جادل الفلاسفة والمفكرون والروائيُّون “مفهوم الحياة الهانئة”. وفي مجال علم النفس، رَجُحت كفة مفهومين رئيسيين للحياة الهانئة، وهما: الحياة السعيدة (التي يُشار إليها عادةً باسم “الرفاهية اللذائذية”) المليئة بالاستقرار، والمتعة، والبهجة، والمشاعر الطيبة، والحياة ذات المغزى (التي يُشار إليها عادةً باسم “الرفاهية الروحية”) المليئة بالحس بالغاية، والمعنى، والفضيلة، والإخلاص، والواجب، والتضحية. لكن السؤال هو هل هذه هي الخيارات الوحيدة؟”
لقد صور علم النفس الحياة الجيدة من حيث المتعة أو السعادة، في حين أنه لا يجب بالضرورة أن تكون الحياة الجيدة سعيدة. ولكن، ما الذي يجعل الحياة “جيدة”؟ وكيف نقيسها؟ هذه أسئلة قديمة قدم الإنسانية نفسها – مع العديد من الإجابات المحتملة – لكن دراسة جديدة تركز على العيش بطريقة “غنيَّة نفسيًّا” (psychologically rich)[1][2]. يتم تحديد هذا الثراء من خلال التجارب الخارجة عن المألوف والمتنوعة والمعقدة، وربما الأهم من ذلك أنها تسبب تحولًا في منظور الشخص الذي يمر بها، وفقًا لعلماء النفس الاجتماعي، شيجي أوشي (Shige Oishi) من جامعة فيرجينيا، وإيرين ويستجيت (Erin Westgagt) من جامعة فلوريدا، الذين وجدا في دراسة حديثة تعتبر الحياة الثرية من الناحية النفسية، لبعض الناس، أكثر أهمية من السعادة أو إيجاد معنى للمعنى – وهما المجالان الرئيسان اللذان يميل البحث النفسي الحالي إلى الاهتمام بهما عندما يتعلق الأمر بتقييم الحياة “الجيدة”[3].
{“الحياة الثرية من الناحية النفسية، أكثر أهمية من السعادة“}
يقول الباحثان في بحثهم المنشور: “على عكس الحياة السعيدة وذات المغزى، تتميز الحياة الثرية من الناحية النفسية بمجموعة متنوعة من التجارب المثيرة للاهتمام والتي تغير المنظور”. ويؤكدان: “نحن نقدم دليلًا تجريبيًّا على أن السعادة والمعنى والثراء النفسي هي جوانب مترابطة ولكنها متميزة ومرغوبة من الحياة الجيدة، مع وجود أسباب وارتباطات فريدة.”[4] لا يقول الباحثان أن الثراء النفسي (Psychological Richness) يعمل بشكل مستقل تمامًا عن السعادة أو المغزى، لكنه جزء من رفاهيتنا الذي يحتاج إلى مزيد من الاهتمام. ينطوي التمتع بحياة سعيدة على أهداف مثل المشاعر الإيجابية والرضا العام، بينما يرتبط إيجاد المعنى في الحياة بإدراك إمكاناتنا وتعظيم مواهبنا والوصول إلى الأهداف وإحداث فرق.
في ثلاثة استطلاعات شملت 1336 طالبًا جامعيًا، وجد “أوشي” ومع “ويستغيت” أنه يمكن فصل الثراء النفسي عن السعادة والمعنى عندما يتعلق الأمر بالأشخاص الذين يقيِّمون حياتهم ورفاههم، حيث “مفهومنا للثراء، على عكس السعادة، يتيح لحظات من الانزعاج والعاطفة غير السارة”.[5]
قام الباحثان بتحليل لدراسات السابقة حول الثراء النفسي، واللغة المستخدمة في النعيّ والرثاء، والاستطلاعات السابقة التي أجريت عبر بلدان مختلفة، وتوصلا إلى أنها كلها تدعم أهمية هذا النوع الثالث من التمتع بحياة جيدة، وأنه يتجاوز المجتمعات الغنية والمتعلمة والديمقراطية.
أمّا من حيث اختيار الأشخاص لحياة غنية نفسيَّا فوق حياة سعيدة أو ذات مغزى، فكان هذا التمييز أكثر شيوعًا في ألمانيا (16.8٪ من المشاركين) والهند (16.1٪) وكوريا (15.8٪) واليابان (15.5٪) ، وفقًا لـ دراسة سابقة شارك فيها 3728 شخصًا في تسع دول.
{“الحياة الثرية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالحياة السعيدة والحياة الهادفة“}
ويبين الباحثان أوشي وويستغيت: ” أن عددًا غير ضئيل من الأشخاص حول العالم أفادوا بأنهم سيختارون حياة غنية نفسيًا على حساب حياة سعيدة أو ذات مغزى، وأن ما يقرب من ثلثهم يقولون: أن التخلص من أكبر ندم في حياتهم كان سيجعل حياتهم أكثر ثراءً من الناحية النفسية”. علاوة على ذلك، تشير الدراسة إلى أن الآملين بحياة غنية نفسيًّا يختلفون عن أولئك الذين يعيشون حياة سعيدة أو حياة ذات مغزى، وأن الأدلة تشير إلى أن الأشخاص الذين يعيشون حياة غنية نفسيًّا يميلون إلى أن يكونوا أكثر فضولًا، ويفكرون بشكل أكثر شمولية، وأكثر ليبرالية، خاصة في الناحية السياسية.
يلاحظ الباحثان أن الانتقال إلى الخارج، أو تغيير المهن، أو الانغماس في تحدي فني (على غرار ما جاء في رواية “عوليس” (يوليسس Ulysses) لجيمس جويس (James Joyce)[6] هي ثلاثة أمثلة على نوع الثراء النفسي الذي يبحث عنه الناس.
ومن الغريب أنهما لاحظا أن البحث حول هذا الموضوع “يشير إلى أن الحياة الجيدة قد لا تكون ممتعة دائمًا، وأن هناك قيمة في عيش الحياة التي تبحث في وجهات نظر مختلفة”. في الوقت نفسه، يقر الباحثان بأنه قد تكون هناك عوامل أخرى يجب مراعاتها خارج هذه الجوانب الثلاثة الرئيسة، على سبيل المثال، التعلم أو الإبداع أو الاهتمام بالآخرين.
بعيدًا عن مساعي الحياة السعيدة (hedonic) والحياة الهادفة (eudaimonic)، الثنائيَّة التي طرحها أرسطو، يمكن للحياة الغنية نفسيًا أن تقدم طريقة أخرى لتقييم ما إذا كنا نستفيد من أيامنا إلى أقصى حد، ونعمل على إيجاد طرق لذلك في حال رغبنا في تغيير حياتنا للأفضل. يشدد الباحثان: “ينقلنا هذا العمل معًا، إلى ما وراء ثنائية السعادة مقابل جودة الحياة، ويضع الأساس لدراسة الثراء النفسي كبعد آخر للحياة الجيدة”.
في دفاعه عن “الحياة الغنية نفسيَّا”، يقول سكوت هوفمان: “قد تصير كلتا الحياتين، الحياة السعيدة والحياة ذات المغزى، رتيبة الإيقاع ومتكررة الأحداث، فقد يشعر شخص متزوج ولديه أطفال ويعمل في وظيفة مكتبية ثابتة برضًى عن حياته بشكل عام ويجد جوانبًا كثيرةً منها ذات مغزى، ورغم ذلك يشعر أيضًا بالملل الشديد. أما الحياة الثريَّة نفسيًّا فلا تشتمل بالضرورة على الثراء الاقتصادي”. فعلى سبيل المثال، تأمل شخصية جولدموند -للروائي هرمان هيسه- الذي لم يكن لديه مال، ورغم ذلك سعى إلى عيش حياة رحالة حُر طليق”.[7]
وفي إشارة إلى أبحاث شوجي أوشي ورفاقه وغيرهم، يؤكد هوفمان أنها قد كشفت “أن الثراء النفسي مرتبط بكلا نوعي الحياة: الحياة السعيدة والحياة ذات المغزى، إلا أنه يختلف عنهما جزئيًّا. فالثراء النفسي مرتبط ارتباطًا أقوى وأوثق صلةً بكثير بسمة الفضول، والانفتاح على التجارب، وخوض المشاعر الإيجابية والسلبية على حدٍّ سواء وبصورة مكثفة أكثر”.
ولكنه يستدرك بالقول: “هل الحياة الثرية نفسيًّا هي النوعية التي يرغب الناس في عيشها فعلًا؟ ولعل باستدراكه هذا يستحضر قول مارتن بوبر، الذي بدأ به مقاله: “أنا لا أقبل أية أنماط مطلقة لعيش الحياة. فليس ثمة نظام مسبق يمكنه التنبؤ بكل ما قد يحدث في حياة الإنسان. فبينما نعيش حياتنا، نزداد حكمةً وتتغير رؤانا، ولا بد لها أن تتغير. لذا، أرى أنه ينبغي علينا التعايُش مع هذا الاستكشاف المستمر. وينبغي أن نكون منفتحين على هذه المغامرة بوعي متزايد بالحياة. ينبغي أن نرهن وجودنا بأكمله برغبتنا في الاستكشاف وخوض التجربة”.
___
الهوامش:
[1] في مقال بعنوان “دفاعًا عن الحياة الثرية نفسيًّا”، يعرفها سكوت باري كوفمان (2020) بأنها “حياة تنطوي على مشاركة فكرية معقدة، ومجموعة كبيرة من المشاعر المكثفة والعميقة، وتجارب متنوعة ومبتكرة ومثيرة”. ويستدرك: “أحيانًا تكون هذه التجارب ممتعة، وأحيانًا أخرى تكون ذات مغزى، وأحيانًا لا هذا ولا ذاك. ورغم ذلك، نادرًا ما تكون مملةً أو رتيبة”.
https://www.scientificamerican.com/arabic/articles/features/in-defense-of-the-psychologically-rich-life/
[2] الجدير بالذكر أن في الأدبيات الإسلامية، من حديث ورواية وحَكِم “أن الغنى غنى النفس”. قد يبدو للوهلة الأولى اتفاق معنى هذه العبارة مع “الثراء النفسي”، ولكنها مناسبة للجري وراء المال والحث على القناعة والرضا بما قسم الله للإنسان، أمَّا مفوم الثراء النفسي، فهو رؤية شاملة للحياة، وبما وراء السعادة والمعنى (انظر هامش [3] أدناه).
[3] عنوان الدراسة ومكان النشر: “حياة غنية نفسيًّا: ما وراء السعادة والمعنى”. مجلة مراجعات نفسية، نسخة متقدمة عبر الإنترنت). Oishi, S., & Westgate, E. C. (2021). A psychologically rich life: Beyond happiness and meaning. Psychological Review. Advance Online Publication. https://doi.org/10.1037/rev0000317
[4] في بحث بعنوان “السعادة والمعنى والثراء النفسي”، تسائل الباحثان مع آخرين: ما نوع الحياة التي يريدها الناس؟ فقاما بعمل دراستين في محاولة للإجابة عن هذا السؤال. في الدراسة الأولى (دراسة 9 دول مختلفة الثقافات)، سألنا المشاركين عما إذا كانوا يريدون بشكل مثالي حياة سعيدة، أو ذات مغزى، أو غنية نفسيًا. اختار ما يقرب من 7 إلى 17٪ من المشاركين الحياة النفسية الغنية. في الدراسة الثانية، سألنا 1611 أمريكيًا و 680 كوريًا عن أكثر الأشياء التي يندمون عليها في حياتهم؛ ثم، عن إذا ما تمكنوا من التراجع عن الحدث المؤسف أو عكسه، سواء كانت حياتهم ستكون أكثر سعادة أو معنى أو أكثر ثراءً من الناحية النفسية نتيجة لذلك. أفاد ما يقرب من 28٪ من الأمريكيين و 35٪ من الكوريين أن حياتهم كانت ستكون أكثر ثراءً من الناحية النفسية. يوفر هذان العملان معًا أساسًا لدراسة الثراء النفسي كبعد آخر للحياة الجيدة. يقترح الباحثان، بناءً على النتائج وتحليلها: أن الثراء النفسي هو جانب آخر مهمل لما يعتبره الناس حياة جيدة.
Shigehiro Oishi, et. al., (2020), Happiness, Meaning, and Psychological Richness, https://link.springer.com/article/10.1007/s42761-020-00011-z
[5] هذه الاستطلاعات (وعددها أربعة) ونتائجها نشرت في ورقة بحث مستقلة بعنوان: “استبيان الحياة الثرية نفسيا”. في الدراسة الأولى، قاما بتوزيع استبانة أولى لعينة من الطلاب، واختبرا استقرار الاختبار وإعادة الاختبار لمدة أسبوعين، والصلاحية المتقاربة باستخدام تقارير المخبر. ولقد أجربا مزيدًا من الاختبارات لهيكل عامل المقياس، وارتباطاته بالشخصية والمتغيرات الديموغرافية، وإمكانية تعميم مقياس الثراء النفسي هذا في عينة أمريكية غير طلابية (الدراسة 2)، وهي عينة احتمالية تمثيلية على المستوى الوطني من الأمريكيين (الدراسة 3) وعينة من الهند (دراسة 4). في جميع الدراسات الأربع، تم التنبؤ بحياة غنية نفسيًا من خلال الانفتاح على التجربة، والانبساط، وانخفاض مستويات العصابية.
The psychologically rich life questionnaire: Journal of Research in Personality, Volume 81, August 2019, Pages 257-270.
[6] نشرت للمرة الأولى على حلقات في جريدة “العرض الصغير” (The Little Review) الأمريكية بين شهري مارس 1918 وديسمبر 1920، ثم نشرت في باريس ككتاب في 2 فبراير 1922. نُشرت أول ترجمة عربية للرواية في الذكرى المئوية لمولد جويس عام 1982م قام بها الدكتور طه محمود طه (أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة عين شمس) في طبعتها الأولى المركز العربي للبحث والنشر، ثم نُشرت طبعة ثانية منقحة عن الدار العربية عام 1994، كما ترجمها الشاعر والمترجم العراقي صلاح نيازي ترجمة جديدة صدر جزؤها الأول مزودًا بشروح وافية عن دار المدى للثقافة والنشر في دمشق في عام 2001. دار حول الرواية جدل كثير وانتقادات منذ نشرها، وقد حُظِرت لفترة لاتهامها بالإباحية.
[7] هو شخصية في رواية الروائي الألماني بعنوان (Narcissus and Goldmund) (بالألمانية: Narziß und Goldmund)؛ نُشرت لأول مرة في عام 1930 وفي 1932 ترجمت إلى اللغة الإنجليزية ونشرت بعنوان “الموت والعشيق” (Death and the Lover)، وفي عام 1994، تم ترشيح ترجمة جديدة كتبتها الكندية ليلى فينيويتز (Leila Vennewitz) لجائزة شليغل-تيك.