائي للمراقب أو الراصد يعني أن  وجودنا كمراقبين يضفي نوع من الإنحياز في تفسير ظاهرة الضبط الدقيق، بمعنى أن خصائص الشيء تتأثر بنا كمراقبين. وهذا يقودنا الى النسبية الذاتية  للمعرفة، فجميع معارفنا هي نوع من الإنحياز البشري ولا تتمثل الحقيقة كما هي في الواقع. إن ايليت سوبر يقول لنا إن هناك إنحيازا معرفيا بشريا في رصد هذه الثوابت التي تسمح بوجود الحياة. ويشرح سوبر هذا التأثير من خلال التشبيه التالي ( 10، ص77).

 تشبيه سوبر Sober Analogy

يوضح سوبرهذا التأثير بهذا التشبيه: لنفترض أنك إصطدت خمسين سمكة من بحيرة وكانت جميع هذه الأسماك طولها يزيد على عشرة بوصات (المشاهدة). ربما سوف تستنتج أن جميع السمك في هذه البحيرة يزيد طولها على عشرة بوصات. ولكنك اكتشفت بعد ذلك أن شبك الصيد لا يمكن لها أن تصيد أقل من عشرة بوصات بسبب حجم الثقوب. إذن إن إحتمال الحصول على سمكة عشرة بوصات هو إحتمال مؤكد (10، ص 78).

فكذلك هذه الثوابت التي نراها في غاية الدقة هي متأثرة بنا كمراقبين وبالتالي فإن احتمال الظاهرة المبني على وجودنا يكون مؤكدا. والنتيجة إن طبيعة وجودنا كمراقبين يدخل نوع من الإنحياز في الدليل.

سوبر ونقض مثال السجين

وعلى ضوء هذا التاثيرالرصدي يحاول سوبر أن ينقض الفكرة التي يقوم عليها مثال السجين. فلو أضفنا متفرج (شاهد) على فرقة إطلاق النار، ماذا ستكون وجهة نظره بالقياس الى السجين؟

المتفرج: من المنطقي جدا أن هذا الشاهد سيتوصل إلى أن إحتمال نجاة السجين بفعل متعمد بالخطأ أكبر من إحتمال نجاته بالمصادفة. بينما السجين يخضع لتأثير الإنتقاء الرصدي وسيتوصل إلى أن هذين الإحتمالين متساويين وهما مؤكدان.

رصد ظاهرة الضبط الدقيق هي ليست حيادية ولذلك لا يجب أن نكون منبهرين بهذه الظاهرة وبالتالي لا تحتاج الى تفسير خاص (10 ، ص 79).

 ويزنبرغ وفرقة إطلاق النار

يرى جونثان ويزبيرغ أنه لا توجد لدينا حالتان معرفيتان مختلفتان تؤدي إلى نتيجة منحازة، بل كلاهما السجين والمتفرج هما في الإطار المعرفي نفسه، لماذا ؟

لأن كلاهما لديهما نفس المعرفة والخبرة وكلاهما لا يخضعان لهذا التأثير الإنتقائي.

فمثلا نحن نفهم نظرية التطور ونحقق فيها ولا نقول أنه بسبب هذا التأثير الإنتقائي أن التطور البشري ليس خاصا ولا نحتاج الى تفسير ( 10، ص79).

الخلاصة: أن المبدأ الإنساني يمكن أن يدل على التناسق بين الكون والوجود البشري ولكنه لا يفسر ظاهرة الضبط الدقيق.

المبدأ الإنساني وموافقته للوجود الإنساني

يقوم المبدأ الإنساني على فكرة أن الكون يملك إحتمالا ضعيفا جدا على إيواء الحياة الذكية. والسبب يعود إلى الدقة المتناهية التي تتأسس عليها الحياة .فالكون يتقوم بمجموعة من الثوابت الطبيعية بحيث لو اختلفت إختلافا طفيفا فمن المؤكد أنه سينتج كون لا حياة فيه. وليس من سبب يمنع من أن تختلف هذه الثوابت الطبيعية.

فإذا لم يكن هناك مبدأ يعمل عن سابق قصد وتصميم ، فإن الحياة ستكون لسلسلة من المصادفات الإستثنائية مما يجعل إحتمال وجود كون به حياة ضئيلا جدا جدا.

الفيزيائي فري مان دايسن يقول:

“It is as if the universe knew that we are coming ” (وكأن الكون يعلم بأننا قادمين) (11، ص 248) .

 هيدغر والمبدأ الإنساني

يرى هيدغر في كينونة الوجود البشري مشروعا لفهم حقيقة الوجود بشكل عام. قام هيدغر بالتحاليل الفينومنولوجي للوجود الإنساني ووجد إن أول مقومات الكينونة أي الوجود الإنساني في أنه منفتح على العالم. الموجود البشري حقيقة متفتحة على الوجود العام وهو بكل ميوله وعواطفه ومقاصده موجه نحو العالم الخارجي. الإنسان هو الموجود الوحيد الذي لا ينفصل وجوده بالإهتمام بهذا الوجود. وأن العالم يمثل بناء أنطولوجي للموجود البشري بحيث يستحيل أن يكون هناك عالما بدون إنسان أو إنسان بدون عالم. ( 12 ، ص 529)

ابن رشد ودليل العناية

إن لدليل العناية في إثبات الصانع مقدمتان:

المقدمة الأولى: أن جميع ما في الكون من موجودات وحركات ، ليل ، نهار ، شمس ، قمر …الخ هي موافقة لوجود الإنسان.

المقدمة الثانية: ترتكز على أن هذه الموافقة ضرورة إقتضتها إرادة فاعل حكيم، ولم تحصل مصادفة، أو إتفاقا، بل صدرت عن قصد وتصميم.  فالمبدأ الإنساني يتحدث عن موافقة الوجود للملاحظ الذكي، وهذه الموافقة إذا لم تكن موجودة، فإن من المستحيل للكون أن يوجد.

إذن بحسب إبن رشد هذه الموافقة بين الوجود والملاحظ الذكي هي ضرورة ، وهذا ما يستوجب في التحليل المنطقي وجود مصمم قادر وحكيم أوجد الكون وأوجد الإنسان القادر على ملاحظته واستكشافه.

 القرآن الكريم والمبدأ الإنساني

يتحدث القرآن الكريم في كثير من أياته عن هذا التوافق بين الكون والانسان، وأن هذا الكون موجود ليتعرف الإنسان بواسطته على الخالق المقتدر والعليم.

يقول الله عز وجل: « اللَّـهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّـهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا » (الطلاق -12).

التفسير الماورائي

عندما نستوعب كل إمكانات التفسير الطبيعي لهذه الظاهرة  فإننا لن نصل إلى التفسير النهائي. فمهما حاولنا أن نفهم الظاهرة فهما طبيعيا سيظل السؤال قائما من أين جاء هذا القانون الطبيعي؟ وهل الطبيعة بذاتها قادرة على خلق ظواهرها ؟ وهل الطبيعة هي من يمنح للأشياء خصائصها الذاتية؟ وهل تملك الطبيعة هدفا أوغاية من خلق الحياة وخلق الإنسان؟ إن البنية التكوينية للتفسير الطبيعي لا يستطيع أن يتجاوز بنا هذه الحلقة من التساؤلات. وقد رأينا أن التفسير الذي يعتمد الصدفة في تفسير الظاهرة، يطيح بالأساس الذي يقوم عليه العقل العلمي. فالعقل العلمي إنما يتحرك وينمو ويتطور لأنه يؤمن بأن الظاهرة الطبيعية لديها أسبابها الطبيعية التي ولدتها. وبالتالي نحن نقف بإزاء تفسيرين إثنين، أحدهما فرضية الصدفة التي أخرجناها من دائرة التفسير العلمي وهي كما رأينا فرضية تصيب العقل العلمي بالشلل والجمود. والآخر فرضيات التفسيرالطبيعيالتي تزيح المشكلة من مكان وتضعها في مكان آخر فنحتاج دائما إلى نقل التساؤلات ذاتها إلى المكان الآخر. إن فرضيات التفسير الطبيعي لا تمكنا من التحرك صعودا في تفسير الظاهرة حتى نبلغ بها التفسير النهائي. ولا يبقى أمامنا إلا فرضيات التفسير الماورائي. وعندما نبحث في فرضيات التفسير الماورائي، فلن نستطيع الوصول إلى التفسير النهائي إلا إذا افترضنا في هذا التفسير ذاتا كلية قادرة على خلق الظاهرة وعالمة ومحيطة بكل جزيئاتها. يعني إن فرضيات التفسير الماورائي تنحصر في هذه الذات الكلية العليمة والمقتدرة بدون حد أو نهاية، لأننا إذا افترضنا في هذه الذات تناهي القدرة وتناهي العلم فإننا لن نصل في التفسير إلى منتهاه، وسيظل الجواب يحوي هامشا تنبعث منه التساؤلات من جديد. إذن بدون أن نضع في هذه الذات الكلية شرط اللاتناهي في القدرة والعلم فلن نستطيع نعطي إجابات نهائية لهذه الظاهرة. وما دامت هذه الذات الكلية قادرة وعليمة بدون حد أو منتهى  فلن تشكل مثل هذه الظاهرة تحديا لها كما في فرضية الصدفة. كما إن هذه الفرضية تمتلك المبررات الموضوعية في خلق الظاهرة وإيجاد الحياة. لكننا لن نخوض غمار البحث في العلة الغائية للخلق ونكتفي بأن تستوفي هذا الفرضية إشكالات العلة الفاعلة التي تفسر هذه الظاهرة المحيرة للعقول. وهذا يقودنا إلى التوقف عند فرضية الإله والتعرف على المعيار الذي يعطي لهذا التفسير قبولا في الوسط العلمي.

فرضية الإله 

فرضية الإله واحدة من الفرضيات التي تفسر ظاهرة الضبط الدقيق.  نحتاج في فرضية الإله كما اسلفنا أن يكون هذا الإله قادرا وعليما فقط. ولكن قدرته وعلمه لا تقف عند درجة بل يلزم أن تمتد قدرته وعلمه إلى اللانهائية وإلا لأستلزم ذلك إعادة طرح نفس التساؤلات. وإذا كان العليم والمقتدرلا يحده حد فإن من المؤكد أن إحتمال الضبط الدقيق بناء على صحة فرضية الإله المقتدر والعليم  أكبر من إحتمال الضبط الدقيق بدون فرضية الإله. وهذا كما سنبين عندما نتعرض لنظرية التأكيد يحقق الشرط الضروري الخاص بالمعيار العلمي الذي تترجح به الفرضيات العلمية. فما عساه أن يكون هذا المعيار ؟

 مبدأ اوكام

إن مبدأ اوكام مبدأ نسترشد به في ترجيح أحد الفرضيات على الأخرى. وينص هذا المبدأ: إن الفرضية المعتمدة علميا هي تلك التي تشتمل على التفسير الأبسط. لكن ماذا يقصد أوكام من الأبسط في هذا المبدأ؟

1- إن أبسط الحلول وأقلها تعقيدا هو الحل الأمثل والأرجح.

2- إن الأبسط هو الذي يحوي عددا قليلا من الإفتراضات. فلا يصح مضاعفة الإفتراضات من غير ضرورة.

3- لا يصح أن نكثر من الوجودات المسببة للظاهرة من غير مسوغ أو ضرورة.

في الحقيقة إن هذا المبدأ ليس واضحا بما يكفي في تحديد الفرضية الصحيحة من غيرها، ولكن الأبسط لابد أن يكون له إحتمالية مرجحة في حدوث الظاهرة. فكيف نقيم مختلف الفرضيات ونرجح بعضها على بعض؟ طور ريتشارد سوينبيرون فيلسوف الأديان البريطاني لهذا الغرض نظرية يطلق عليها نظرية التأكيد؟ فما هي نظرية التأكيد ؟ وكيف نطبقها على الفرضيات المطروحة في تفسير ظاهرة الضبط الدقيق.

نظرية التأكيد Confirmation Theory

إن نظرية التأكيد تضع لنا صيغة رياضية لتقييم الفرضيات وتحديد ما إذا كانت هذه الفرضيات مقبولة علميا أو مرفوضة علميا.

هذه النظرية تستند على نظرية رياضية تسمى نظرية بايز في الإحتمالات. إذا افترضنا أن لدينا نظرية: T ولدينا دليل أو ظاهرة: E ، فإن إحتمال النظرية بناء على وجود الظاهرة يكتب بهذه الطريقة: أما إحتمال الظاهرة بناء على صحة النظرية يكتب بهذه الطريقة: في نظرية التأكيد الدليل أو الظاهرة يؤكد من النظرية إذا و إذا فقط حقق هذا الشرط: إن إحتمال النظرية بناء على وجود الظاهرة هو أكبر من الإحتمال القبلي للنظرية. ويكتب رياضيا بهذه الصيغة (10، ص7) : ولكي يتحقق هذا الشرط يلزم منه أيضا أن يكون إحتمال الظاهرة على فرض صحة النظرية هو أكبر من إحتمالها بدون الفرضية: لنطبق الآن هذا الشرط على الفرضيات المختلفة التي عرضناها.

ففي حالة فرضية الصدفة رأينا أن ظاهرة الضبط الدقيق لا تعزز من هذه الفرضية، بل أنها تشكل تحديا للفرضية الأمر الذي يجعل إحتمال الظاهرة على فرض صحة فرضية الصدفة هو أقل من إحتمالها القبلي وهذا يقود إلى أن إحتمال الصدفة القبلي هو أكبر من إحتمالها بناء على وجود الظاهرة. حيث FT  تعني هنا ظاهرة الضبط الدقيق. وفي فرضية القانون الفائق رأينا أنه تم ترحيل هذه الظاهرة إلى القانون الفائق نفسه، فقد تعرفنا على فضاء كلابي ياو والذي يتم ضبطه عبر دمج ولف هذا الفضاء المغلق بطريقة معينة لنحصل على حل لمعادلات الأوتار وكل حل يمثل كونا معينا. وبالتالي فإن إحتمال القانون الفائق لا يتعزز بوجود الظاهرة ويبقى الإحتمال كما هو ويأخذ هذه الصيغة:أما في فرضية الإله فقد رأينا أن من المؤكد أن يتعزز إحتمال هذه الظاهرة القبلي مع فرضية وجدود الإله المقتدر والعليم. حيث أن هذه الظاهرة التي يعتمد الكون والحياة على الدقة المتناهية لا يمكن أن تخضع للمصادفات الرقمية. إنه من غير المنطقي جدا أن تكون الصدفة العمياء أن تنتج ظاهرة بهذه الدرجة من الحدية أو نعزي مثل هذه الظاهرة إلى القانون الطبيعي الذي يجب أن ندرك عجزه البنيوي الذاتي عن إيجاد نفسه بنفسه فنحن دائما بحاجة أن نسال من أين أتى هذا القانون ومن أوجده. ولا يبقى إلا: أن هناك وجود مقتدر وعليم أوجد الظاهرة من أجل قيام الحياة الذكية المسؤولة في هذا الكون، وأنه أراد أن يوصل رسالته الخاصة لهذه الحياة الذكية. وما دامت الظاهرة تتعزز على فرض صحة وجود الإله:  فإن إحتمال فرضية الإله القبلي يزيد مع إحتمال الفرضية بناء على وجود الظاهرة:وبالتالي تكون فرضية الإله هي الفرضية الأكثر علمية وهي الأجدر في تفسير الظاهرة.

 الكون ويد القدرة

عل ضوء المعلومات المتوفرة فإن الكون في وضع حرج للغاية. إن ظاهرة الضبط الدقيق تعني أن الكون لا يتمتع بالإستقرار والتوازن الذي يكفل بقاءه واستمراره. بل هو يشبه إلى حد كبير قلم الرصاص الذي يقف منتصبا على رأسه. ومن المحتم أن تكون نهايته السقوط.  ولكي يبقى هذا القلم منتصبا على رأسه الحاد ويستمر في هذه الحالة الحرجة جدا فإنه لا سبيل له في البقاء والإستمرار إلا أن يمسك به أحدا ويبقيه في هذه الحالة. وكذلك فإن هذه الظاهرة تشير إلى الوضع الحرج للكون وأن الكون بنفسه لا يستطيع أن يمنع نفسه من الإنهيار بل يحتاج في كل آناته لمقتدرعليم يمسك به ويمنعه من السقوط والضياع. وإن لفظة يمسك لهو التعبير الدقيق عن حاجة الكون الماسة في بقاءه واستمراره. وقد وردت هذه اللفظة في القرآن الكريم في السياق الذي يبين فيه أن العناية الربانية هي من تحفظ هذا الكون وتمسك به من الإنهيار. يقول الله عز وجل في سورة فاطر الاية 41:

( إِنَّ اللَّـهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ).

ويقول الله عز وجل في سورة الحج الاية 65: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ).

المراجع:

  1. حوار الفلسفة و العلم : سؤال الثبات و التحول ، منشورات ضفاف ، الطبعة الاولى ، 2012.
  2. كون من لا شيء ، لورانس كراوس ، ترجمة غادة الحلواني ، الطبعة الاولى ، 2015.
  3. مدخل إلى فلسفة العلوم : العقلانية المعاصرة و تطور الفكر العلمي، الدكتور محمد عابد الجابري ، مركز دراسات الوحدة العربية ، الطبعة الرابعة ، 1998.
  4. فلسفتنا ، السيد محمد باقر الصدر ، دار التعارف للمطبوعات ، الطبعة الثالثة عشر ، 1982.
  5. Just Six Numbers, Martin Rees, Basic Books, 1999
  6. التصميم العظيم: إجابات جديدة على أسئلة الكون الكبرى ، ستيفن هوكينغ ، ليونارد مولدينوو، ترجمة أيمن أحمد عياد ، التنوير للطباعة و النشر و التوزيع ، الطبعة الاولى ، 2103.
  7. Particle Physics and Inflationary Cosmology, Andrei Linde, CRC Press, 1990
  8. God & the New Physics. Paul Davis, Simon & Schuster Paper Backs, 1983
  9. The Cosmic Lottery, Wai Hung Wong, Forthcoming in International Journal for Philosophy of Religion .
  10. Fine Tuning and The Existence of God, Doctor of Philosophy, Chan Man Ho, Hong Kong Baptist University, 2017.
  11. Parallel Worlds: A Journey Through Creation, Higher Dimension, and the Future of the Cosmos, Michio Kaku, Anchor Books,2006.
  12. الوجود و الزمان ، مارتن هيدغر ، مراجعة الدكتور زكريا ابراهيم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *