هل من المعقول أن يكون هذا الترتيب بين جيلين فصلت بينهما عقود من السنين أيسرها أن تصل إلى مدة خمسين سنة هي مجرد محض صدفة فقط؟
مؤخرا وعلى مدى عدة سنين غصًّ جزء كبير من شارع الملك عبدالعزيز بالقطيف بموكب حسيني امتد طوله بنحو أكثر من كيلومتر وبعرض لايقل عن ٢٥ مترا تكون من آلاف من الناس مبتدئا من الدوار المقابل لمنتزه قلعة القطيف مرورا بالقلعة وباب الشمال والمدارس والشريعة ومياس والكويكب ثم وصلت نهايته إلى الشويكه وقد عرف هذا الموكب بالموكب الموحد.
هذا الموكب رأيناه يتكرر في مناسبتين سنويا وهما ذكرى يوم الأربعين والآخر يوم وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، وفي التأهب لحضوره يفد من أجله أهالي منطقة محافظة القطيف من كل حدب وصوب، من جميع أنحائها: من سيهات والقطيف وصفوى ومن جميع قراها وكذلك من الدمام ومن بعض المناطق المجاورة. واستمر هذا الموكب حتى عام ١٤٤٠هج. ثم بعد ذلك تكالب وباء كورونا مع بعض الظروف على تعطيل هذا الموكب.
السؤال هنا هل هذا الموكب هو وليد هذه السنين الحديثة فقط أم سبقته مواكب أخرى غيره ومشابهة له وفي نفس مكانه؟
وإن كان الجواب بنعم فهل كان حدوثهما مجرد صدفة أو تخاطر أم أن هناك من عزم على إعادة إحياء ذلك الموكب السابق بتنسيق من قبل العارفين ممن اطلعوا على أخبار الأجيال الماضيه أو عرفوه من كبار السن الذين شهدوا تلك المواكب بعد أن ثأثروا بها وحنوا لرؤيتها فأصروا على إحيائها من جديد؟
خلال القرن العشرين الماضي قام كل من المنبر الحسيني والخطابه بعدة مراحل تطويريه أهمها ثلاث مراحل بارزة كان التطور فيها جذريا ملموسا. كان أول هذا التطور هو بداية شق هذه الخطابة طريقها الحديث نحو تعديل هيئة الخطابة وادخال الإرتجال في الخطابه وتقسيمها وتنظيمها وكذلك تغيير صورها البسيطه وقد بدأ ذلك قبيل خمسينات أو منتصف قرن العشرين الماضي، وأما المرحلة التي تلتها فقد تم فيها ادخال تنوع عروض المواضيع واختلافاتها وقد شملت كافة الإحتياجات الثقافيه للحياة الإجتماعيه والعلميه كما وقد تم تطوير المستوى العلمي عند الخطباء خلال تلك الفترة وكثرة الإنخراطات في سلك التعلم الحوزوي والخطابي وجرى بذلك التطور السريع ولعل أحد أسباب ذلك هو استقطاب بعض من المسؤولين عن المآتم الحسينيه الكثير من الخطباء من خارج منطقة القطيف الذي خلق روح التنافس من أجل الوصول للأفضل.
لقد بدأ مشوار هذه المرحلة بعد منتصف ستينات قرن العشرين الماضي. وأما المرحلة الثالثة فهي المرحلة المتقدمة التي نحن عليها الآن وربما كان دورها قد بدأ في تسعينات قرن العشرين الماضي والذي وصل أوجه في بداية القرن الواحد والعشرين الحالي حيث اسهم كل من التعليم الأكاديمي ووسائل التواصل الإجتماعيه بدورهما في ذلك التطوير وخصوصا من حيث تبادل وتوفير المعلومات وتوصيلها بشكل عولمي.
أربعة أقطاب من خطباء المنبر الحسيني في المرحلة الأولى أخذوا على عواتقهم ريادة تطوير المنبر الحسيني في المرحلة الأولى المشار إليها (قبيل خمسينات قرن العشرين الماضي) وهذه المرحلة هي ذات الصلة بموضوعنا هذا وهو موكب يوم الأربعين والمعروف بيوم ردود الراس. من ابرز هؤلاء الرواد المجددون في تلك الحقبه هم الشيخ منصور المرهون والملا حسن الجامد والشيخ ميرزا حسين البريكي وكذلك الشيخ محمد بن ناصر النمر رحمهم الله أجمعين.
فكما ينقل الكثيرون ومن ضمن هؤلاء يؤكد الحاج مجيد بن ملا حسن الجامد بأن اغلب الخطباء كانت خطاباتهم غير مرتجله بل كان الأغلب يقرأ من الكتب تماما كما تفعل النساء الى عهد قريب وحتى أيامنا هذه حين تقرأ من الكتب المعروفة بالمجاميع، كما وقد كان الطرح محدودا ومحصورا في المراثي وسرد احداث الوقائع ثم المصرع في الأخير إلى أن نهض هؤلاء الرواد المجددون الأربعة بإحداث نقلة كبيرة في تفاصيل الخطابة وأساليبها كان لها الأثر الكبير الذي أمتد إلى أيامنا هذه وكذلك في صياغة وكتابة بعض المراثي الحسينية سواء بالفصحى أم بالعامية التي هي أكثر انتشارا و أقرب إلى قلوب المستمعين في هذا المجال وفي تلك الأيام.
كان ضمن تلك التجديدات هو أن أنشأ الشيخ منصور المرهون -طيب الله ثراه- موكبا حسينيا ضخما يخرج في مناسبتين: احداهن مناسبة يوم الأربعين (ردود الراس) والثانية هي مناسبة يوم وفاة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله. وكانت نقطة الإنطلاق من حسينيات حي الكويكب مارا بشارع الملك عبدالعزيز الذي كان في تلك الأيام وتحديدا في منطقة حي الكويكب عباره عن ممر ضيق ثم تتصل نهاية هذا الممر الشماليه بسوق السكة والتي تعرف أيضا بالقيصرية وهي عباره عن صفين متقابلين من الدكاكين يفصل بينهما طريق لايتجاوز عرضه الأربعة أمتار، وتمتد سوق السكة هذه من بعد ممر حي الكويكب جنوبا أي عند اشارة المرور الضوئية التي يتقاطع عندها شارع بدر مع شارع الملك عبدالعزيز المتجة شمالا إلى الإشارة التي تليها ويتقاطع فيها شارع الخليفة عمر مع شارع الملك عبدالعزيز نفسه مقابل مجسم السفينه (اللنجه)، ويتخلل هذه السكة عدة منافذ ضيقة تقودنا شرقا الى سوق الجبلة وحي الشريعه وغربا الى حي مياس والسبخه والمدارس، فيمر هذا الموكب في يوم الأربعين والمعروف بيوم (ردود الراس) بقيادة الشيخ منصور رحمه الله منطلقا من حي الكويكب مخترقا وسط سوق السكة المغلقة جميع دكاكينها في ذلك اليوم إلى حي القلعة وهو يزداد نموا كلما مر على تلك الممرات حيث يتدفق الوافدون من الناس للإنضمام لذلك الموكب من كل حي ومن كل قرية ومدينه.
لقد أعد -طيب الله ثراه- لهما ارجوزتين لازال صداهما يصدح في أرجاء القطيف بل ويتعداها الى مناطق أخرى كالبحرين والاحساء، ففي يوم الأربعين يتصدر بنفسه لقيادة الموكب وهو يرتجز تلك الأرجوزة التي ألفها خصوصا لهذه المناسبة والناس يمشون مشيتهم المعتاده وبنفس ملابسهم وهم يلطمون على الصدر لطما خفيفا ويرددون بعده بصوت شجي حزين ذلك البيت الأول فقط من الأرجوزة:
زينب من الشام اليوم جت كربلا
والراس عند السجاد في محمله
وأما هو فيسترسل في سرد بقية الأرجوزة:
زينب من الشام اليوم جت كربلا
والراس عند السجاد في محمله
صاحت يحادي مروا بالغاضرية
إحسينا فارقناه جسمه رميه
او عباس اخويه مذبوح وأهل الحمية
ما أدري اندفنوا لو ابحرّ الفلا
اولاحت ابيوت النزال في كربلا
نادت ابسأل يا ناس عن مسألة
لحسين اخويه مذبوح من غسله
اجنازته اندفنت لو امعطله
جاوبوا عاري او لرمال فوقه سفن
ابلا غسل وابلا اكفان جسمه اندفن
في باريه لفيناه ابدال الكفن
امقطعه كل اعضاه وامفصله
قالت دقوموا يا ناس راووني قبره
قام العليل السجاد لله صبره
او كل الحرم والأيتام صارن ابحسره
او صارت صوايح وانياح في كربلا
قالت يخويه جيناك وانت الولي
كلنا حريم اوأيتام وابنك علي
والراس جبته وياي في محملي
جسمك الغالي يحسين من غسله
ثم أن جميع من هم في الموكب يكررون نفس البيت الأول (زينب من الشام اليوم جت كربلا…) وذلك في نهاية كل مقطع حتى يصلون نهاية المطاف إلى القلعه وهناك بعد انتهاء الوقت (يكسرون العزاء) أي يوقفونه، ثم أنهم يعد ذلك يتفرقون، وكما يقال (عزى المعزي وراح بيته).
وهكذا يتكرر هذا المشهد بعد مرور عدة أيام من نفس الشهر: فالموكب نفسه ونفس قائد مسيرته وذلك عندما تحل ذكرى وفاة نبي الأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، غير أن الأرجوزة بلا شك مختلفة فهي في مناسبة مختلفة وفي نفس الطريق ومن نفس نقطة الإنطلاق يسير الموكب وبنفس الصوت الشجي الحزين يردد الجميع:
اليوم نبينا المصطفى مات
وبموته اتزلزل الكون
ثم استمر رحمه الله في قيادة ذلك الموكب حتى يوم وفاته رحمه الله في ١٣٦٢/٦/٣٠هجرية.
ولكن هذا الموكب لم يتوقف بوفاته بل استمر بعده بقيادة نجله الشيخ علي رحمه الله بعد حمل لواء تلك المسيرتين ليعبر نفس الطريق ويقود نفس الموكب ويرتجز نفس قصيدة والده ولعله أضاف تخميسات على تلك القصيده واستمر هذا الموكب يمر من خلال نفس الطريق حتى جاءت أيام فتح شارع الملك بعد توسعة الممر الضيق وتحويله إلى شارع وذلك بعد إزالة تلك المنازل المجاورة له وكذلك بعد إزالة سوق السكة عام ١٣٨٢ هجريه/١٩٦٢م.
بعد مرور أكثر من خمسين عاما نلاحظ أن التاريخ قد عاد نفسه أي أن موكب الأربعين فجأة قد ظهر من جديد لنفس المناسبتين وبمسمى “الموكب الموحد” يقوده جيل جديد من الناس ولعلهم اضافوا لأراجيزهم المطروحة أرجوزة الشيخ منصور نفسها: (زينب من الشام اليوم جت كربلا.. والراس عند السجاد في محمله). نعم إنهم يمرون في نفس الطريق الذي سلكه موكب مشابه له قبل أكثر من خمسين عاما، رأيناه هذه المرة ينطلق بإسم “الموكب الموحد” قبل سنتين وثلاث وأربع.
توثيق جميل .
دام عطاؤك أبا محمدا بإبراز تاريخ وثقافة البلاد بطريقة سلسة مشوقة.
للتصحيح الموكب الموحد يخرج في يوم العاشر و وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وليس الاربعين
احسنت.. فيوم وفاة النبي والاربعين والعاشر هي نقاط لقاء والطريق نفسه نقطة لقاء والفكرة نقطة لقاء الموكب نفسه نقطة لقاء ايضا بين الجيلين
اضيف الى كلام المؤرخ ابو محمد على توثيقه الجميل ان كان في موكب موحد لجنوب القطيف في الستينات بعد قص الشارع العام وفي سوق الجبلة يكسر بقيادة الوجيه المغفور له خادم اهل البيت عليهم السلام الحاج سعيد بن عبد الحسين المقابي من الدبابية ويطلعو باالاعلام من ضمن المواكب المشاركة موكب الدبابية وموكب الشويكة وموكب الكويكب وموكب الشريعة وكل موكب مفصول عن الاخر بحبل في محرم
هذا صحيح فهناك موكب الزنجيل او الصنقل بقيادة علي القفشات للكويكب وأخوه لقيادة الشريعه وكذلك الدبيبيه دائما مايكون فيه اتحاد بين الثلاث مناطق يلتقوا في الجبله وعادة في العزاء الصباحي ويكون الغذاء في الجبله واحيانا عصرا تلتقي ثلاثة مواكب واكثر.. انما موكب ردود الراس ووفاة النبي فهي تقطع سوق السكه الى القلعه
مشاركة جداً قيمة، جزيت خيرا
احسنت تقرير رائع وجميل
نحن نحتاج الى كتابة تأريخ القطيف بصيغة ادق كما اشرت استاذنا العزيز في مقالك الجميل وقبل ان يكتب عن تأريخنا الاجنبي فيغفل ما يريد اغفاله بطريقته….
عاش قلمك نبضا دفاقا….
تاريخ مضيء ومشرف للقطيف في مواساة الرسول وأهل بيته عليهم السلام يذكر ويحفظ للأجيال للقادمة شكرا على الطرح أبو محمد وفي ميزان حسناتك.
تصحيح: الأرجوزة التي كان يرددها المعزين في يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله كما أتذكرها منذ أكثر من 70 عاماً كانت كما يلي:
اليوم نبينا المصطفى مات
لاجله تزلزل الكون
الجن والإنس تسكب العبرات
والأملاك يبكون
القطيف تاريخ حافل بماضيها وحاضرها شكراً لك إبن الخال أبا محمد على ما تجود به من إعلاء وإبراز تاريخ القطيف وما جاورها