A Love Letter To Language
.Learning to speak different languages helped Nina Hobson express, and be, herself
(بقلم: نينا هوبسون* – Nina Hobson)
مقدمة المترجم
في السبعينيات من القرن العشرين الماضي ظهر في علم اللغة التطبيقي (تعلم وتعليم اللغات) ما عرف بــ “دراسات اليوميات” (Diary Studies)، وهي انطباع متعمق لعمليات التعلم أو خبرات التدريس التي يحتفظ بها متعلم اللغة بانتظام ثم يتم تحليلها من قبل المتخصصين للبحث عن الأنماط المتكررة أو الأحداث المهمة. نشأت “دراسات اليوميات” من علم النفس و علم الإنسانيات (الأنثروبولوجيا)، وتتضمن خبرات شخصية منهجية للمشاعر والأفكار والمعتقدات والمواقف وردود الفعل على مدى فترة من الزمن. بمعنى آخر، إنه نوع من المراقبة الذاتية، أو التأمل. يمكن لكتَّاب اليوميات الكتابة بحرية عن أفكارهم وليس لديهم حاجة للإجابة على بعض الأسئلة التي يطرحها الباحثون، فلذا هي تصل إلى البعد العاطفي أو المعنى الشخصي في تجربة تعلم اللغات الذي لا يمكن لأدوات البحث الخارجية التقليدية – مثل الاستبانات (questionnaires) أو الملاحظة (observation) – أن تصل إليه.
هذا المقال هو عبارة عن ترجمة لانطباعات إمرأة تعلمت ومارست عدة لغات في عدة دول وسمتها بـ “رسالة حب إلى اللغة” (A Love Letter to Language)[1]. ورغم أنه لا يمكن اعتبارها تقرير عن “دراسة يوميات”، الرسالة فيها عدة مفاهيم ورؤى مهمة عن تجربتها اللغوية، سواءًا في تعلم اللغات أو في مقاربتها للغات ذاتها، أتركها للقارئ العزيز والقارئة العزيزة لاقتطاف ما يراه/تراه جديرًا بالجَنَى الجميل.
رسالة حب إلى اللغة
لمعت الأبراج الزجاجية في البرلمان الأوروبي في ضوء الصباح. سحبت بطاقة هويتي وذهبت إلى المكتب. في عمر 24 سنة، حصلت على وظيفة أحلامي، أو هكذا اعتقدت، مساعد لمسؤول رفيع المستوى هو كل ما كنت أتمناه، لكنني كنت أشعر بالرهبة كل صباح. عندما قبلت العرض، اعتقدت أنني سأعمل على مسائل مهمة مثل حقوق الإنسان الدولية. في الواقع، كنت موظفة استقبال مرهق، ومُقدّرة بأقل من قيمتها الحقيقية، وأتعامل مع صراع داخلي (سخيف) بين النخبة المتميزة. أنا منفتحة، بطبيعتي، وسعيدة، لكنني أيضًا حساسة للغاية. أنا أزدهر في بيئات رعاية من المساواة والرحمة، لذا شعرت بالاختناق في البرلمان الأوروبي بسبب ثقة رئيسي في “الذكورية”.
في بروكسل، كانت حياتي العملية باللغة الإنجليزية، وحياتي الاجتماعية باللغة الفرنسية، مع وقفات عرضية بالإسبانية والفلمنكية[2] والألمانية. على الرغم من بذل قصارى جهدي، لم أكن في العمل على طبيعتي. سرعان ما كنت أعيش حياتين متوازيتين – الحزينة في العمل والسعيدة كثيرًا مع الأصدقاء.
شرعت في خلق حياة بعيدة عن العمل حيث لجأت إلى درس مسائي “في اللغة العربية” للمبتدئين. تركت حدود النفوذ السياسي واستمتعت بالنادي حيث كان الجميع موضع ترحيب. لقد كونت صداقات مع أم إيطالية عادت إلى الأوساط الأكاديمية بعد أن أنجبت أطفالًا، وهي امرأة بلجيكية شابة وقعت في حب رجل مغربي وأرادت أن تفاجئه ببعض المعرفة بلغته الأم [العربية]، ومع مهاجر يتطلع إلى إعادة التواصل مع جذوره الجزائرية.
كان تكوين صداقات من جميع مناحي الحياة والتعرف على ثقافات ولغات جديدة أمرًا مفيدًا. لقد نشأت في بلدة صغيرة في ريف بريطانيا. كانت معلمتي للغة الفرنسية هي أول من عرَّفني في سن الثامنة، بمفهوم “الثقافة الأجنبية” (Foreign Culture). ذات يوم في مدرستي الابتدائية، أعدَّت مدرستي “الإفطار”، أو كما أطلقت عليه (le petit déj). كانت تشرب القهوة الخاصة بها من “طاسة” (bowel)، وأوضحت، وهي واضعة مرفقيها على الطاولة: “في الفرنسية، ليس من الوقاحة أن تقول: “أعطني معجنات من الشوكولاتة، كما في (Donne-moi un pain au chocolat – Give me a chocolate pastry). المفارقة أنه في في اليوم السابق، أُنِّبْتُ على تناول الطعام ومرفقي على نفس الطاولة ، لكنني كنت أتعلم هنا أنه من الممكن أن يكون من الأنيق أن أشرب من “طاسة”. لم يقل الناس الأشياء بطريقة مختلفة فحسب، بل كانت لديهم أيضًا طرقًا فريدة وجميلة للقيام بالأشياء. على سبيل المثال، حركات رأسي كانت تعجب الفرنسيين.
عندما كنت أسأل معلمتي عن جنس الاسم، أو تصريف الفعل، أو ترتيب الكلمات، كانت تطلب مني أن أقول العبارات المحتملة بصوت عالٍ وأسأل نفسي أيها يبدو صحيحًا. وكانت تصيح: “Et voilà!” (ها أنت ذا! there you go ) عندما أصحح نفسي. علمني تعلم اللغة الفرنسية الاستماع إلى غريزتي الداخلية.
في سن 13، تعرفت على اللغة الألمانية، والتي “لم تضبط” معي في البداية. بدت اللغات وكأنها ألعاب كمبيوتر – كان من الصعب اختراق المستوى الأول من اللغة الألمانية، ولكن بعد المثابرة وجدت المفتاح وقفزت بضع مستويات إلى غرفة “الكنز السرية”. اللغة الألمانية جميلة، لا تدرك هذا إلا حين تتقنها، أو تكون في مرحلة متقدمة من تعلمها. وقد وجدت، من خلال اللغة الألمانية، أن بعض الأشياء في الحياة تستحق المثابرة.
قبل الانتقال إلى بلجيكا لوظيفة برلمانية، تقدمت بطلب للتطوع في مخيم للاجئين الفلسطينيين، ولكن بسبب التهديدات الأمنية، تم تأجيل البرنامج. في النهاية، استوعبت الدروس التي تعلمتها من الفرنسية وقررت أن أثق في حدسي: تركت وظيفتي في البرلمان الأوروبي، فقد حان الوقت للذهاب مع حدسي والبدء من جديد. عدت إلى برنامج التطوع، وبعد عدة دورات تدريبية انطلقت إلى لبنان. كان العيش وسط المجتمع الفلسطيني امتيازًا لا يُنسى، فقد أعاد تنظيم وجهات نظري. أصبحت المشكلات التي أبقتني مستيقظةً من قبل تبدو الآن تافهة للغاية.
انتقلت من لبنان إلى سوريا حيث درست اللغة العربية في مسجد محافظ. يكمن “الدين” في قلب اللغة العربية التي تعلمتها، حتى في “دردشة الممر”. عندما كنت استفسر عن صحة شخص ما، يكون الرد المعتاد: “الحمد لله”، وعندما يحدث شيء جيد كنت أسمع: “سبحان الله”. قرأت آيات من القرآن [الكريم] باستخدام المناديل الورقية لقلب الصفحات احترامًا [لمبدأ الطهارة عند المسلمين]. لم أفهم دائمًا ما كنت أقرأ، ومع ذلك كنت أعلم أن “الكلمات” كانت “مميزة”. أنا لست مسلمة ولا أستطيع أن أدعي أنني أفهم “تعقيدات” الإسلام، ومع ذلك كنت أشعر بالوقار (sense of reverence) عندما أسمع تلاوات القرآن. مثلما أربط الفرنسية بالحرية، أربط اللغة العربية بحس روحاني لم أكن أعرف بوجوده داخلي.
بعد سوريا، انتقلت إلى أنغولا، حيث بدأت في تعلم اللغة البرتغالية. إلى جانب اللغة البرتغالية، كان هناك العديد من لغات البانتو (Bantu) – عائلة لغوية مكونة من مئات اللغات الأفريقية، ولكل منها هويتها الثقافية الخاصة. طلبت من زميل لي أن يعلمني بعض العبارات بلغة الكيمبوندو (kimbundu)، وهي لغة منتشرة على نطاق واسع في العاصمة لواندا. لم أفهم سوى بضع كلمات، لكنني استفدت من تعليم من نوع آخر: لقد تعلمت كيف تم قمع كيمبوندو من قبل القوات الكولونيالية (الاستعمارية) كوسيلة لتقويض الثقافة المحلية – ومدى أهميتها اليوم من حيث الهوية الذاتية (self-identity). كان تعلم الكيمبوندو أول تذوق لي “لفطيرة لغوية متواضعة” (linguistic humble pie). أود أن أعتقد أنني أصبحت أكثر وعيًّا الآن بفجوات التعلم [المدرسي] و “امتياز” (privilege) اللغة الإنجليزية.
يمكن أن يكون نطاق اللغات مرهقًا (daunting)، ولكنه أيضًا محرر (liberating). يشبه تعلم اللغات التجوال في أرجاء منزل بجدران رقيقة؛ عندما تفهم أساسيات لغة ما، يمكنك أن تفكر في رطنة المحادثة (murmur of conversation) عند الجيران، وتصبح فضوليًّا لتعرف ما يقال.
بالإضافة إلى الحكايات من الكيمبوندو، استمتعت بتذوق اللغات الهندية والإيطالية والماندرين [الصينية] والهولندية. من خلال هذه اللغات، تمكنت من الوصول إلى بنوك كلمات جديدة واسعة. تم التحقق من صحة مشاعري عندما كنت أصادف مصطلحًا جوهريًّا. على سبيل المثال، أحب المصطلح الفرنسي (se dépayser) (بمعنى to get away) وهو فعل يصف التحرك لتغيير المشهد، وقطع الاتصال، والخروج من منطقة الراحة. أمَّا “فرنويه” (Fernweh) باللغة الألمانية فهو التوق إلى الابتعاد: مركبة من فيرن “Fern” (بعيد) ووي “weh” (ألم). إنه حرفيًّا “ألم بعيد” أو “مرض بعيد المنال”، على عكس “هيموي” (Heimweh) (الحنين إلى الوطن (homesickness). ليست لدينا (Heimweh) في اللغة الإنجليزية، لذلك عانى الكثير منَّا لوصف هذا الشعور أثناء جائحة كورونا.
بسبب أني لست من أصحاب اللغة الأصليين، غالبًا ما أفشل في فهم التفاصيل الدقيقة والمعاني الأعمق. في حين أن هذا يمكن أن يكون مقيدًا، إلا أن جهلي الطفولي [البريء] يجعلني متحررة روحيًّا. رغم أن شخصيتي لا تتغير حسب الكلمات التي أتكلمها، تعمل اللغات معي مثل المرشحات (filters)، فهي تبالغ أو تقلل من أهمية جوانب مختلفة من شخصيتي. أصبحتُ أكثر مباشرة أو مُبَالِغة في الاعتماد على اللغة التي أتحدثها. أصدقائي يقولون لي نفس الشيء: نشعر بأن اللغة الألمانية أكثر صراحة، ولكن لا يمكننا تحديد السبب.
ربما كان لطريقة تعلمي إياها علاقة بهذا؛ دربتني مدرسة اللغة الألمانية على التفكير قبل التحدث، وعلمتني كيفية نسج أفكاري جنبًا إلى جنب مع تحولات الحديث، مثل استخدام عبارات: “لذلك”، و”علاوة على ذلك”، و”من ناحية أخرى”. المتحدثون الأصليون باللغة الألمانية يرشون كلامهم بالحشو – أصوات مثل (äm)، والردود مثل (naja) … (حسنًا …) ومالئة الفجوات (stopgaps) مثل: halt (فقط، مجرد just) و (eigentlich) (في الواقع). ومع ذلك، فإنني أميل إلى اللجوء إلى الصمت باللغة الألمانية، بينما “أهمهم” (أقول “umm”) باللغة الإنجليزية.
بالنسبة لي، الفرنسية هي عكس ذلك. أنا أحتضن الإهانات المطولة (euh)، العبارات المصطنعة مثل العبارات غير المؤكدة. الفرنسية لديها كنز دفين من الحشوات (fillers): (tu vois) (تعني لغةً “كما ترى”، ولكن وظيفيًّا (حشوًا) بمعنى “كما تعلم”، و (en fait) (بمعنى “في الواقع” (in fact)، ولكن كحشو “واقعًا” (actually)، و (quoi) (بمعنى “ماذا، “ولكن كحشو “كما تعلم” you know) و (enfin) تدل على” أخيرًا “، ولكن كحشو “حسنًّا/طيب” أو “على أي حال” (any way). بدعم من مفردات الحشو هذه ومثيلاتها، أتحدث كما أنا، على سجيتي؛ أشعر بالحرية.
عندما انتقلت إلى تشيلي، كان معظم أصدقائي يتحدثون الإسبانية بطلاقة. رغم أني كنت أتقدم بسرعة في تعلمها، كنت دومًا أشعر بالوعي الذاتي (self-conscious)، كنت أشعر كما لو أن الناس لا يرونني شخصًا حقيقيًّا (أو على حقيقتي). في بعض الأحيان، كان الإحباط يأكلني. وأريد أن أصرخ، “أنا لست خجولة أو غبيَّة، أنا فقط لا أعرف الكلمة!” ومع ذلك، هذا كله جزء من تجربة تعلم أية لغة.
التكلم بلسان أجنبي يبطئني. في حين أنه من المزعج استيعاب نكتة بعد فترة طويلة من سماع “جملة النكتة” (punchline)، فإن الوتيرة البطيئة تشجعني على أن أكون أكثر انتباهًا. قد “أبربر” في اللغة الإنجليزية، لكن في لغة أخرى ألاحظ لغة الجسد والأشخاص الآخرين الموجودين (في الغرفة).
أنا “أتكلم” بشكل أفضل في اللغة الإنجليزية، لكني “أستمع” بشكل أفضل في لغة أجنبية. بالنسبة لي، فإن تعلم اللغة لا يتعلق بحفظ [مفردات] المعجم، إنه طريقة لبناء الثقة بالنفس والوعي الذاتي والمجتمع.
أنا أقيم حاليًّا في المملكة المتحدة، لكنني سأنتقل قريبًا إلى أوروغواي الناطقة بالإسبانية. أنا سعيدة، لأن هناك دائمًا جزء مني يشعر بالسعادة والوفاء والشجاعة عندما أتحدث بلغة أجنبية.
لا أشعر بأي ندم لتركي وظيفتي في البرلمان الأوروبي. بل لقد دفعني حقًا نحو حبي للغة. وأنا أحزم حقائبي من أجل انتقالي العاشر إلى بلد آخر، أشعر أن “المغامرة” ستستمر.
*نينا هوبسون (Nina Hobson)[3]
____
الهوامش
[1] المصدر: https://www.psychologytoday.com/gb/articles/202107/love-letter-language
[2] الفلمنكية (Flemish)، وتسمى الفلمنكية الهولندية أو البلجيكية الهولندية أو الهولندية الجنوبية، وهي نوع من لهجات اللغة الهولندية التي تستخدم في فلاندرز (Flanders)، في الجزء الشمالي من بلجيكا، فضلًا عن فلاندرز الفرنسية وفلاندرز الزيلندية الهولندية التي يستخدمها نحو 6.5 مليون شخص.
[3] نينا هوبسون هي مُؤسِّسَة The Expater، مدونة (blog) حول أسلوب حياة النساء اللاتي يعشن في الخارج.