لماذا نشعر بالثقة إزاء القرارات التي نتخذها – ترجمة عدنان أحمد الحاجي

Why we feel confident about decisions we make
(بقلم: كريستوف إلهارت –  Christoph Elhardt)

لأول مرة أثبت فريق من الباحثين بقيادة البرفسور رافائيل بولانيا (Rafael Polanía) من المعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيورخ (ETH) أن القرارات تبدو صحيحة بالنسبة لنا لو قمنا بمقارنة الخيارات بانتباه وباهتمام ما أمكن – وإذا ما كنا واعين ومدركين حين قمنا بتلك المقارنة. هذا يتطلب القدرة على التأمل الباطني / الاستبطان (introspection) (انظر 1).

دونات أم تفاحة؟ تعتمد ثقتنا في هذه الأنواع من القرارات على مدى اهتمامنا / انتباهنا حين اتخذناها.

يبدو أن شراء سيارة مستعملة بسعر جيد أمر  يبعث على السعادة. لكن شراء دونات لذيذة من السوبر ماركت يجعلنا مشوبين بالشك. وفي النهاية، عقدنا العزم على اتباع نظام غذائي صحي هذا العام – ألم يكن من الأفضل أن نشتري تفاحة؟ لقد مررنا جميعًا بهذا الشعور في يوم ما: بعض القرارات تبدو صائبةً بالبداهة، بينما يجعلنا البعض الآخر منها نشعر بالريبة وقد يدفعنا حتى إلى مراجعة وتصحيح خيارنا الأول. ولكن من أين يتأتى هذا الشعور؟

“باستخدام نموذجنا، بينّا بنجاح أنه من المرجح أن تكون القرارات صائبة إذا استثمرنا جهدًا معتبرًا من الاهتمام في المفاضلة بين الخيارات المختلفة ، ليس هذا فقط، بل أننا واعون لما قمنا به من جهد في هذا الصدد” ، كما يقول بولانيا ، الذي يترأس مختبر علم أعصاب القرار في (ETH) زيورخ.

وبالتالي، فإن القدرة على التشكيك في القرارات السيئة (الخاطئة) ومراجعتها وتصحيحها تعتمد على مدى قدرتنا على الحكم بأنفسنا على ما إذا كنا قد قمنا بتقييم الخيارات بدقة أو سمحنا لأن يكون انتباهنا مشتتًا أثناء عملية اتخاذ القرار.  هذا الوعي الذاتي / بالذات (2)، والذي يشير إليه الخبراء عادةً على أنه عملية استبطان (1) ، هو متطلب مسبق لممارسة ضبط النفس.

فحص التقييمات الذاتية (غير الموضوعية) للاختيار / للخيار في المختبر

ثقتنا في قراراتنا تستند على تقديراتنا الذاتية (غير الموضوعية) للقيمة التي نعملها عادةً بشكل تلقائي / عفوي / ارتجالي وبدون ريب أو تردد كجانب من جوانب حياتنا اليومية.  للتمكن من عملية التحليل المنهجي للطريقة التي تجري به هذه العملية، درس بولانيا وفريقه كيف يقوم الخاضعون للتجربة بتقييم واختيار الأطعمة التي يستهلكونها / يتناولونها يوميًا.

طُلب من 35 مشاركًا في الدراسة في البداية تقييم 64 منتجًا من سلسلتي سوبر ماركت سويسرييتين. عُرضت على المشاركين صورة لكل منتج على شاشة وسُئلوا عن مقدار ما يرغبون في الأكل منها في نهاية التجربة. في الجزء الثاني من التجربة، عُرض على الخاضعين للتجربة سلسلة من الصور التي أظهرت منتجين اثنين بشكل تزامني.  في كل حالة، طُلب منهم اختيار أحد الخيارين – الدونات أو التفاح أو البيتزا أو الكمثرى – ثم بعد ذلك يقيموا مدى ثقتهم في قرارهم الذي اتخذوه بشأن المنتج الذي اختاروه.

لجعل التجربة واقعية قدر الإمكان ، كان على المشاركين أكل هذه المنتجات بعد التجربة. استخدم الباحثون ماسحًا (متتبعًا) لحركة العين أثناء كل من مرحلتي التقييم واتخاذ القرار لمعرفة ما إذا كان المشاركون قد أمضوا وقتًا أطول في النظر إلى أحد المنتجين، وكم مرة تحول نظرهم من اليسار إلى اليمين، ومدى سرعة اتخاذهم للقرار.

الجهود العالية المبذولة على الانتباه / الاهتمام ترفع من مستوى الثقة

باستخدام هذه البيانات ومجموعة بيانات مماثلة من مجموعة بحثية مختلفة، طور بولانيا مع طالبه الذي يحضر الدكتوراه يروين بروس (Jer­oen Brus) نموذجًا حاسوبيًا يتمكن من التنبؤ في ظل أي ظروف سيكون لدى الناس ثقة – أو عدم ثقة – في قراراتهم.  “اكتشفنا أنه من المرجح بشكل خاص أن يكون لدى الناس شعور سيء بشأن القرار إذا استبطنوا (1) أنهم لم يولوا مقارنة الخيارات المختلفة اهتمامًا / انتباهًا كافيًا، كما قال بولانيا”.

النموذج يستخدم أنماط / اتجاهات حركات عيون المشاركين لمعرفة مقدار الجهد الذي يبذلونه بالفعل في تقييم ومقارنة المنتجات المختلفة.  الشخص الذي يأخذ وقته وينظر دائمًا إلى كلا الخيارين يُعتبر أنه قد بذل جهدًا عاليًا في الانتباه / الاهتمام، في حين يُعتبر أولئك الذين ركزوا نظرهم على خيار (منتج) واحد فقط وأهملوا الآخر غير مهتمين / منتبهين.

أفضل طريقة لتوضيح هذه النتائج هي أخذ مثال من الحياة اليومية في الاعتبار: لو وضعنا دونات في سلة تسويقنا دون التفات / انتباه، حتى بعد أن صرحنا عن عزمنا بأكل طعام صحي بشكل أكثر، وبعد ذلك أدركنا أننا لم نفكر حتى في بدائل صحية ، فلابد أن يكون لدينا ثقة منخفضة في قرارنا ونقوم بمراجعته وتصحيحه. من ناحية أخرى ، لو كنا ندرك أننا قد أخذنا بعناية سلسلة من المنتجات الصحية في الاعتبار ولكننا قررنا بعد ذلك عدم اختيارها لأننا ببساطة كانت رغبتنا في الدونات أكثر من رغبتنا في التفاحة أو الكمثرى ، فهذا يشير إلى أنه كان لدينا ثقة في قرارنا.

توظيف الاستبطان لمراجعة وتصحيح القرارات السيئة

وفقًا لمؤلفي الدراسة ، فإن القدرة على التشكيك في القرارات السيئة والثقة في القرارات الجيدة تعتمد إلى حد كبير على مدى وعي الشخص بأحكامه التقديرية الذاتية المتعلقة بالقيمة (3) والمقارنات التي عملها بعد اتخاذ القرار. هذا شيء يشير إليه علماء الأعصاب على أنه استبطان (1).

“بمجرد أن نتخذ قرارًا، قد نشك في قيمته ونقوم بمراجعته وتصحيحه فقط إذا كنا واعين بحقيقة أننا أخفقنا في إيلاء الاهتمام الكافي في مقارنتنا (مفاضلتنا) للخيارات”، كما يقول بولانيا. هذه القدرة على الاستبطان هي أيضًا جانب مهم من قدرتنا على ممارسة ضبط النفس. يقول بولانيا إنه بدون هذه القدرة، من المرجح أن نتصرف وفقًا لرغبتنا في الأطعمة غير الصحية، على سبيل المثال ، وبدون أي تردد في ذلك. الخبر السار هو أنه يمكننا تدريب أنفسنا على هذه القدرة بممارسة تمارين اليقظة والتأمل.

تطبيقات على النظارات الذكية والمركبات ذاتية القيادة

يقول بولانيا إن هذا النموذج يمكن ادراجه تدريجيًا في تكنلوجيا النظارات الذكية التي تتعقب حركات العين. ويقول: “يمكن لهذه النظارات أن تستخدم هذا النموذج لمعرفة مدى انتباهنا وإعلامنا متى ينبغي لنا أن نشكك في القرار الذي نحن بصدد اتخاذه”.

يعتقد بولانيا أيضًا أن النموذج يمكن أن يكون مفيدًا للسيارات ذاتية القيادة. الخوارزميات المستخدمة في المركبات ذاتية القيادة تتخذ قرارات باستمرار بناءً على التدفق المستمر للمعلومات / للمعطيات التي تصل اليها من أجهزة استشعار السيارة.  يقول بولانيا: “نموذجنا قد يكون مفيدًا لهذا النوع من السيارات في تقييم قراراتها وتصحيحها عند الضرورة”.

البحث تشر في مجلة (Nature Communications) في 17 ديسمبر 2021 (انظر 4). 

مصادر من داخل وخارج النص:
1- “الاستبطان (أو مطالعة النفس) هو تأمل باطني ينصب على ما يجري في عالم الشعور، ومنه الاستبطان التجريبي، وهو منهج نفسي يتلخص في أن يوضع شخص تحت اختبارات معينة ليصف شعوره في أثناء هذه التجربة.[تعتمد عملية الاستبطان في علم النفس حصريًا على ملاحظة المرء لحالته العقلية، بينما قد تشير في السياق الروحي إلى فحص روح الشخص. يرتبط الاستبطان بشكل وثيق بالتأمل الذاتي البشري ويتناقض مع الملاحظة الخارجية. يقدم الاستبطان بشكل عام ميزة وصول الشخص إلى حالاته الذهنية الخاصة دون وجود وساطة من مصادر المعرفة الأخرى، وبالتالي تعتبر الخبرة الفردية للذهن فريدة من نوعها. يمكن للاستبطان أن يحدد أي عدد من الحالات الذهنية بما في ذلك: الحسية والجسدية والمعرفية والانفعالية وما إلى ذلك.  الاستبطان كان موضوعًا للنقاش الفلسفي طوال ألآف السنين. يتسائل الفيلسوف أفلاطون، لم لا ينبغي علينا مراجعة أفكارنا الخاصة بصبر وروية، ومن خلالها نفحص ونرى حقيقة تلك المظاهر الموجودة فينا؟ وبينما يُطبق الاستبطان على العديد من جوانب الفكر الفلسفي، فربما يُعرف جيدًا بسبب دوره في الإبستمولوجيا؛ ويُقارن الاستبطان غالبًا في هذا السياق مع الإدراك الحسي والتفكير والتذكر والشهادة بوصفها مصدرًا من مصادر المعرفة”. مقتبس من تص ورد على هذا العنوان: https://ar.wikipedia.org/wiki/استبطان_(علم_النفس).
2- “الوعي بالذات؟ يعبّر الوعي الذاتي، أو الوعي بالذات أو الـ (Self-awareness) عن عادة الانتباه إلى الطريقة التي نفكّر ونشعر بها، ونتصرّف بناءً عليها. وبتفصيل أكبر، يعني ذلك: البحث عن الانماط المختلفة في طرق التفكير التي نميل إليها، وكيفية ملاحظة المواقف التي نمرّ بها. بالإضافة إلى كيفية تفسير الأشياء لأنفسنا وفهم العالم من حولنا. فهم مشاعرنا الخاصّة وأمزجتنا المتنوعة. وليس محاولة تجنّبها أو إصلاحها، نكتفي بمراقبة مشاعرنا وملاحظتها، حتى وإن كانت صعبة أو غير مريحة. الانتباه إلى الكيفية التي نتصرّف بها في مواقف معيّنة. ما هي استجابتنا الطبيعية للأشياء؟ ما هي عاداتنا وسلوكياتنا؟ باختصار، فالوعي بالذات يعني الانتباه ومحاولة معرفة المزيد حول أنفسنا وذواتنا”.
https://www.for9a.com/learn/ما-هو-الوعي-بالذات-وكيف-تطوره
3- “الحكم التقديري هو حكم بكون شيء ما صحيحًا أو خطأً, أو الحكم بكون شيء ما نافعًا بناءً على المقارنة أو الأشكال النسبوية الأخرى. على وجه العموم، قد يشير الحكم التقديري إلى الحكم القائم على مجموعة معينة من القيم أو على قيم اجتماعية معينة. وهناك معنى آخر يرتبط بالحكم التقديري وهو التقييم النفعي القائم على المعلومات الضئيلة المتوفرة، ويتم هذا التقييم لوجوب اتخاذ قرار ما في فترة قصيرة”. مقتبس من تص ورد على هذا العنوان: https://ar.wikipedia.org/wiki/حكم_تقديري
4- https://www.nature.com/articles/s41467-021-27618-5

المصدر الرئيس:
https://ethz.ch/en/news-and-events/eth-news/news/2022/01/why-we-feel-confident-about-decisions-we-make.html

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *