خلال سبتمبر الماضي 2021 انهيت مع مجموعة من الزملاء برنامج “التميز المؤسسي” بمعهد الإدارة العامة بالدمام والذي يعد واحداً من البرامج الموجهة المهمة التي ينفذها المعهد لفئة موظفي القطاع العام، ونظراً لما لمسته من متعة وفائدة في هذا البرنامج وكذلك هو شعور بقية الزملاء في البرنامج أود أن أقارب موضوع التميز المؤسسي من زاوية ثقافية، لأنها تعتبر حجر الأساس في هذا الشأن وبدون التشبع بثقافة التغيير وسلوكيات التطوير المدروس على مستوى قيادة المنشأة ومنسوبيها والمضي بتلك الثقافة على أرض الواقع فإن الاحاطة فقط بالمعلومات والتفاصيل من مبادئ وأهداف ومعايير لا تغني في التقدم والتطوير شيئا.
تأسيساً على ذلك نتعرف على تجربة واقعية حققت على أرض الواقع نجاحات باهرة من خلال السير على منهجية إدارة التغيير المؤسسي، فالتجارب الواقعية تعتبر من أسرع الطرق لتيسير فهم ثقافة وإدارة التغيير المؤسسي فالتجارب الحية على الأرض تشكل ومضات معرفية تضيء الجانب الثقافي للقارئ وليس الجانب التخصصي الذي مجاله معاهد التدريب والجامعات، كما أن مكتبات الشبكة العنكبوتية ممتلئة بالموضوعات الأكاديمية حول إدارة التغيير المؤسسي لمن أراد التوسع.
من التجارب اللافتة نتوقف عند محطة هندية وبالذات مدينة ” إنـــدور ” التي يبلغ عدد سكانها بالمنطقة الحضرية حوالي 2.3 مليون نسمة، ووفقاً لتغريدات الدكتور عبد الله ضيف الله في يوليو 2019 [ وهي المصدر الأساس في المعلومات حول تجربة إندور التي سترد في هذا المقال ] بأن “تلك المدينة المغمورة استطاعت ان تتربع على قائمة “أنظف مدينة في الهند” في السنوات الأخيرة بعد ان كانت من أكثر المدن شهرة باتساخ شوارعها ومناطقها، التغيير حدث بعد تعيين السيدة [ماليني] رئيسةً لبلدية المدينة”.
وسأحاول في استعراض هذا الإنجاز [ بشكل موجز ] تطبيق ومقايسة مراحل التغيير المؤسسي على هذه التجربة والتي تتكون من ست مراحل هي مرحلة التشخيص ، مرحلة تشكيل فريق الإدارة ، مرحلة التقييم الذاتي ، مرحلة تحديد أولويات التطوير ، مرحلة تصميم وتنفيذ الخطة الإجرائية ، وأخيرا مرحلة متابعة وتقويم الأداء المرتبط بتنفيذ الخطة الإجرائية.
في مرحلة التشخيص والتي تركز على كشف سلبيات التنظيم القائم ومدى قدرته على التفاعل مع المتغيرات الجديدة فقد وجَدتْ “ماليني” عند تعيينها كرئيسة لبلدية المدينة عام 2015 أن أكبر تحدي يواجه المدينة هي شوارعها المتسخة وعدم اهتمام سكانها بنظافة مدينتهم، كان ترتيب المدينة في قائمة نظافة المدن التي تصدر من وزارة التخطيط العمراني بالهند متأخر للغاية، لذلك اعدت خطة لتغيير هذا المشهد.
في مرحلة تشكيل فريق قيادة جودة الأداء والذي من أولى مهامه بالإضافة لوضع الخطة الشاملة لتحقيق تطوير الأداء والتطلعات المرجوة فإن عليها أن تقوم بعمليات التوعية اللازمة لأهمية التغيير وبناء ثقافة داعمة للتغيير وفي هذا الإطار شكلت “ماليني” أكثر من 10 لجان من البلدية مهمتها الذهاب للمدارس، الأحياء السكنية، المستشفيات، الحدائق، واماكن تجمع الناس لشرح الخطة القادمة لجعل المدينة نظيفة، هذه اللجان كذلك تواصلت مع الاعلام المحلي لبث حلقات خاصة عن التغييرات الجديدة وكيف سيكون نظام النفايات الجديد.
المرحلة الثالثة وهي الأهم نحو تحقيق التميز والتطلعات اجراء التقييم الذاتي للتعرف على مواطن القوة والضعف في مختلف مجالات العمل بالمؤسسة وإمكاناتها واحتياجاتها بصورة واقعية موضوعية بدون تزييف للحقائق وذلك وفق معايير الجودة والتميز وجدت بعد البحث والتقصي أن عمال النظافة لا يؤدون متطلباتهم الوظيفية وأن 90٪ لا يعمل ميدانياً ويكتفي بأخذ الراتب الشهري، كما أن الميزانية المرصودة متواضعة وبحاجة إلى رفع الدعم المالي والمساندة القانونية.
في المرحلة الرابعة والتي تعنى بتحديد أولويات التطوير من خلال تحديد الفجوات الأشد تأثيرا سلبياً في إنتاجية المؤسسة وتحقيق أهدافها واتخاذ القرارات المناسبة بشأنها وتعيين نقطة البداية في التطوير، فتمثلت الأولويات في المستند القانوني للإجراءات التي سوف تُـتخَذ، ثم الاستخدام الأمثل للميزانية بما يمكنها من تنفيذ تلك الإجراءات كعوامل خارجية لها تأثيرها على مرحلة التنفيذ الفعلية في التطوير والخاضعة للقياس، وسوء الأداء كأهم نقطة ضعف كعامل داخلي أي من داخل البلدية.
المرحلة الخامسة مرحلة تنفيذ الخطة الإجرائية للتطوير فكانت نقطة البداية فرز الموظفين على أساس الإنتاجية والأداء، فقامت بفصل 400 موظف ممن يتقاضون أجراً فقط ولا يؤدون عملاً في المقابل، وانذار البقية بالفصل النهائي، وعملت على جلب موظفين جدد راغبين في العمل بشكل جدي.
وضمن الخطة الاجرائية تم إلغاء حاويات النظافة من الشوارع لأن العديد من السكان قد يتكاسل عن رمي المخلفات فيها، وكحل بديل أصبحت سيارات النظافة تجلب النفايات عن طريق دق باب المنازل مقابل زيادة بسيطة في رواتبهم بشرط ان يجهز السكان نفاياتهم داخل اكياس بشكل مرتب وسهل للحمل.
كما تم تطبيق نظام صارم للمخالفات إذ تم رفع قيمة مخالفة رمي النفايات في الشوارع بما نسبته 400٪ وتم انشاء قسم جديد فقط مهمته مراقبة المخالفين بملابس مدنية، واي منشأة تجارية تخالف يتم تشهيرها في الصحف والراديو وتكرار المخالفة يعرض المحلات للإغلاق النهائي.
ولكن الخطة لم تغفل عن تنشيط المشاركة التفاعلية لفئات المجتمع لإنجاح الخطة وتحقيق الهدف حيث قدمت محفزات لمن يتعاون مع البلدية في مهمة تنظيف المدينة فقد قامت البلدية بشراء معدات تقنية جديدة لتحويل النفايات الى سماد نباتي، ومنحت صاحب كل بيت فرصتين بشكل اسبوعي لإعطاء عمال البلدية النفايات وتحويلها لسماد طبيعي، أيضاً من يشتري هذا الجهاز يحصل على خصم 10٪ على ضريبة السكن وقدمت محفزات اخرى لشراء معدات أخرى أكثر فائدة.
علاوة على ذلك اهتمت الخطة ببث روح المنافسة عن طريق مسابقة بين الأحياء السكنية والحي الذي يكون أكثر نظافة من غيره يعلن فائزاً ويحتفل بهم في الإعلام ويكرمون بعشاء فاخر مع رئيسة البلدية وقياداتها كنوع من التقدير، وأيضاً انشأت منصبا في كل مدرسة اسمه “عميد النظافة” للطالب الذي يحث على هذا الامر.
وفي المرحلة الأخيرة التي تعنى بتقويم الأداء للخطة الإجرائية لاتخاذ القرارات المناسبة لضمان استمرارية التطوير بهدف الوصول لأعلى مستوى من مؤشرات جودة الأداء المؤسسي، كان من نتائج التقويم استبعاد الاجراءات المفاجئة واعتمدت مبدأ اشعار عموم السكان بماذا سيحصل في الفترة القادمة لذلك تم تركيب مذياع في كل سيارات النفايات لهذا الغرض وأيضاً لنشر رسائل توعوية موجهة للسكان تشجعهم على المحافظة على نظافة المدينة مدموجة بأهازيج وطنية هدفها تكريس انتماء الساكن لمدينته.
بهذه المنهجية وفي غضون فترة بسيطة قفزت المدينة في ترتيب النظافة من 250 الى 25 في عام 2016 ثم اصبحت الأولى في (2017- 2018) وفي عام 2019 اصبحت المدينة هي الانظف على مستوى الهند وزار البلدية اكثر من 200 مسؤول من مدن هندية مختلفة لنقل التجربة الى بلدياتهم ومحاولة استنساخ هذا النجاح.
هذه التجربة تكشف أهمية القيادة الملهمة كأحد مبادئ التغيير المؤسسي التي تتمكن أن تجعل كافة أفراد المنشأة يتحدون معها في الصفات ومستوى الأداء،
ويبدو لي أن “ماليني” كنموذج قيادي في إدارة التغيير ينطبق عليها نموذج “أدكار” الذي ينسب لشركة “بروساي” الأمريكية التي تأسست عام 1994 وأصبحت رائدة في الأبحاث والتدريب في مجال إدارة التغيير على مستوى العالم والمكون من خمس خطوات هي:
أولاً الوعي (Awareness) فقد كان واضحاً للسيدة ماليني أهمية الحاجة إلى تغيير وضع المدينة وعكست هذا الوعي على مفاصل البيئة الداخلية للبلدية من أنظمة وأفراد، والوعي هنا هو الشعور العميق بالحاجة إلى التغيير ووضوح الرؤية بأن الوضع الحالي يعيش مشكلات واختناقات حقيقية يجب معالجتها.
والخطوة الثانية الرغبة (Desire) بالتأكيد فإن الوعي بالحاجة إلى التطوير إذا لم يولد اندفاعاً وحماساً لتحمل مسؤولية تنفيذ الخطط والقيام بالمهام فلن يتحرك التغيير إلى الأمام وهذا ما توفر لشخصية القائد وعكسته بمهارة على العاملين لديها، والخطوة الثالثة هي المعرفة (Knowledge) إذ أن بعض القادة يفشلون في هذه الخطوة فلا يزودون الأفراد بالمعلومات والمهارات التي يحتاجونها لإحداث التغيير مما يحدث فجوة بين أهداف المشروع وبين سلوكيات العاملين مما يؤدي بالنتيجة للفشل في ترجمة تلك الرغبة وذلك الوعي على أرض الواقع.
الخطوة الرابعة القدرة (Ability) لاشك أن القيادة الإدارية الناجحة تبذل مجهوداً عالياً بحيث تدعم إحلال المهارات والسلوكيات الجديدة للعاملين محل الممارسات القديمة وابعاد أي محاولة للعودة اليها والانتكاس الى المربع الأول، وهذا المجهود له ارتباط وثيق بالخطوة الخامسة ألا وهي الإلزام (Reinforcement) فإذا تمكنت القيادة المنجزة من استمرارية التزام الأفراد بما قبلوا القيام به فتلك قدرة لافتة في احداث التغيير المطلوب ولا شك أن ذلك مرهون بتحقيق إنجازات ونجاحات على المدى القصير وتفعيل أساليب التحفيز والمكافأة وغير ذلك من وسائل استمرارية تطوير أي تحول نوعي وفعال، هذه قراءة مقتضبة في الدور الذي قدمته رئيسة بلدية إندور كنموذج عملي يشرح إدارة وثقافة التغيير والأداء المؤسسي.
ما هو جدير بالالتفات اليه أن تلك التجربة أنجزت قبل أن تُطْبق جائحة كورونا على الأمة الهندية والعالم ومع أن المعلومات لدي شحيحة حول انعكاسات ذلك التحول التغييري على مدينة اندور أثناء الجائحة إلاّ أن الموضوعية المنطقية تشي بأن الوضع سيكون أسوأ لو أطْبَقتْ الجائحة في ظل مدينة مرهقة بانعدام النظافة لاسيما أن عدد الوفيات الفعلي في الهند يقدر بالملايين حيث ضاقت مستشفيات المدن عن استيعاب العدد المهول من الإصابات حتى أصبحت المنازل بديلاً للمستشفيات لرعاية المصابين والحالات الحرجة مما جعل باحثون من جامعة هارفارد وفق تقرير للبي بي سي يعتبرون (كوفيد 19) أسوأ مأساة إنسانية تشهدها الهند منذ التقسيم والاستقلال رغم أن الهند مقر أكبر شركة لتصنيع اللقاحات في العالم (معهد أمصال الهند) ومن اهم أسباب ذلك وفق خبراء الصحة العالميون عدد السكان الكبير ومساحة الهند المترامية ونظام الصحة العامة الضعيف.
إن التوصيف السابق يؤكد أهمية التركيز على التغيير والأداء المؤسسي المستدام في جميع مناحي الحياة لما له من تأثير على استيعاب ومحاصرة أي كوارث مستقبلية وكما قال أستاذ علم الفيروسات المتقاعد ت. جاكوب جون “إن استجابة الهند كانت إلى حد كبير “مبنية على الأدلة وتجاوبية بينما كان ينبغي أن تكون استباقية ومبنية على سيناريو احتمال انتشار الفيروس”.
مقالة رائعة وهامة لجهة أن التغيير المؤسسي يشكل التحدي الأكبر للمجتمعات في تحولاتها الكبرى، كما أن مقاومة التغيير له نفس الإشكالية على الجانب الآخر. شكراً لهذه المقالة الرائعة.