تلقيت قبل عدة سنوات دعوة من قبل جمعية الفلك للخروج في أمسية لاستطلاع كوكب الزهرة، فقلت في نفسي أنها فرصة آخذ فيها أولاد العائلة معي للإطلاع على مجال علوم الفلك. فهو مجال قد يتمكن من دغدغة فكرهم الصغير، وقد تنمي الرحلة فيهم ولعا بالإنخراط لسبر أغواره. وكان الأمر، واصطحبت معي أبناء إخوتي وأخواتي الصغار، وانطلقنا في الرحلة الليلية.
في الطريق جاءتنا أخبار بوجود عوالق غبارية قد تقلل من قدرة أجهزتنا على رصد الكوكب بشكل واضح. ولكنا واقعا لم نخرج لإعداد تقرير مفصل لوكالات الفضاء الأمريكية ولا الروسية، فمشاريع سبوتنيك وأبولو قد أنجزوا، وما نحن سوى متفرجين.
في الموقع، بدأ الإخوة في جمعية الفلك بتثبيت الأجهزة ولاحظوا صعوبة الرصد عبر عوالق الغبار، وقد أخذت مهمة التجهيز وقتا طويلا، حتى سادت بيننا حالة من التململ وعدم الإرتياح. ولكني وفي خضم هذه الحالة لاحظت أن أنظار المتجمهرين كانت مشغولة في جهة بعيدة عن أجهزة الرصد… كانت العيون محدقة في الجهة التي تجمع فيها الأولاد الذين اصطحبتهم معي.
كحال كل من كان موجودا في الموقع تلك الليلة، فقد لاحظ الأولاد أيضا أن عملية الرصد تواجه صعوبات وأن الكل في ترقب. ولكنهم وبالمرونة الطبيعية التي عادة ما تميز الأولاد في هذا السن، فقد وجدوا ما ينشغلون به في مواضيع لا تنتهي عن الألعاب الإلكترونية والموبايلات والسيارات والمدرسة والأساتذة والواجبات وكل ما يشغل بال أطفال في عمرهم. نعم هذا طبيعي جدا، ولكن ما هو ليس طبيعيا أنهم كانوا يتحدثون في كل ذلك… بالإنجليزية!! وهو ما جعلهم محل الرصد تلك الليلة. وحقيقة فقد حاولت ارتداء ابتسامة عللها تخرجني من دائرة الحرج الذي كنت فيه، ولكنها كانت فضفاضة ولم تسعفني لا من الحرج، ولا من لواحظ اللوم التي بدأت تتوجه إلي بعد ما تنبه الجميع أن هؤلاء الأولاد … تبعي.
قد يتبادر لذهن من يقرأني الآن بأني أضخم المشهد، وخصوصا أولئك الذين قرأوا في كتاباتي اعتنائي باستخدام المصطلحات الإنجليزية، بل ومن سمعوني أتحدث عن عبثية محاولات تعريب هذه المصطلحات. أتكلم جادا، هي عبثية، ولكن هذا نقاش ليوم آخر. أما حديثي هنا فمنطلق من رؤية اعتنقتها خلال قراءاتي التي ساقتني للخلوص لنتائج أهمها، وعلى الأقل في حديثنا هذا، هو وجوب الإعتناء بالحفاظ على لسان أولادنا العربي الذي يبقي لهم قدرا كافيا من التواصل مع إرث ثقافي مشرقي يصل في جذوره إلى زمن نشأة الحضارات الإنسانية الأولى.
ولمن يقرأني أيضا ويحار في حديثي واحتمال تناقضه، أقول إني لست ضد التحاق أولادنا في المدارس العالمية، بل قد أجده أمرا مرجحا في حالات كثيرة، لأن هذا النظام التعليمي أثبت نجاعة أعلى في تحضير الطلاب للدراسات العليا، حيث عادة ما يواجه طلاب المدارس الحكومية صعوبات في الإنخراط بسهولة في مناهج التعليم الجامعي وخصوصا منها العلمية والهندسية، وقد واجهت بعض هذه الصعوبات شخصيا ولو على سبيل المنهج وليس اللغة. والأمر يزداد تعقيدا لدى هؤلاء الطلاب في حال اضطروا للسفر والإلتحاق بجامعات الخارج.
الأمر أني أجد أن كثيرا من الآباء والأمهات يجدون من دواعي التندر، وأحيانا التباهي، أن يتكلموا عن ابنهم الذي يتحدث معهم بلكنة غربية، وأنهم يضطرون أحيانا لذكر معاني كلماتهم العربية بما يقابلها من الإنجليزية لكي تكون مفهومة لديهم. ولكن الأدهى، هو محاولة بعض الآباء التخاطب مع أبنائهم بالإنجليزية، وعلى أساس أن هذا المسعى سوف يكسبهم انجليزية أفضل. نعم هذا سوف يكسبهم انجليزية أفضل، ولكنه سوف يمحو العربية.
وقد شهدت مواقف عديدة لآباء يتخاطبون مع أبنائهم بالإنجليزية. شهدتها في المجمعات التجارية وفي الشارع وفي أماكن متفرقة. وكانت المشاهدات تتعلق بجنسيات مختلفة، فمنهم العربية والهندية، والفلبينية، والأوروبية، وغيرها. وقد شعرت بحالة من الإمتعاظ ذات مرة، حين تلعثم طفل ونطق كلمات غير إنجليزية، حتى انتهره والده بصوت عال وهو يقول له ، (IN ENGLISH) ، أي “تكلم بالإنجليزية”. ولكأن الطفل قد أخل بآداب الكلام. وامتعاظي هنا في الدرجة الأولى نابع من واقع الإجبار الذي لا أجده وسيلة تربوية صحيحة. ولكني أيضا، وكما أشرت سابقا، لا أحبذ أن نعتمد الإنجليزية لغة للتخاطب مع الأبناء.
ولكي أوضح، وهنا أرجو من القاريء التركيز فيما أقول لكيلا تلتبس الأفكار. فأنا قد أتفهم أن يلجأ الآباء من بعض الأمم الثقافية إلى اعتماد هذه الوسيلة. ولكن ليس كل الأمم، وعلى رأسها العربية. هل أقول ذلك انطلاقا من دوافع تفوق عرقي للعرب على غيرهم من الأمم؟ بالطبع لا، وكتاباتي دائما تشير إلى اعتقادي بأن البشر كلهم هجين واحد لا يختلفون إلا في عدد قليل من الألائل الجينية المقتصر تأثيرها على الملامح الخارجية. وفي هذا فسوف أعترض على الهندي اذا اعتمد هذه الوسيلة أيضا، وذلك لأنه سوف يمحو من لسان طفله الهندية التي أجد فيها محتوى ثقافي بالغ الثراء. فما هو إذا دافعي للإعتراض ابتداء؟ واسمحوا لي أن أحصر حديثي في العربية، لكي تكون مثالا موضحا للنقاش أولا، وثانيا، لأنها موضوع عنوان المقال.
للعربية شأن خاص قد لا توازيها ثقافة أخرى اليوم. وأستخدم مصطلح “ثقافة” لأسباب اعتبارية تتعلق بقناعتي الخاصة بأن العرب هو تجمع ثقافي محض مهما أصر البعض على اعتبارهم عرقا. وأنا أعي ما سوف يتسبب به كلامي علي من انتقادات لدى المهتمين بالأنساب والمشجرات القبلية. ولكني أتحدث هنا عن آرائي الخاصة التي لا ألزم بها الغير. فنحن نرقب اليوم في علوم الجينات وجود تحورات جينية في مكوننا المشرقي والجزيري تشير خرائطنا الجينية بنزوحها عن مناطق كنا ولا زلنا نعتبرها مواطن لشعوب آرية وهندوأوروبية، أي أنها انتقلت قبل عدد من آلاف السنين من سهول آسيا الوسطى والقوقاز ومن جبال زاغاروس. وهؤلاء يشكلون نسبة كبيرة في ديموغرافيتنا المجتمعية المحلية. هؤلاء إذا بعض من “نحن” إذا جاز التعبير. والأمر لا يتوقف على مناطق المنشأ هذه، فالتحورات تشير إلى تنوع في المجاميع الجينية التي نستطيع نسبتها إلى مواقع جغرافية أخرى متعددة. وهو أمر لا نحتاج التفصيل فيه الآن.
أصحاب هذه التحورات استوطنت الشام والجزيرة الفراتية وتجمعت في كتلة ديموغرافية وامتزجت هوياتهم وآيديولوجياتهم وشكلوا في منتصف عصر البرونز قبل حوالي أربعة آلاف عام ثقافة واضحة هي مزيج من ثقافاتهم الأصلية، وبتنا نصطلح على تسميتهم اليوم بالشعوب السامية. فالسامية، ومجددا حسب قراءتي، ماهي سوى ثقافة. هل وجدتم أني خضت بعيدا عن العربية التي ابتدأت بها رأس الفقرة السابقة؟ لا لم أبتعد، ولكني أحاول شرح المشهد المتشابك وباختصار شديد.
للعربية فعلا شأن خاص، وذلك ليس استنادا على خصوصية قدسية ولا اعتمادا على أخبار تفيد بأنها اللغة الأم مما تتحفنا به بعض الروايات. فالعربية، وكما يقول البعض، ونقول جميعا تحوي ثراء لغويا قد لا تتوفر عليه لغة أخرى اليوم. لماذا؟
لأنها وببساطة مفرطة، الوريثة الحصرية لجميع ثقافات الشرق الأدنى. فبعد قيام الإسلام واعتماد العربية لغة رسمية للدوواين، وبعد السيطرة الرسمية وخصوصا في القرون الإسلامية الثلاثة الأولى، تم اختزال جميع الثقافات القديمة التي بسطت السلطة سيطرتها عليها ضمن هذه اللغة الفتية التي أضيفت لها المعاني والمعارف والمفردات، فأصبحت السجل الشامل لثقافات المنطقة منذ بزوغ الإشعاع الحضاري قبل ستة آلاف سنة وحتى اليوم. وبعيدا عن القدسية وعن التمجيد، واعتمادا على المعطيات والخلفيات، فهذه اللغة اختزلت جميع ما سبقتها من ثقافات.
يكفي أن نقول بأن اللغة العربية وريثة للسريانية، وهذه الأخيرة ما هي إلا وجه الآرامية بعد التعميد المسيحي.
فماهي الآرامية؟
لعلنا نوجز حين نقول بأن الآرامية كانت مجموعة من الألسن التي لهجت بها بعض شعوب الشام والجزيرة الفراتية في منتصف عصر البرونز. ولكنها ومع قيام فارس الإخمينية في القرن السادس قبل الميلاد انتصبت في الدواوين واتخذت لغة رسمية للإمبراطورية التي امتدت في إوجها من حدود الصين وحتى مصر وتخوم اليونان، فكانت بمثابة الإنجليزية اليوم. وقد تآخت الآرامية مع اليونانية الكلاسيكية التي سطر بها فلاسفة اليونان معارفهم منذ ما قبل العصر الهيليني وحتى انتهاء الهلنستي، فتلبست بمفردات تضمنتها أطروحات فلاسفة ما قبل سقراط وما بعده. وهي التي نهلت من نمير معارف واديي النهرين والنيل، فاصطبغت ملامحها بتعابير العلم والمعارف الزراعية والعمارة وقوانين وتشريعات الدولة وإدارة شؤون العامة. وبارتباطها بالإخمينيين وفي حدود امبراطوريتهم الشرقية، فقد لامست ثقافات نمت على ضفاف واديي السند والنهر الأصفر، ونهلت من معارفها وروحانياتها، فأصبحت الوعاء الذي حوى خلاصة حضارات العالم القديم.
كما ورثت العربية أيضا ثقافات ممالك اليمن والقرن الإفريقي وكل الإرث السامي الجنوبي، فكيف لا يكون لهذه اللغة كل هذا الثراء اللغوي والتعبيري. إذا كيف نبرر لأنفسنا حرمان أولادنا من إمكانية التواصل مع هذا العمق الحضاري عبر ممارسات من شأنها إبعادهم عن لغتهم الأم.
واحدنا اليوم يستطيع، وبكل سهولة ويسر، أن يتصفح الكتب والمخطوطات التي كتبت طوال ألف وأربعمائة سنة. وهو لعمري أمر لا يتوفر لأي فرد ينتمي لأمة أخرى. فقد يوفق بريطاني من سكان لندن اليوم في فهم لغة شكسبير، ولكن ينبغي له أن يكون متخصصا في اللغة الإنجليزية المتوسطة لكي يتمكن من قراءة أدب توماس دي هيلز، وهو أديب انجليزي عاش في القرن الثالث عشر. أي قبل ثمانمائة عام فقط. إذا هي نعمة نحمد الله عليها، فلماذا نحرمها على أفذاذ أكبادنا؟
تصوروا معي أن يضطر إيرانيا أن يقرأ الشاه نامة وكل أدب فردوسي وسعدي من ترجماته الإنجليزية، فقط لأنه لم يعتني بتعلم الفارسية. فهل نضطر أبناءنا لقراءة ألف ليلة وليلة من تراجمها الإنجليزية. وماذا عن أدب طه حسين والعقاد وأنواع الفنون والأدب، وبما فيها الشعر الذي لا نزال نتغنى بقراءته نحن الآباء منذ زمن المعلقات، ومرورا بتجلياته في نقائض الفرزدق وجرير وحماسة أبي فراس والمتنبي، وليس انتهاء بشوقي والجواهري. أنجعل منهم طواعية غرباء عن كل هذا الإرث الحضاري؟
أخيرا، لست من حملة شعار محاربة التغريب ولا أنا مأخوذ بقصيدة “العربية” لشاعر النيل، وقد ذكرت آنفا أن لي رأي معارض لتعريب المصطلحات. ولكني وعلى أساس كل ما تقدم من شرح، أرى أن للعربية شأن عظيم لا ينبغي علينا كآباء أن نسهم في بناء حواجز تمنع أبناءنا من التواصل مع تاريخ ينتمون إليه، وينتمي إليهم، ومن أداة سوف تعينهم على بناء هوية متجددة وعابرة على الثقافات.
*باحث في علم الإنسان القديم ، له اهتمامات بدراسة الأحياء التطورية ومناخ الأرض القديم وتغير تشكيل القارات وحركات صفائح الأرض التكتونية والمتغيرات الكونية.