من أهم أهداف التواصل اللغوي، سواء بين الأفراد المحليين أو عبر الثقافات البعيدة، هو خلق معنًى مشترك لتفاهم متبادل لتحقيق مصالح مشتركة. هذا التواصل البشري هو (عملية) تفاعل دائري، حيث يقوم المرسل (sender / initiatior) بتكوين رسالة (message) باستخدام كلمات أو رموز أو لغة غير لفظية،
عبر قناة إرسال (medium) لنقل الرسالة إلى مستقبل (receiver) شخصًا أو جهاز استقبال. يمكن تحقيق ذلك من خلال التفاعلات وجهاً لوجه أو البريد الإلكتروني أو الرسائل النصية أو المكالمات الهاتفية أو غير ذلك من أشكال الإرسال. عند استلام الرسالة، يقوم المتلقي بفك “تشفيرها”، وتأويل معناها (أو معانيها) ويتصرف بناءً على هذا التأويل أو الفهم.
تبدو هذه العملية بسيطة، لكنها عرضة لمصادر متعددة من الأخطاء، والتي قد تخلق مشاكل، أقلها سوء الفهم والخلاف. الأخطاء الشائعة كثيرة لكنها قد تنحصر في أمور لغوية وأمور غير لغوية. الأمور اللغوية تنحصر في الاختلاف الثقافي، واللغة هي مُكَوَّن في ثقافة المجمتع وأهم وسائل التعبير عنها في ذات الوقت. وأمَّا الأسباب غير اللغوية، على افتراض أننا استطعنا “تحيِّد اللغة” ولو مؤقتًا من أجل الجدال فقط، فهي تُختصر في ثلاثة أسباب، أو تحيزات (biases): “الأنانية” (Egocentrism)، و “الثقة الزائدة” (Overconfidence)، و “التقارب والتواصل” (Closeness-Communication)، وهي تحيزات “لاواعية” (unconscious) غالبًا ما تعترض طريق التواصل الفعال بين الأفراد والجماعات (الثقافات).
إن “المركزية الأنانية” (أو الأنانية المتمركزة) تؤدي إلى عدم القدرة على رؤية وجهة نظر الآخرين، ويقود هذا إلى أن يصبح الشخص أكثر ثقة (overconfident) في أحكامه عند محاولة فهمه لمعنى الرسالة، ويمكن أن يؤثر على كل من المرسل والمتلقي. أمَّا “تحيز التقارب والتواصل” (Closeness-Communication Bias)، فهو ظاهرة يعتقد فيها الأكثرية من الناس أنهم أكثر قدرة على التواصل بشكل فعال مع القريبين جدًا، على سبيل المثال: الأزواج والأصدقاء، من الغرباء. هذا ما أكدته دراسة أجريت عام 2010م في جامعة كاليفورنيا-لوس أنجيليس (اختصارًا UCLA): حيث أن “الأشخاص ينخرطون في مراقبة دقيقة لوجهات نظر الغرباء المتباينة، لكنهم يتخلون عن حذرهم ويعتمدون أكثر على منظورهم الخاص عندما يتواصلون مع (شخص) قريب”.
إن “النزعة الأنانية”، و”الثقة الزائدة”، و”نحيز التقارب والتواصل” هي أخطاء شائعة في فشل التواصل اللغوي حيث يميل المتواصلون إلى تفسير المعلومات والحكم عليها وإدراكها من منظور أناني، أي أنهم يفهمون/يأوِّلون “المعنى” في الرسالة باستخدام تصورهم عن ذواتهم، والاحتياجات، والقيم، والتوقعات، والأهداف، والمعايير الثقافية والشخصية.
قد يقضي رجال الأعمال وموظفوهم، على سبيل المثال، قدرًا كبيرًا من حياتهم في المشاركة في التواصل مع أقرانهم من ثقافات مختلفة، غير مدركين لتحيزاتهم في التواصل ودون أن يأخذوا الوقت الكافي للنظر في الثقافة غير المرئية أو المحسوسة للأشخاص الآخرين، بما في ذلك لغتهم وعاداتهم ومعتقداتهم وقيمهم وأعرافهم التي تم تناقلها من جيل إلى آخر.
ليس فقط من في دوائر الأعمال والتجارة المنخرطون في التواصل بين الثقافات هم من يجب أن يكونوا على دراية بالتحيزات في التواصل، بل يجب على كل الأفراد الذين يتواصلون عبر الثقافات أيضًا مراعاة هذه التحيزات في التواصل، حتى في حالة “الثقافات المتقاربة”، كما في حالة ميغان ماركل الأمريكية، التي أصبحت دوقة سسكس (في بريطانيا) بعد زواجها من الأمير هاري. لقد عزا بعض المحللين في الإعلام الصعوبات التي واجهتها ميغان منذ زواجها عام 2018 للاندماج في “الحياة الملكية”، إلى أن النزعة الأنانية والتحيز في التواصل عن قرب أثَّرَت على كيفية صياغة أصدقائها وزوجها لرسائلهم لها، ومن المحتمل أن يكون تحيزها هو الذي أثر في كيفية فك تشفير تلك الرسائل.
ربما تبدو الاتصالات بين الثقافتين (الأمريكية والبريطانية) واضحة للمتراسلين، ولكن لكون ميغن “أمريكية”، كان من الممكن أن تلعب “ثقافة الدوقة” غير الملموسة وقيمها ومعتقداتها ولغتها ومعاييرها دورًا مهمًا في كيفية فك تشفير هذه الرسائل. ومع ذلك، فمن الأرجح أن الدوقة قامت بفك تشفير الرسائل بناءًا على حدود إطارها المرجعي الثقافي (الأمريكي).
فعليه، من أجل تواصل فعال مع الآخرين مهما كانت درجة معرفتنا بهم وقربهم لنا، يجب أن نتعلم التعرف على تحيزاتنا واعتماد طرق مرنة للاستماع والمراقبة والتحدث حسب ما يفرضه الموقف الآني. السطور القادمة تستعرض “الاستماع” كأهم الاستراتيجيات لتحقيق هذا الغرض.
أثناء البحث في كتابها الأخير، “أنت لا تستمع: ماذا تفتقد ولماذا يهم” (You’re Not Listening: What You’re Missing and What Matters)، لاحظت الصحفية كيت مورفي (Kate Murphy) أمرًا مفاجئًا ومخالفًا للمتوقع: نحن نميل إلى الاستماع بعناية أقل إلى الأشخاص الأقرب إلينا لأننا نعتقد أننا نعرف بالفعل ماذا سيقولون.
ولدراسة “تحيز الاتصالات المتقاربة” (closeness-communications bias)، الذي ذكرناه آنفًا، صمم باحثو من جامعة شيكاغو (University of Chicago)، في مدينة شيكاغو في ولاية ألينوي في أمريكا، وكلية ويليامز (Williams College)، في مدينة ويليامز تاون في ولاية ماسشوسيتش في أمريكا)، تجربة تشبه لعبة صالة الاستقبال. جلس زوجان في دائرة متواجهين بعيدًا عن بعضهما البعض وتناوبوا على قراءة عبارات يومية غامضة ، مثل، “ما الذي كنت تنوي فعله؟”
عندما يُسأل المستمعون عما كان المتحدث يحاول قوله، قد يخمنون ما إذا كانت العبارة تعبر عن الاهتمام برفاهية شخص ما، أو الانزعاج من وصول الشخص المتأخر، أو الشك في خيانة العلاقة والارتباط.
على الرغم من اعتقاد الزوجين أنهما سيجتازان هذا الاختبار بسهولة، وجد الباحثون أن فهم الأزواج بعضهم البعض ليس أفضل من الغرباء، بل أحيانًا أسوأ. حدثت نتائج مماثلة عندما تم تكرار التجربة مع الأصدقاء. يقول المشرف على الدراسة، الدكتور كينيث سافيتسكي (Kenneth Savitsky)، أستاذ علم النفس في كلية ويليامز: “إن بعض الأشخاص الذين تربطهم علاقات وثيقة قد يكونون بالفعل على نفس “المسافة” (wavelength)، ولكن ليس بقدر ما قد يظنون”. ويضيف: “يسستعجلون وينشغلون ويتوقفون عن أخذ منظور الأشخاص الآخرين، فقط لأنهم قريبون جدًا[1].
هذا الوضع يشبه حالة الطريق اليومي الذي اعتدنا السير فيه، حيث معرفة معالمه نتيجة هذا الاعتياد يمكن أن يولد عندنا عدم الانتباه لها. ولكن على عكس الطريق، فإن الناس في حياتنا يتغيرون باستمرار، بمعنى أننا إذا اعتمدنا على الماضي لفهم شخص ما في الحاضر، فقد نغفل عن الشخص الآني (أي الذي أصبح مؤخرًا). فعندما يصبح المسار مألوفًا، لا نهتم بعد ذلك لأسماء الشوارع أو المناظر الطبيعية أو التفاصيل الأخرى، ومثل هذا يحدث في علاقاتنا مع الناس الذين نعتادهم، خاصة الأزواج والأصدقاء[2].
تصر الباحثة كيت مورفي أن السبب الرئيس في فشل أو تأزم تواصلنا ليس هو غياب الكلام الواضح في حواراتنا، بل أيضًا، غياب الاستماع الفاعل في الحديث، وهو الأهم، وتقدم الحل السحري البسيط المهمل: “كن مستمعًا أفضل” (be a better listener)، ولصقل “مهاراة الاستماع” (Listenning Skill)، هناك بعض النصائح المهمة التي يمكن اتباعها[3]:
⁃ ضبط التشويش
في الإرسال والاستقبال، كما في استقبال المذياع أو التلفون، وغيرهما، يحدث تشويش، وهو عبارة عن تداخلات غير منتظمة، تؤثر على وضوح الصوت. وفي اللغة الإنجليزية توجد كلمة (tuning) وتعني ضبط الصوت المحاط بمشوشات بهدف الحصول على أفضل درجة للسمع الواضح. وفي محادثة الأفراد مع بعضهم البعض قد تحدث حركات ووشوشات تحول دون تتبعهم لما يقال. و”التركيز على أفكارنا الخاصة”، هو أحد المشوشات. لذا، بدلًا من الانشغال بآرائك وبما تود أن تقول، حاول أن تلتقط “النصوص الفرعية” لما يقوله شخصٌ ما ولاحظ التفاصيل غير اللفظية، من إيماءات وحركات ونبرات الصوت، وغير ذلك.
⁃ الأسئلة مهمة
الأسئلة مفاتيح الحديث، فهي تجر الكلام في محاولة الإجابة عنها، ولكن لها مهمة تواصلية أخرى أيضًا. كن مشاركًا فضوليًّا من خلال طرح أسئلة على من تعرفهم جيدًا، ثم الاستماع بعناية، لتثبت لهم أنهم في اهتمامك أثناء وجودهم معك.
⁃ لا تتسرع في الرد
اسأل واسمع وانتظر، ولكن لا بأس أن تقول عبارات تعاطفية في الأثناء، على سبيل المثال، “لا أعرف ماذا أقول”، بهذا أنت تشير إلى أنك تحترم ما قاله الشخص الآخر من خلال تخصيص وقت للتفكير فيه والتفاعل معه.
⁃ الاستماع عملية تبادلية
تعلم كيف تَوَصَّل الأشخاص الآخرون إلى استنتاجاتهم وآرائهم مشيرًا إلى أنك تحترمها، وهذا بدوره قد يشجع الآخرين على الاستماع إليك أيضًا.
⁃ في كل عملية تواصل دروس
استمع لتتعلم، وتكلم لتُعلم، فعندما تنتهي المحادثة بنجاح (أو سلام)[4]، اسأل نفسك، ما الذي تعلمته عن هذا الشخص؟ كيف شعر هذا الشخص حيال ما كنا نتحدث عنه؟
هذه الأمور البسيطة التي تؤدي إلى “استماع” فاعل، ممكن تعمل أيضًا على تحييد الانحيازات اللاواعية عند أطراف التواصل مما يساعد على نجاحه بفاعلية وارتياح.
___
الهوامش
في العدد المطبوع من مجلة خبرة الحياة” (Experience Life)، عدد يوليو-أغسطس 2020م. (انظر أيضًا هامش 3).
[2] أكدت هذا دراسة في جامعة لوس أنجيليس في كالفورنيا (أمريكا). اُنظر الرابط التالي:
[3] انظر: “5 نصائح لتصبح مستمعًا أفضل”، بقلم مولي تينيالا، موقع تجربة الحياة 10 يوليو 2020م، على الرابط:
[4] هناك أمور “سلوكية” تُفشل المحادثة (التواصل) يستعرضها المقال القادم إن شاء الله.